islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح البغوى
11952

13-الرعد

المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

1- مكية إلا قوله: "ولا يزال الذين كفروا"، وقوله: "ويقول الذين كفروا لست مرسلاً"، وهي ثلاث وأربعون آية. "المر" قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى، "تلك آيات الكتاب"، يعني: تلك الأخبار التي قصصتها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، "والذي أنزل إليك"، يعني: وهذا القرآن الذي أنزل إليك، "من ربك الحق"، أي: هو الحق فاعتصم به. فيكون محل "الذي" رفعا على الابتداء، و"الحق" خبره. وقيل: محله خفض، يعني: تلك آيات الكتاب وآيات الذي أنزل إليك، ثم ابتدأ: "الحق"، يعني: ذلك الحق. وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن، ومعناه: هذه آيات الكتاب، يعني القرآن، ثم قال: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق. "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون"، قال مقاتل: نزلت في مشركي مكة حين قالوا: إن محمدا يقوله من تلقاء نفسه، فرد قولهم ثم بين دلائل ربوبيته، فقال عز من قائل:

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ

2- "الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها"، يعني: السواري، واحدها عمود، مثل: أديم وأدم، وعمد أيضا جمعه، مثل: رسول ورسل. ومعناه نفي العمد أصلا، وهو الأصح، يعني: ليس من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها. قال إياس بن معاوية: السماء مقببة على الأرض مثل القبة. وقيل: "ترونها" راجعة إلى العمد، معناه: لها عمد ولكن لا ترونها. وزعم: أن عمدها جبل قاف، وهو محيط بالدنيا، والسماء عليه مثل القبة. "ثم استوى على العرش"، علا عليه، "وسخر الشمس والقمر"، ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران، "كل يجري"، أي: يجريان على ما يريد الله عز وجل، "لأجل مسمى"، أي: إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتها ومنازلها ينتهيان إليها لا يجاوزانها، "يدبر الأمر"، يقضيه وحده، "يفصل الآيات"، يبين الدلالات، "لعلكم بلقاء ربكم توقنون"، لكي توقنوا بوعده وتصدقوه.

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

3- "وهو الذي مد الأرض"، بسطها، "وجعل فيها رواسي"، جبالا ثابتة، واحدتها: راسية، قال ابن عباس: كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض، "وأنهاراً"، وجعل فيها أنهارا. "ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين"، أي: صنفين اثنين أحمر وأصفر، وحلوا وحامضا، " يغشي الليل النهار "، أي: يلبس النهار بظلمة الليل، ويلبس الليل بضوء النهار، "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"، فيستدلون. والتفكر: تصرف القلب في طلب معاني الأشياء.

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

4- " وفي الأرض قطع متجاورات "، متقاربات يقرب بعضها من بعض، وهي مختلفة: هذه طيبة تنبت، وهذه سبخة لا تنبت، وهذه قليلة الريع، وهذه كثيرة الريع، "وجنات": بساتين، "من أعناب وزرع ونخيل صنوان"، رفعها كلها ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب، عطفا على الجنات، وجرها الآخرون نسقا على الأعناب. والصنوان: جمع صنو، وهو النخلات يجمعهن أصل واحد. "وغير صنوان"، هي النخلة المنفردة بأصلها. وقال أهل التفسير: صنوان: مجتمع، وغير صنوان: متفرق. نظيره من الكلام: قنوان جمع قنو. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في العباس: "عم الرجل صنو أبيه". ولا فرق في الصنوان والقنوان بين التثنية والجمع إلا في الإعراب، وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة، وفي الجمع منونة. "يسقى بماء واحد"، قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب "يسقى" بالياء أي يسقى ذلك كله لماء واحد، وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى: "وجنات" ولقوله تعالى من بعد "بعضها على بعض"، ولم يقل بعضه. والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام. "ونفضل بعضها على بعض في الأكل"، في الثمر والطعم. قرأ حمزة والكسائي " ونفضل " بالياء، لقوله تعالى: "يدبر الأمر يفصل الآيات" (الرعد-2). وقرا الآخرون بالنون على معنى: ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل، وجاء في الحديث في قوله:" "ونفضل بعضها على بعض في الأكل"، قال: الفارسي، والدقل، والحلو، والحامض". قال مجاهد: كمثل بني آدم، صالحهم وخبيثهم، وأبوهم واحد. قال الحسن: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم، يقول: كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن عز وجل، فسطحها، فصارت قطعا متجاورة، فينزل عليها المطر من السماء، فتخرج هذه زهرتها، وشجرها وثمرها ونباتها، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها، وكل يسقى لماء واحد، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع، وتقسو قلوب فتلهو. قال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً" (الإسراء-82). "إن في ذلك" الذي ذكرت "لآيات لقوم يعقلون".

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

5- "وإن تعجب فعجب قولهم"، العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه: إنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عز وجل فعجب أمرهم. وكان من المشركون ينكرون البعث، مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب. وقيل: معناه: وإن تعجب من تكذيب المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها وهم قد رأوا من قدرة الله تعالى ما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم، أي: فتعجب أيضا من قولهم: " أإذا كنا ترابا "، بعد الموت، " أإنا لفي خلق جديد "، أي: نعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت. قرأ نافع والكسائي ويعقوب " أإذا " مستفهما "إنا" بتركه، على الخبر، ضده: أبو جعفر وابن عامر. وكذلك في "سبحان" في موضعين، والمؤمنون، والم السجدة، وقرأ الباقون بالاستفهام فيهما وفي/ الصافات في موضعين هكذا إلا إن أبا جعفر يوافق نافعا في أول الصافات فيقدم الاستفهام ويعقوب لا يستفهم الثانية " أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون " (الصافات-53). قال الله تعالى: "أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم"، يوم القيامة "وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ

6- قوله عز وجل: "ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة"، الاستعجال: طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته، والسيئة هاهنا هي: العقوبة، والحسنة: العافية. وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " (الأنفال-32). "وقد خلت من قبلهم المثلات"، أي: مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها العقوبات. والمثلات جمع المثلة بفتح الميم وضم الثاء، مثل: صدقة وصدقات. "وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب".

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ

7- "ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه"، أي: على محمد صلى الله عليه وسلم "آية من ربه"، أي: علامة وحجة على نبوته، قال الله تعالى: "إنما أنت منذر"، مخوف، "ولكل قوم هاد"، أي لكل قوم نبي يدعوهم إلى الله تعالى. وقال الكلبي: داع يدعوهم إلى الحق أو إلى الضلالة. وقال عكرمة: الهادي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: إنما أنت منذر وأنت هاد لكل قوم، أي: داع. وقال سعيد بن جبير: الهادي هو الله تعالى.

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ

8- قوله تعالى: "الله يعلم ما تحمل كل أنثى"، من ذكر أو أنثى، سوي الخلق أو ناقص الخلق، واحدا أو اثنين أو أكثر "وما تغيض الأرحام"، أي ما تنقص "وما تزداد". قال أهل التفسير: غيض الأرحام: الحيض على الحمل، فإذا خاضت الحامل كان نقصانا في الولد، لأن دم الحيض غذاء الولد في الرحم، فإذا أهرقت الدم ينقص الغذاء فينتقص الولد، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم، فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم، والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم. وقيل: إذا حاضت ينتقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر ظاهرا، فإن رأت خمسة أيام دما وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام، فالنقصان في الغذاء، والزيادة في المدة. وقال الحسن: غيضها: نقصانها من تسعة أشهر، والزيادة: زيادتها على تسعة أشهر. وقيل النقصان: السقط، والزيادة: تمام الخلق. وأقل مدة الحمل: ستة أشهر، فقد يولد المولود لهذه المدة ويعيش. واختلفوا في أكثرها: فقال قوم: أكثرها سنتان، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وذهب جماعة إلى أن أكثرها أربع سنين، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله، قال حماد بن سلمة. إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. "وكل شيء عنده بمقدار"، أي: بتقدير وحد لا يجاوزه ولا يقصر عنه.

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ

9- "عالم الغيب والشهادة الكبير"، الذي كل شيء دونه، "المتعال"، المستعلي على كل شيء بقدرته.

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ

10- قوله تعالى: "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به"، أي: يستوي في علم الله المسير بالقول والجاهر به، "ومن هو مستخف بالليل"، أي: مستتر بظلمة الليل، "وسارب بالنهار"، أي: ذاهب في سربه ظاهر. والسرب -بفتح السين وسكون الراء-: الطريق. قال القتيبي: سارب بالنهار: أي متصرف في حوائجه. قال ابن عباس في هذه الآية: هو صاحب ريبة، مستخف بالليل، فإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم. وقيل: مستخف بالليل، أي: ظاهر، من قولهم: خفيت الشيء، إذا أظهرته، وأخفيته: إذا كتمته. وسارب بالنهار: أي متوار داخل في سرب.

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِ

11- "له معقبات"، أي: لله تعالى ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النهار جاء في عقبها ملائكة الليل. والتعقيب: العود بعد البدء، وإنما ذكر بلفظ التأنيث لأن واحدها معقب، وجمعه معقبة، ثم جمع الجمع معقبات، كما قيل: ابناوات سعد ورجالات بكر. أخرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصالة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون". قوله تعالى: "من بين يديه ومن خلفه"،يعني: من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار، ومن خلفه: من وراء ظهره، "يحفظونه من أمر الله"، يعني: بأمر الله، أي: يحفظونه بإذن الله تعالى ما لم يجيء المقدور، فإذا جاء المقدور خلوا عنه. وقيل: يحفظونه من أمر الله: أي مما أمر الله به من الحفظ عنه. قال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك موكل به، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال ورءك! إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه. قال كعب الأحبار: لولا أن الله عز وجل وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفكم الجن. وقال عكرمة: الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونه من بين أيديهم ومن خلفهم. وقيل: الآية في الملكين القاعدين عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات، كما قال الله تعالى: "إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد" (ق-17). قال ابن جريج: معنى يحفظونه أي: يحفظون عليه أعماله من أمر الله، يعني: الحسنات والسيئات. وقيل: الهاء في قوله "له": راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: روى جؤيبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: له معقبات يعني لمحمد صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، يعني: من شر الجن وطوارق الليل والنهار. وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآيات في عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة، وكانت قصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة، وهما عامريان، يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور وكان من أجل الناس. فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك، فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا يهده. فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد مالي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين. قال: تجعل لي الأمر بعدك. قال: ليس ذلك إلي، إنما ذلك إلى الله عز وجل، يجعله حيث يشاء. قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر، قال: لا. قال: فلماذا تجعل لي؟. قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال: أو ليس ذلك إلى اليوم؟ قم معي أكلمك. فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار أربد من خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا، ثم حبسه الله تعالى عنه، فلم يقدر على سله، وجعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما صنع بسيفه، فقال: اللهم أكفنيهما بما شئت. فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته، وولى عامر هاربا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله تعالى من ذلك، وأبناء قيلة يريد: الأوس والخزرج. فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضم عليه سلاحه وقد تغير لونه، فجعل يركض في الصحراء، ويقول: ابرز يا ملك الموت، ويقول الشعر، ويقول واللات والعزى لئن أبصرت محمدا وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنهما برمحي، فأرسل الله إليه ملكا فلطمه بجناحه فأرداه في التراب وخرجت على ركبتيه في الوقت غدة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية. ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل عامر بن الطفيل بالطعن وأربد بالصاعقة، وأنزل الله عز وجل في هذه القصة قوله: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه "، يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله. يعني تلك المعقبات من أمر الله، وفيه تقديم وتأخير. وقال لهذين: "إن الله لا يغير ما بقوم"، من العافية والنعمة، "حتى يغيروا ما بأنفسهم". من الحال الجميلة فيعصوا ربهم. "وإذا أراد الله بقوم سوءاً"، أي: عذابا وهلاكا "فلا مرد له" أي: لا راد له "وما لهم من دونه من وال"، أي: ملجأ يلجؤون إليه. وقيل: وال يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ

12- قوله عز وجل: " هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا "، قيل: خوفا من الصاعقة، طمعا في نفع المطر. وقيل: الخوف للمسافر، يخاف منه الأذى والمشقة والطمع للمقيم يرجو منه البركة والمنفعة. وقيل: الخوف من المطر في غير مكانه وإبانه، والطمع إذا كان في مكانه وإبانه، ومن البلدان ما إذا أمطروا وقحطوا وإذا لم يمطروا أخصبوأ. "وينشئ السحاب الثقال"، بالمطر. يقال: أنشأ الله السحابة فنشأت أي: أبداها فبدت، والسحاب جمع، واحدتها سحابة، قال علي رضي الله عنه: السحاب غربال الماء.

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ

13- "ويسبح الرعد بحمده"، أكثر المفسرين على أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب، والصوت المسموع منه تسبيحه. قال ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته صاعقة فعلي ديته. وعن عبد الله بن الزبير: أنه كان إذا سمع صوت الرعد لأهل الأرض شديد. وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى: "لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل، ولأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد" وقال جرير عن الضحاك عن ابن عباس: الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر، وأن بحور الماء في نقرة إبهامه، وأنه يسبح الله تعالى، فإذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. "والملائكة من خيفته"، أي: تسبح الملائكة من خيفة الله عز وجل وخشيته. وقيل أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد، جعل الله تعالى له أعوانا، فهم خائفون خاضعون طائعون. قوله تعالى: "ويرسل الصواعق"، جمع صاعقة، وهي: العذاب المهلك، ينزل من البرق فيحرق من يصيبه، "فيصيب بها من يشاء"، كما أصاب أربد بن ربيعة. وقال محمد بن علي الباقر: الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر. "وهم يجادلون"، يخاصمون، "في الله"، نزلت في شأن أربد بن ربيعة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم مم ربك أمن در أم من ياقوت أم من ذهب؟ فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته. وسئل الحسن عن قوله عز وجل: "ويرسل الصواعق" الآية، قال: كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله وإلى رسوله. فقال لهم: أخبروني عن رب محمد هذا الذى تدعونني إليه مم هو؟ من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه! فانصرفوا وقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث. فقال ارجعوا إليه، فرجعوا، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه، وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة، فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وبرقت، ورمت بصاعقة، فاحترق الكافر، وهم جلوس، فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم: احترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمتم فقالوا أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله". "وهو شديد المحال"، قال علي رضي الله عنه: شديد الأخذ. وقال ابن عباس: شديد الحول. وقال الحسن: شديدالحقد وقال مجاهد: شديد القوة. وقال أبو عبيدة: شديد العقوبة. وقيل: شديد المكر. والمحال والمماحلة: المماكرة والمغالبة.

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ

14- "له دعوة الحق"، أي: لله دعوة الصدق. قال علي رضي الله عنه: دعوة الحق التوحيد. وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الدعاء بالإخلاص، والدعاء الخالص لا يكون إلا لله عز وجل. "والذين يدعون من دونه"، أي: يعبدون الأصنام من دون الله تعالى. "لا يستجيبون لهم بشيء"، أي: لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضر، "إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه"، أي: إلا كباسط كفيه ليقبض على الماء والقابض على الماء لا يكون في يده شيء، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء، كذلك الذى يدعو الأصنام، وهي لا تضر ولا تنفع، لا يكون بيده شيء. وقيل: معناه كالرجل العطشان الذى يرى الماء من بعيد، فهو يشير بكفه إلى الماء، ويدعوه بلسانه، فلا يأتيه أبدا، هذا معنى قول مجاهد. ومثله عن علي و عطاء: كالعطشان الجالس على شفير البئر، يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر إلى الماء، ولا يرتفع إليه الماء، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء ودعاؤه له، ولا هو يبلغ فاه كذلك الذين يدعون الأصنام لا ينفعهم دعاؤهم، وهي لا تقدر على شيء. وعن ابن عباس: كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء، ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسطا كفيه. وهو مثل ضربه لخيبة الكفار. "وما دعاء الكافرين"، أصنامهم، "إلا في ضلال"، يضل عنهم إذا احتاجوا إليه، كما قال: "وضل عنهم ما كانوا يفترون" ( الأنعام-24 وغيرها). وقال الضحاك عن ابن عباس: وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ

15- قوله عز وجل: "ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً"، يعني: الملائكة والمؤمنين، "وكرهاً"، يعني: المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسيف. "وظلالهم"، يعني: ظلال الساجدين طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره. "بالغدو والآصال"، يعني إذا سجد الغدو أو العشي يسجد معه ظله. "والآصال": جمع الأصل، و الأصل جمع الأصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس. وقيل: ظلالهم أي: أشخاصهم بالغدو والآصال: بالبكر والعشايا. وقيل: سجود الظل تذليله لما أريد له.

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا

16- قوله تعالى: "قل من رب السموات والأرض"، أي: خالقهما ومدبرهما فسيقولون الله، لأنهم يقرون بأن الله خالقهم وخالق السموات والأرض، فإذا أجابوك فقل أنت أيضا يا محمد: الله. وروي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت، فأمره الله عز وجل فقال: "قل الله"، ثم قال الله لهم إلزاما للحجة: "قل أفاتخذتم من دونه أولياء"، معناه: إنكم مع إقراركم بأن الله خالق السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء فعبدتموها من دون الله، يعني: الأصنام، وهم "لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً"، فكيف يملكون لكم؟ ثم ضرب لهم مثلا فقال: "قل هل يستوي الأعمى والبصير"، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، "أم هل تستوي"، قرأ حمزة و الكسائي وأبو بكر "يستوي" بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء لأنه لا حائل بين الاسم والفعل المؤنث. " الظلمات والنور "، أي: كما لا يستوي الظلمات والنور لا يستوي الكفر والإيمان. "أم جعلوا"، أي: جعلوا، "لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم"، أي: اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله تعالى فلا يدرون ما خلق الله وما خلق آلهتم. "قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار". ثم ضرب الله تعالى مثلين للحق والباطل، فقال عز وجل:

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزّ

17- "أنزل" يعني: الله عز وجل، "من السماء ماءً"، يعني المطر، "فسالت" من ذلك الماء، "أودية بقدرها"، أي: في الصغر والكبر، "فاحتمل السيل"الذي حدث من ذلك الماء، "زبداً رابياً"، الزبد: الخبث الذى يظهر على وجه الماء، وكذلك على وجه القدر، ‌"رابياً" أي عاليا مرتفعا فوق الماء فالماء الصافي الباقي هو الحق، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية هو الباطل. وقيل: قوله "أنزل من السماء ماءً" هذا مثل للقرآن، والأودية مثل للقلوب، يريد: ينزل القرآن، فتحمل منه القلوب على قدر اليقين والعقل والشك والجهل. فهذا أحد المثلين. والمثل الآخر: قوله عز وجل: "ومما يوقدون عليه في النار". قرأ حمزة و الكسائي وحفص "يوقدون" بالياء لقوله تعالى: "ما ينفع الناس"، ولا مخاطبة هاهنا. وقرا الآخرون بالتاء" ومما يوقدون "، أي: ومن الذي توقدون عليه في النار. والإيقاد: جعل النار تحت الشيء ليذوب. "ابتغاء حلية"، أي: لطلب زينة، وأراد الذهب والفضة، لأن الحلية نطلب منهما، "أو متاع" أي: طلب متاع وهو ما ينتفع به، وذلك مثل الحديد، والنحاس، والرصاص، والصفر، تذاب فيتخذ منها الأواني وغيرها مما ينتفع بها، " زبد مثله ". "كذلك يضرب الله الحق والباطل"، أي: إذا أذيب فله أيضا زيد مثل زبد الماء، فالباقي الصافي من هذه الجواهر مثل الحق، والزبد الذي لا ينتفع به مثل الباطل. "فأما الزبد"، الذي علا السيل والفلز، "فيذهب جفاءً" أي: ضائعا باطلا، والجفاء ما رمى به الوادي من الزبد، والقدر إلى جنباته. يقال: جفا الوادي وأجفا: إذا ألقى غثاءه، وأجفأت القدر وجفأت: إذا غلت وألقت زبدها، فإذا سكت لم يبق فيها شيء. معناه: إن الباطل وإن علا في وقت فإنه يضمحل. وقيل: "جفاءً" أي: متفرقا، يقال: جفأت الريح الغيم إذا فرقته وذهبت به. "وأما ما ينفع الناس"، يعني: الماء والفلز من الذهب والفضة والصفر والنحاس، "فيمكث في الأرض"، أي: يبقى ولا يذهب. "كذلك يضرب الله الأمثال"، جعل الله تعالى هذا مثلا للحق والباطل، أي: أن الباطل كالزبد يذهب ويضيع، والحق كالماء والفلز يبقى في القلوب. وقيل: هذا تسلية للمؤمنين، يعني: أن أمر المشركين كالزبد يرى في الصورة شيئا وليس له حقيقة، وأمر المؤمنين كالماء المستقر في مكانه له البقاء والثبات.

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ

18- قوله تعالى: "للذين استجابوا لربهم"، أجابوا، لربهم، فأطاعوه، "الحسنى" الجنة، "والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به"، أي: لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداء من النار، "أولئك لهم سوء الحساب". قال إبراهيم النخعي: سوء الحساب: أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له من شيء / "ومأواهم" في الآخرة "جهنم وبئس المهاد"، الفراش، أي: بئس ما مهد لهم.

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ

19- قوله تعالى: " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق "، فيؤمن به ويعمل بما فيه، "كمن هو أعمى"، عنه لا يعلمه ولا يعمل به. قيل: نزلت في حمزة وأبي جهل. وقيل: في عمار وأبي جهل. فالأول حمزة أو عمار والثاني أبو جهل، وهو الأعمى. أي: لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصره ولا يتبعه "إنما يتذكر" يتعظ، " أولو الألباب "، ذوو العقول.

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ

20- "الذين يوفون بعهد الله"، بما أمرهم الله تعالى به وفرضه عليهم فلا يخالفونه، "ولا ينقضون الميثاق"، وقيل: أراد العهد الذى أخذه على ذرية آدم عليه السلام حين أخرجهم من صلبه.

وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ

21- "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل"، قيل: أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يفرقون بينهما. والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة أن عبد الرحمن بن عوف عاد أبا الدرداء فقال - يعني عبد الرحمن-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فيما يحكي عن ربه عز وجل:أنا الله، وأنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها من اسمي اسما، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته ". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، حدثني حميد ابن زبجويه، حدثنا ابن أبي أويس، قال: حدثني سليمان بن بلال عن معاوية بن أبي مزرد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمن، فقال: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يارب، قال: فذلك لك"، ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " (محمد-22). أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أبو منصور السمعاني، أنبأنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد ابن زنجويه، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا كثير بن عبد الله اليشكري، حدثنا الحسن بن عبد الرحمن ابن عوف عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة تحت العرش يوم القيامة: القرآن يحاج العباد، له ظهر وبطن، والأمانة، والرحم تنادى ألا من وصلني وصلة الله ومن قطعني قطعه الله". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد ابن زنجويه، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، حدثني عقيل عن ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز البغوي، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي يحدث عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم". أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، أخبرنا أحمد بن منصور الزيادي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قاطع". أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، حدثنا أحمد بن إسحاق الصيدلاني، أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد بن نصر، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا عمرو بن عثمان قال. سمعت موسى بن طلحة يذكر عن ابي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، "أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له فقال: أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال صلى الله عليه وسلم: تعبد الله، لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصل الرحم". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد ابن زنجويه حدثنا أبو يعلى وأبو نعيم قالا: حدثنا قطر، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذى إذا قطعت رحمه وصلها"، رواه محمد بن إسماعيل عن محمد بن كثير عن سفيان عن قطر وقال: إذا قطعت رحمة وصلها. قوله تعالى: "ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب".

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ

22- "والذين صبروا"، على طاعة الله، وقال ابن عباس: على أمر الله عز وجل. وقال عطاء: على المصائب والنوائب، وقيل: عن الشهوات. وقيل: عن المعاصى. "ابتغاء وجه ربهم"، طلب تعظيمه أن يخالفوه. "وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً"، يعني يؤدون الزكاة. "ويدرؤون بالحسنة السيئة"، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل، وهو معنى قوله: "إن الحسنات يذهبن السيئات" (هود-114). وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها، السر بالسر والعلانية بالعلانية". أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنبأنا عبد الله بن محمود، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثنا أبو الخير، أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته، ثم عمل حسنة، فانفكت عنه حلقة، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى، حتى يخرج إلى الأرض". وقال ابن كيسان: معنى الآية: يدفعون الذنب بالتوبة. وقيل: لا يكافئون الشر بالشر، ولكن يدفعون الشر بالخير. وقال القتيبي: معناه: إذا سفه عليهم حلموا، فالسفه: السيئة، والحلم: الحسنة. وقال قتادة: ردوا عليهم معروفا، نظيره قوله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" (الفرقان-63). وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا. قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة. " أولئك لهم عقبى الدار "، يعني الجنة، أي: عاقبتهم دار الثواب. ثم بين ذلك فقال:

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ

23-"جنات عدن"، بساتين إقامة "يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب"، قيل: من أبواب الجنة. وقيل: من أبواب القصور.

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ

24- "سلام عليكم"، أي: يقولون سلام عليكم. قال مقاتل: سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافون منها. قال مقاتل: يدخلون علهم في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا الثلاث كرات معهم الهدايا والتحف من الله عز وجلن يقولون سلام عليكم، " بما صبرتم فنعم عقبى الدار ". أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن بقية بن الوليد، حدثني أرطاه بن المنذر قال: سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سماطان من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوب. فيقبل ملك من ملائكة الله يستأذن، فيقوم أقصى الخدم إلى الباب، فإذا هو بالملك يستأذن، فيقول للذي يليه: ملك يستأذن ويقول الذي يليه للذي يليه ملك يستأذن كذلك حتى يبلغ المؤمن، فيقول: ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن: أئذنوا له، ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا له كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له فيدخل، فيسلم ثم ينصرف.

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ

25- "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه"، هذا في الكفار. "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل"، أي: يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض. وقيل: يقطعون الرحم، "ويفسدون في الأرض"، أي: يعملون بالمعاصي، "أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار"، يعني: النار، وقيل: سوء المنقلب لأن منقلب الناس دورهم.

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ

26- قوله عز وجل: "الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر"، أي: يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء. "وفرحوا بالحياة الدنيا"، يعني: مشركي مكة أشروا وبطروا، والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهي، وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام. "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" أي: قليل ذاهب. قال الكلبي: كمثل السكرجة والقصعة والقدح والقدر ينتفع بها ثم تذهب.

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ

27- "ويقول الذين كفروا"، من أهل مكة، "لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب" أي: يهدي إليه من يشاء بالإنابة. وقيل: يرشد إلى دينه من يرجع إليه بقلبه.

الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ

28- "الذين آمنوا"، في محل النصب، بدل من قوله: "من أناب"، "وتطمئن"، تسكن، "قلوبهم بذكر الله"، قال مقاتل: بالقرآن، والسكون يكون باليقين، والاضطراب يكون بالشك، "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيها اليقين. قال ابن عباس: هذا في الحلف، يقول: إذا حلف المسلم بالله على شيء تسكن قلوب المؤمنين إليه. فإن قيل: أليس قد قال الله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" (الأنفال-2)، فكيف تكون الطمأنينة والوجل في حالة واحدة؟ قيل: الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب، والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب، فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وثوابه وكرمه.

الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ

29- "الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، ابتداء، "طوبى لهم" خبره. واختلفوا في تفسير "طوبى". روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: فرح لهم وقرة عين. وقال عكرمة: نعم مالهم. وقال قتادة: حسنى لهم. وقال معمر عن قتادة: هذه كلمة عربية، يقول الرجل للرجل: طوبى لك أي أصبت خيرا. وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة. وقال الفراء: أصله من الطيب، والواو فيه لضمة الطاء، وفيه لغتان، تقول العرب: طوباك وطوبى لك أي لهم الطيب. "وحسن مآب" أي: حسن المنقلب. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: طوبى اسم الجنة بالحبشية. قال الربيع: هو البستان بلغة الهند. وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة أبي الدرداء قالوا: طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها. وقال عبيد بن عمير. هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلا وفيها منها إلا السواد، ولم يخلق الله تعالى فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها. تنبع من أصلها عينان: الكافور والسلسبيل. قال مقاتل: لك ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله عز وجل بأنواع التسبيح. وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه: "طوبى شجرة غرسها الله تعالى بيده، ونفخ فيها من روحه، تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة". أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زياد مولى بني مخزوم، أنه سمع أبيا هريرة رضي الله عنه يقول: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، اقرؤوا إن شئتم: "وظل ممدود" (الواقعة-30) فبلغ ذلك كعبا فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما، إن الله تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة، ما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن الأشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: في الجنة شجرة يقال لها طوبى، يقول الله عز وجل لها: تفتقي لعبدي عما شاء فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء، يفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء وعن الثياب.

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ

30- قوله عز ورجل "كذلك أرسلناك في أمة": كما أرسلنا الأنبياء إلى الأمم أرسلناك إلى هذه الأمة، "قد خلت"، مضت، " من قبلها أمم لتتلو "، لتقرأ، "عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن". قال قتادة، ومقاتل، وابن جريج: الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن سهيل بن عمرو لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم/ لعلي رضي الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة -يعنون مسيلمة الكذاب- اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم، فهذا معنى قوله: "وهم يكفرون بالرحمن". والمعروف أن الآية مكية، وسبب نزولها: أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فرجع إلى المشركين فقال: إن محمدا يدعو إلهين، يدعو الله، ويدعو إلها آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" (الإسراء-110). وروي الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اسجدوا للرحمن، قالوا: وما الرحمن؟ قال الله تعالى: "قل"، لهم يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته، "هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت"، اعتمدت "وإليه متاب"ن أي: توبتي ومرجعي.

وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَ

31- قوله عز وجل: "ولو أن قرآناً سيرت به الجبال"، الآية. نزلت في نفر من مشركي مكة، منهم أبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، جلسوا خلف الكعبة وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم، فقال له عبد الله بن أبي أمية: إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسح، فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، لنغرس فيها الأشجار ونزرع، ونتخذ البساتين، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود عليه السلام حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا، فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت، ولست بأهون على ربك من سليمان، وأحيي لنا جدك قصيا أو من شئت من آبائنا وموتانا لنسأله عن أمرك أحق ما تقول أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه فأنزل الله عز وجل: "ولو أن قرآنا سيرت به الجبال" فأذهبت عن وجه الأرض، "أو قطعت به الأرض"، أي: شققت فجعلت أنهارا وعيونا "أو كلم به الموتى" واختلفوا في جواب "لو": فقال قوم: جوابه محذوف، اكتفى بمعرفة السامعين مراده وتقديره: لكان هذا القرآن، كقول الشاعر:. ‌فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا أراد: لرددناه، وهذا معنى قول قتادة قال: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وقال آخرون: جواب لو مقدم. وتقدير الكلام: وهم يكفرون بالرحمن "ولو أن قرآناً سيرت به الجبال"، كأنه قال: لو سيرت به الجبال "أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى" لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا، لما سبق من علمنا فيهم، كما قال: "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا" (الأنعام-111) ثم قال: "بل لله الأمر جميعاً"، أي: في هذه الأشياء إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. "أفلم ييأس الذين آمنوا"، قال أكثر المفسرين: معناه أفلم يعلم. قال الكلبي: هي لغة النخع. وقيل: لغة هوازن، يدل عليه قراءة ابن عباس: أفلم يتبين الذين آمنوا. وأنكر الفراء أن يكون ذلك بمعنى العلم، وزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول: يئستن بمعنى: علمت، ولكن معنى العلم فيه مضمر. وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا فيؤمنوا فنزل: "أفلم ييأس الذين آمنوا" يعني: الصحابة رضي الله عنهم أجميعن من إيمان هؤلاء، أي لم ييأسوا علما، وكل من علم شيئا يئس من خلافه، يقول: ألم ييئسهم العلم: "أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً". "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا"، من كفرهم وأعمالهم الخبيثة "قارعة" أي: نازلة وداهية تقرعهم من أنواع البلاء، أحيانا بالجدب، وأحيانا بالسلب، وأحيانا بالقتل والأسر. وقال ابن عباس: أراد بالقارعة: السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليهم. "أو تحل"،يعني: السرية والقارعة، "قريباً من دارهم"، وقيل: أو تحل: أي تنزل أنت يا محمد بنفسك قريبا من ديارهم، "حتى يأتي وعد الله"، قيل: يوم القيامة. وقيل: الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه. "إن الله لا يخلف الميعاد"، وكان الكفار يسألون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء فأنزل الله تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم:

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ

32- "ولقد استهزئ برسل من قبلك"، كما استهزؤوا بك، "فأمليت للذين كفروا"، أمهلتهم وأطلت لهم المدة، ومنه الملوان، وهما: الليل والنهار، "ثم أخذتهم" عاقبتهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، "فكيف كان عقاب"، أي: عقابي لهم.

أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ و

33- "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت"، أي: حافظها، ورازقها، وعالم بها، ومجازيها بما عملت. وجوابه محذوف، تقديره: كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه. "وجعلوا لله شركاء قل سموهم" بينوا أسماءهم. وقيل: صفوهم ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد؟ " أم تنبئونه " أي: تخبرون الله تعالى: "بما لا يعلم في الأرض"، فإنه لم يعلم لنفسه شريكا ولا في الأرض إلها غيره، "أم بظاهر" يعني: أم تتعلقون بظاهر، "من القول"، مسموع، وهو في الحقيقة باطل لا أصل له. وقيل: بباطل من القول، قال الشاعر: وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي: زائل. "بل زين للذين كفروا مكرهم"، كيدهم. وقال مجاهد: شركهم وكذبهم على الله. "وصدوا عن السبيل"، أي: صرفوا عن الدين. قرأ أهل الكوفة ويعقوب "وصدوا" وفي حم المؤمن "وصد" بضم الصاد فيهما، وقرأ الآخرون بالفتح لقوله تعالى: "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله" (الحج-25)، وقوله "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله" (النحل-88 وغيرها). "ومن يضلل الله"، بخذلانه إياه، "فما له من هاد".

لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ

34- "لهم عذاب في الحياة الدنيا"، بالقتل والأسر، "ولعذاب الآخرة أشق"، أشد، "وما لهم من الله من واق"، مانع يمنعهم من العذاب.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ

35- قوله عز وجل: "مثل الجنة التي وعد المتقون" أي: صفة الجنة، كقوله تعالى: "ولله المثل الأعلى" (النحل-60) أي: الصفة العليا، "تجري من تحتها الأنهار"، أي: صفة الجنة التي وعد المتقون أن الأنهار تجري من تحتها. وقيل: مثل صلة مجازها " الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ". "أكلها دائم" أي: لا ينقطع ثمرها ونعيمها، "وظلها"، أي: ظلها ظليل، لا يزول، وهو رد على الجهمية حيث قالوا إن نعيم الجنة يفني. "تلك عقبى" أي: عاقبة "الذين اتقوا" يعني: الجنة، "وعقبى الكافرين النار".

وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ

36- قوله عز وجل: "والذين آتيناهم الكتاب" يعني: القرآن، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم "يفرحون بما أنزل إليك" من القرآن، "ومن الأحزاب" يعني: الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى، "من ينكر بعضه"، هذا قول مجاهد وقتادة. وقال الآخرون: كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله سبحانه وتعالى: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه"، يعني: مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله عز وجل،: "وهم بذكر الرحمن هم كافرون" (الأنبياء-36) "وهم يكفرون بالرحمن" (الرعد-30). وإنما قال بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرحمن. "قل"، يا محمد، " إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب "، أي: مرجعي.

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ

37- "وكذلك أنزلناه حكماً عربياً"، يقول: كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد، فأنكره الأحزاب، كذلك أنزلنا الحكم والدين عربيا.نسب إلى العرب لأنه نزل باغتهم فكذب به الأحزاب. وقيل: نظم الآية: كما أنزلت الكتب على الرسل بلغاتهم، فكذلك أنزلنا عليك الكتاب حكما عربيا. "ولئن اتبعت أهواءهم"، في الملة. وقيل: في القبلة، " بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق "، يعني: من ناصر ولا حافظ.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ

38- قوله تعالى: "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك"، روي أن اليهود، -وقيل: إن المشركين- قالوا: إن هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء فأنزل الله تعالى: "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذريةً"، وما جعلناهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون. "وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله"، هذا جواب عبد الله بن أبي أمية. ثم قال: "لكل أجل كتاب"، يقول لكل أمر قضاه الله كتاب قد كتبه فيه ووقت يقع فيه. وقيل: لكل آجل أجله الله كتاب أثبت فيه. وقيل فيه تقديم وتأخير، تقديره: أي، لكل كتاب أجل ومدة، أي: الكتب المنزلة لكل واحد منها وقت ينزل فيه.

يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ

39- "يمحو الله ما يشاء ويثبت"، قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم و يعقوب "ويثبت" بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتشديد. واختلفوا في معنى الآية: فقال سعيد بن جبير، و قتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة. وروينا عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين ليلة، قيقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي رب أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص". وعن عمر وابن مسعود- رضي الله عنهما - أنهما قالا: يمحو السعادة والشقاوة أيضا، ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم أن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت علي الشقاوة فامحني، وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. ومثله عن ابن مسعود. وفي بعض الآثار: أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فترد إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد ابن زنجويه، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، حدثني زيادة بن محمد الأنصاري، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله عز وجل في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهن في أم الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت". وقيل: معنى الآية: إن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم، فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قوله: أكلت، شربت، دخلت خرجت، ونحوها من كلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، هذا قول الضحاك و الكلبي. وقال الكلبي: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. وقال عطية عن ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة الله عز وجل ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذى يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بطاعة الله، فيموت وهو في طاعة الله عز وجل فهو الذى يثبت. وقال الحسن: "يمحو الله ما يشاء" أي من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير قال: "يمحو الله ما يشاء" من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة: "يمحو الله ما يشاء" من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال الله تعالى: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" (الفرقان-70)، وقال السدي: "يمحو الله ما يشاء" يعني القمر "ويثبت" يعني الشمس، بيانه قوله تعالى: "فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة" (الإسراء-12). وقال الربيع: هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم، فمن أراد موته محاه فأمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه، بيانه قوله عز وجل: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" الآية (الزمر-42), "وعنده أم الكتاب"، أي: أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء. وعن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله تعالى لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت، لله فيه كل يوم ثلثمائة وستون لحظة "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب". وسأل ابن عباس كعبا عن أم الكتاب؟ فقال: علم الله، ما هو خالق، وما خلقه عاملون.

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ

40- " وإما نرينك بعض الذي نعدهم "، من العذاب قبل وفاتك، "أو نتوفينك"، قبل ذلك، "فإنما عليك البلاغ"، ليس عليك إلا ذلك، "وعلينا الحساب"، الجزاء يوم القيامة.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

41- قوله تعالى: "أو لم يروا" يعني: أهل مكة، الذين يسألون محمدا صلى الله عليه وسلم الآيات، "أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها"، أكثر المفسرين على أن المراد منه فتح ديار الشرك، فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك، يقول: " أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها "، فنفتحها لمحمد أرضا بعد أرض حوالي أرضهم، أفلا يعبرون؟ هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة. وقال قوم: هو خراب الأرض، معناه: أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها، ونهلك أهلها، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك؟ قال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة قال: قبض الناس. وعن الشعبي مثله. وقال عطاء وجماعة: نقصانها موت العلماء، وذهاب الفقهاء. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني مالك، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". وقال الحسن: قال عبد الله بن مسعود: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالعلم قبل أن يقبض ذهاب أهله. وقال علي رضي الله عنه: إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد. وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك علمائهم. " والله يحكم لا معقب لحكمه"، لا راد لقضائه، ولا ناقض لحكمه، "وهو سريع الحساب"،

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ

42- "وقد مكر الذين من قبلهم"، يعني: من قبل مشركي مكة، والمكر: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر. "فلله المكر جميعا"، أي: عند الله جزاء مكرهم. وقيل: إن الله خالق مكرهم جميعا، بيده الخير والشر، وإليه النفع والضر، فلا يضر مكر أحد أحدا إلا بإذنه. "يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار"، قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو "الكافر" على التوحيد، وقرأ الآخرون: "الكفار" على الجمع. " لمن عقبى الدار " أي: عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار، ويدخل المؤمنون الجنة.

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ

43- "ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم"، إني رسوله إليكم "ومن عنده علم الكتاب"، يريد: مؤمني أهل الكتاب يشهدون أيضا على ذلك. قال قتادة: هو عبد الله بن سلام. وأنكر الشعبي هذا وقال: السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة. وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير "ومن عنده علم الكتاب" أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكيه؟ وقال الحسن ومجاهد: "ومن عنده علم الكتاب" هو الله عز وجل، يدل عليه: قراءة عبد الله بن عباس، "ومن عنده"، بسكر الميم والدال، أي: من عند الله عز وجل، وقرأ الحسن وسعيد بن جبير "ومن عنده" بكسر الميم والدال "علم الكتاب" على الفعل المجهول، دليل هذه القراءة قوله تعالى: "وعلمناه من لدنا علماً" (الكهف-65) وقوله: " الرحمن * علم القرآن " (الرحمن-1،2).


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس