islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
14749

13-الرعد

المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

قد وقع الخلاف هل هي مكية أو مدنية؟ فروى النحاس في ناسخه عن ابن عباس أنها نزلت بمكة. وروى أبو الشيخ وابن مردويه عنه أنها نزلت بالمدينة. وممن ذهب إلى أنها مكية سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وممن ذب إلى أنها نزلت بالمدينة ابن الزبير والكلبي ومقاتل. وقول ثالث أنها مدنية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بمكة، وهما قوله نعالى: "ولو أن قرآناً سيرت به الجبال" وقيل فوله: "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة". وقد روي هذا عن ابن عباس أيضاً وقتادة. وقد أخرج ابن أبي شيبة والمروزي في الجنائز عن جابر بن زيد قال: كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وإنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه. قوله: 1- "المر" قد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، وهو اسم للسورة مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده، والتقدير على الول هذه السورة اسمها هذا، والإشارة بقوله: "تلك" إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب السورة: أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن، ويكون قوله: "والذي أنزل إليك من ربك الحق" مراداً به القرآن كله: أي هو الحق البالغ في اتصافه بهذه الصفة، أو تكون الإشارة بقوله "تلك" إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن ويكون قوله: "والذي أنزل إليك من ربك الحق" جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق. قال الفراء: والذي رفع بالاستئناف وخبره الحق. قال: وإن شئت جعلت الذي خفضا نعتاً للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام ويجوز أن يكون محل والذي أنزل إليك الجر على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، فيكون الحق على هذا خبر المبتدأ محذوف "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" بهذا الحق الذي أنزله الله عليك.

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ

قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال: 2- "الله الذي رفع السموات بغير عمد" والعمد: الأساطين جمع عماد: أي قائمات بغير عمد تعتمد عليه، وقيل لها عمد ولكن لا نراه. قال الزجاج العمد قدرته التي يمسك بها السموات، وهي غير مرئية لنا، وقرىء عمد على انه جمع عمود يعمد به: أي يسند إليه. قال النابغة: وخبر الجن أني قد أذنت لهم يبنون تذمر بالصفاح والعمد وجملة ترونها مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك، وقيل هي صفة لعمد، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: رفع السموات ترونها بغير عمد، ولا ملجىء إلى مثل هذا التكلف " ثم استوى على العرش" أي استولى عليه بالحفظ والتدبير، أو استوى أمره، أو أقبل على خلق العرش، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى، والاستواء على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام "وسخر الشمس والقمر" أي ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد " كل يجري إلى أجل مسمى " أي كل من الشمس والقمر يجري إلى وقت معلوم: وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر، وقيل المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزانها، وهي سنة للشمس، وشهر للقمر "يدبر الأمر" أي يصرفه على ما يريد، وهو أمر ملكوته وربوبيته "يفصل الآيات" أي يبينها: وهي الآيات الدالة على كمال قدرته وربوبيته، ومنها ما تقدم من رفع السماء بغير عمد وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى والجملتان في محل نصب على الحال او خبره إن لقوله: "الله الذي رفع" على أن الموصول صفة للمبتدأ، والمراد من هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة، ولذا قال "لعلكم بلقاء ربكم توقنون" أي لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه.

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال 3- "وهو الذي مد الأرض" قال الفراء بسطها طولاً وعرضاً. وقال الأصم: إن المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، وعذا المد الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها "وجعل فيها رواسي" أي جبالاص ثوابت. واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها: أي تثبت، والإرساء: الثبوت. قال عنترة: فصرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع وقال جميل: أحبها والذي أرسى قواعده حتى إذا ظهرت آياته بطنا "وأنهاراً" أي مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد جعل فيها مجاري الماء "ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين" من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده: أي جعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين: الزوج يطلق على الاثنين، وعلى الواحد المزاوج لآخر، والمراد هنا بالزوج الواحد، ولهذا أكد الزوجين بالأثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين. وقد تقدم تحقيق هذا مستوفى، أي عل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا ضنفين، أو في القدر كالصغر والكبر، أو في الكيفية كالحر والبرد. قال الفراء يعني بالزوجين هنا الذكر والأنثى، والأول أولى " يغشي الليل النهار " أي يلبس مكانه، فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً شي\به إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها. وقد سبق تفسير هذه في الأعراف "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" أي فيما ذكر من مد الأرض وإثباتها بالجبال، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة، وتعاقب النور والظلمة آيات بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين.

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

4- "وفي الأرض قطع متجاورات" هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات. قيل وفي الكلام حذف: أي قطع متجاورات في قوله "سرابيل تقيكم الحر" أي وتقيكم البرد. قيل والمتجاورات: المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات: الصحارى وما كان غير عامر وقيل المعنى: متجاورات متدانيات، ترابها واحد وماؤها واحد، وفيها زرع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً، والبعض طيباً والبعض غير طيب، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر "وجنات من أعناب" الجنات: البساتين، قرأ الجمهور برفع جنات على تقدير: وفي الأرض جنات، فهو معطوف على قطع متجاورات، أو على تقدير: وبينها جنات. وقرأ الحسن بالنصب على تقدير: وجعل فيها جنات، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل، لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك، ومثله في قوله سبحانه "جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً" "صنوان وغير صنوان" قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص " وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان " برفع هذه الأربع عطفاً على جنات. وقرأ الباقون بالجر عطفاً على أعناب. وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان. وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان. قال أبو عبيدة صنوان: جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحداً، ثم يتفرع فيصير نخيلاً، ثم يحمل، وهذا قول جميع أهل اللفة والتفسير. قال ابن الأعرابي: الصنو: المثل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "عم الرجل صنو أبيه" فمعنى الآية على هذا: أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون. قال في الكشاف: و\الصنوان جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد، وقيل الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق. النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر: صنوان. والصنو: المثل، ولا فرق بين التثنية والجنع إلا بكسر النون في المثنى. وبما يقتضيه الإعراب في الجمع "يسقى بماء واحد" قرأ عاصم وابن عامر: "يسقى" بالتحتية: أي يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات. واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو قال أبو عمرو: التأنيث أحسن لقوله: "ونفضل بعضها على بعض في الأكل" ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي " نفضل " بالتحتية كما في قوله "يدبر الأمر يفصل الآيات" وقرأ الباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل. وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل، فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر، واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلا قدرة الصانع الحكيم جل سلطانه وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلا لسببين: إما اختلاف المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تسقى به، فإذا كان المكان متجاوراً، وقطع الأرض متلاصقة، والماء الذي تسقى به واحداً، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلا تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب. ولهذا قال الله سبحانه "إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" أي يعملون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات. وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "المر" قال: أنا الله أرى. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد "المر" فواتح يفتتح بها كلامه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "تلك آيات الكتاب" قال: التوراة والإنجيل "والذي أنزل إليك من ربك الحق" قال: القرآن. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه: وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " رفع السماوات بغير عمد ترونها " قال: وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يقول لها عمد ولكن لا ترونها: يعني الأعماد. وأخرج ابن جرير عن إياس بن معاوية في الآية قال: السماء مقببة على الأرض مثل القبة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في قوله: "لأجل مسمى" قال: الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "يدبر الأمر" قال: يقضيه وحده. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام: أربعمائة خراب، ومائة عمران في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة. وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقديرات لم يأت عليها دليل يصح. وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: أي رب تجعل علي بني آدم يعملون علي الخطايا ويجعلون علي الخبث، فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان إقرارها كاللحم ترجرج. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله " جعل فيها زوجين اثنين " قال: ذكراً وأنثى من كل صنف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله " يغشي الليل النهار " أي يلبس الليل النهار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وفي الأرض قطع متجاورات" قال: يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا تخرج، وهما أرض واحدة، وماؤها شيء واحد، ملح أو عذب، ففضلت إحداهما على الأخرى. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: قرئ متجاورات قريب بعضها من بعض. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: الأرض تنبت حلواً، والأرض تنبت حامضاً، وهي متجاورات تسقى بماء واحد. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله: "صنوان وغير صنوان" قال: الصنوان ما كان أصله واحداً وهو متفرق، وغير صنوان التي تنبت وحدها، وفي لفظ: صنوان النخلة في النخلة ملتصقة. وغير صنوان النخل المتفرق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "صنوان" قال: مجتمع النخل في أصل واحد "وغير صنوان" قال: النخل المتفرق. وأخرج الترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ونفضل بعضها على بعض في الأكل" قال: الدقل والفارسي والحلو والحامض وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هذا حامض، وهذا حلو، وهذا دقل، وهذا فارسي.

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

قوله:5- "وإن تعجب فعجب قولهم" أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم من الصادقين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث. والله تعالى عليه لا يجوز عليه التعجب، لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه وإنما ذكر ذلك ليعجب منه رسوله وأتباعه. قال الزجاج: أي هذا موضوع عجب أيضاً أنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة، وقيل الآية في منكري الصانع: أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير، فهو محل التعجب، والأول أولى لقوله: " أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد " وهذه الجملة في محل رفع على البدلية من قولهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على أنها مقول القول والعجب على الأول كلامهم، وعلى الثاني تكلمهم بذلك، والعامل في إذا ما يفيده قوله: " أإنا لفي خلق جديد " وهو نبعث أو نعاد. والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال الاستبعاد، وتقديم الظرف في قوله: "لفي خلق" لتأكيد الإنكار بالبعث. وكذلك تكرير الهمزة في قوله: أإنا. ثم لما حكى الله سبحانه ذلك عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول "أولئك الذين كفروا بربهم" أي أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه. والثاني "وأولئك الأغلال في أعناقهم" الأغلال: جمع غل، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق: أي يغلون بها بوم القيامة. وقيل الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق: والثالث "وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، وفي توسيط ضمير الفصل دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث.

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ

6-"ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة" السيئة العقوبة المهلكة. والحسنة: العافية والسلامة، قالوا هذه المقالة لفرط إنكارهم وشدة تصميمهم وتهالكهم على الكفر، وقيل معنى الآية: أنهم طلبوا العقوبة قبل الحسنة، وهي الإيمان "وقد خلت من قبلهم المثلات" قرأ الجمهور مثلات بفتح الميم وضم المثلثة جمع مثلة كسمرة، وهي العقوبة قال ابن الأنباري المثلة العقوبة التي تبقى في المعاقب شيئاً بتغيير بعض خلقه من قولهم: مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه. وقرأ الأعمش بفتح الميم وإسكان المثلثة تخفيفاص لثقل الضمة، وفي لغة تميم بضم الميم والمثلثة جميعاً، واحدتها على لغتهم: مثلة، بضم الميم وسكون المثلثة مثل غرفة وغرفات. وحكي عن الأعمش في رواية أخرى أنه قرأ هذا الحرف بضمها على لغة تميم. والمعنى: أن هؤلاء يستعجلونك بإنزال العقوبة بهم، وقد مضت من قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لم لا يعتبرون بهم ويحذرون من حلول ما حل بهم، والجملة في محل نصب على الحال، وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء كقولهم: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية "وإن ربك لذو مغفرة" أي لذو تجاوز عظيم "للناس على ظلمهم" أنفسهم باقترافهم الذنوب ووقوعهم في المعاصي إن تابوا عن ذلك، ورجعوا إلى الله سبحانه، الجار والمجرور: أي على ظلمهم في محل نصب على الحال، أي حال كونهم ظالمين، وعلى بمعنى مع، أي مع ظلمهم وفي الآية بشارة عظيمة ورجاء كبير، لأن من المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون نائباً، ولهذا قيل إنها في عصاة الموحدين خاصة، وقيل المراد بالمغفرة هنا تأخير العقاب إلى الآخرة ليطابق ما حكاه الله من استعجال الكفار للعقوبة، وكما تفيده الجملة المذكورة بعد هذه الآية، وهي "وإن ربك لشديد العقاب" يعاقب العصاة المكذبين من الكافرون عقاباً شديداً على ما تقتضيه مشيئته في الدار الآخرة.

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ

7-"ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه" أي هلا أنزل عليه آية غير ما قد جاء به من الآيات، وهؤلاء الكفار القائلون هذه المقالة هم المستعجلون للعذاب. قال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى، فقال الله تعالى: "إنما أنت منذر" تنذرهم بالنار، وليس إليك من الآيات شيء، انتهى. وهذا مكابرة من الكفار وعناد، وإلا فقد أنزل الله على رسوله من الآيات ما يغني البعض منه وحاء في "إنما أنت منذر" بصيغة الحصر لبيان أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لإنذار العباد، وبيان ما يحذرون عاقبته، وليس عليه غير ذلك. وقد فعل ما هو عليه، وأنذر أبلغ إنذار، ولم يدع شيئاً مما يحصل به ذلك إلا أتى به وأوضحه وكرره. فجزاه الله عن أنته خيراً "ولكل قوم هاد" أي نبي يدعوهم إلى ما فيه هدايتهم ورشادهم، وإن لم تقع الهداية لهم بالفعل ولم يقبلوها، وآيات الرسل مختلفة هذا يأتي بآية أو آيات لم يأت بها الآخر بحسب ما يعطيه الله منها، ومن طلب من بعضهم ما جاء به البعض الآخر فقد بلغ في التعنت إلى مكان عظيم، فليس المراد من الآيات إلا الدلالة على النبوة لكونها معجزة خارجة عن القدرة البشرية، وذلك لا يختص بفرد منها، ولا بأفراد معينة، وقيل إن المعنى ولكل قوم هاد، وهو الله عز وجل فإنه القادر على ذلك، وليس على أنبيائه إلا مجرد الإنذار.

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ

8- "الله يعلم ما تحمل كل أنثى" الجملة مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته بالعلم سبحانه، وعلمه بالغيب الذي هذه الأمور المذكورة منه. قيل ويجوز أن يكون الاسم الشريف خبراً لمبتدأ محذوف: أي ولكل قوم هاد وهو الله، وجملة "يعلم ما تحمل كل أنثى" تفسير هاد على الوجه الأخير، وهذا بعيد جداً، وما موصولة: أي يعلم الذي تحمله كل أنثى في بطنها من علقة، أو مضغة، أو ذكر، أو أنثى، أو صبيح، أو قبيح، أو سعيد، أو شقي. ويجوز أن تكون استفهامية: أي يعلم أي شيء في بطنها، وعلى أي حال هو. ويجوز أن تكون مصدرية: أي يعلم حملها "وما تغيض الأرحام وما تزداد" الغيض النقص: أي يعلم الذي تغيضه الأرحام: أي تنقصه، ويعلم ما تزداده. فقيل المراد نقص خلقة الحمل وزيادته كنقص أصبع أو زيادتها: وقيل إن المراد نقص مدة الحمل على تسعة أشهر، أو زيادتها، وقيل إذا حاضت المرأة في حال حملها كان ذلك نقصاً في ولدها، وقيل الغيض: ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداده منه، و ما في ما تغيض وما تزداد تحتمل الثلاثة الوجوه المتقدمة في ما تحمل كل أنثى "وكل شيء عنده بمقدار" أي كل شيء من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة عند الله سبحانه بمقدار، والمقدار: القدر الذي قدره الله، وهو معنى قوله سبحانه: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" أي كل الأشياء عند الله سبحانه جارية على قدره الذي قد سبق وفرغ منه، لا يخرج عن ذلك شيء.

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ

9- "عالم الغيب والشهادة" أي عالم كل غائب عن الحس، وكل مشهود حاضر، أو كل معدوم وموجود ولا مانع من حمل الكلام على ما هو أعم من ذلك "الكبير المتعال" أي العظيم الذي كل شيء دونه، المتعالي عما يقوله المشركون، أو المستعلي على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره.

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ

ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادره شيء منها، بين أنه عالم بما يسرونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره، وأن ذلك لا يتفاوت عنده فقال: 10- "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به" فهو يعلم ما أسره الإنسان كعلمه بما جهر به من خير وشر. وقوله: منكم متعلق بسواء على معنى يستوي منكم من أسر ومن جهر، أو سر من أسر وجهر من جهر "ومن هو مستخف بالليل" أي مستتر في الظلمة الكائنة في الليل متوار عن الأعين، يقال خفي الشيء واستخفى: أي استتر وتوارى "وسارب بالنهار" قال الكسائي: سرب يسرب سرباً وسروباً إذا ذهب، ومنه قول الشاعر: وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب أي ذهب. وقال القتيبي: سارب بالنهار متصرف في حوائجه بسرعة، من قولهم: أسرب الماء. قال الأصمعي حل سربه: أي طريقته. وقال الزجاج: معنى الآية الجاهر بنطقه، والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات علم الله فيهم جميعاً سوي، وهذا ألصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب فالمستخفي المستتر، والسارب البارز الظاهر.

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِ

11- "له معقبات" الضمير في له راجع إلى من في قوله: من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف: أي لكل من هؤلاء معقبات، والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلاً منه، وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض، وإنما قال: معقبات مع كون الملائكة ذكوراً لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة، ثم جمع معقبة على معقبات: ذكر معناه الفراء، وقيل أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة. قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء. قال الله تعالى: "ولى مدبراً ولم يعقب" وقرئ معاقيب جمع معقب "من بين يديه ومن خلفه" أي من بين يدي من له المعقبات والمراد إن الحفظة من الملائكة من جميع جوانبه، وقيل المراد بالمعقبات الأعمال، ومعنى من بين يديه ومن خلفه: ما تقدم منها وما تأخر "يحفظونه من أمر الله" أي من أجل أمر الله. وقيل يحفظونه من يأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب. قال الفراء: في هذا قولان: أحدهما أنه على التقديم والتأخير، تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثاني أن كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به. قال الزجاج: المعنى حفظهم إياه من أمر الله: أي مما أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله. قال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر. وهو أن من بمعنى الباء: أي يحفظونه بأمر الله، وقيل إن من بمعنى عن: أي يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله، لا من عند أنفسهم، كقوله: "أطعمهم من جوع" أي عن جوع، وقيل يحفظونه من ملائكة العذاب، وقيل يحفظونه من الجن. واختار ابن جرير أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء. على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء "إن الله لا يغير ما بقوم" من النعمة والعافية "حتى يغيروا ما بأنفسهم" من طاعة الله. والمعنى: أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها. قيل وليس المراد أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى يتقدم له ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير كما في الحديث إنه "سأل رسول الله سائل فقال: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث"، "وإذا أراد الله بقوم سوءاً" أي هلاكاً وعذاباً "فلا مرد له" أي فلا رد له، وقيل المعنى: إذا أراد الله بقوم سوءاً أعمى قلوبهم حتى يختاروا ما فيه البلاء "وما لهم من دونه من وال" يلي أمرهم يلتجئون إليه، فيدفع عنهم ما ينزل بهم من الله سبحانه من العقاب، أو من ناصر ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله. والمعنى: أنه لا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "وإن تعجب فعجب قولهم" قال: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك فعجب قولهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم، وهم رأوا من قدرة الله وأمره، وما ضرب لهم من الأمثال وأراهم من حياة الموتى والأرض الميتة " فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد " أو لا يرون أنه خلقهم من نطفة، فالخلق من نطفة أشد من الخلق من تراب وعظام. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وقد خلت من قبلهم المثلات" قال: العقوبات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في المثلات قال: وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم. وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس قال: المثلات ما أصاب القرون الماضية من العذاب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية "وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "ولكل قوم هاد" قال: داع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" قال: المنذر محمد صلى الله عليه وسلم: "ولكل قوم هاد" نبي يدعوهم إلى الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: محمد المنذر والهادي الله عز وجل. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه أيضاً. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المنذر وهو الهادي. وأخرج ابن جرير عن عكرمة وأبي الضحى نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابن عساكر وابن النجار عن ابن عباس قال: لما نزلت "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" "وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب علي فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي" قال ابن كثير في تفسيره: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب في الآية نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن الضحاك "الله يعلم ما تحمل كل أنثى" قال: كل أنثى من خلق الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال: يعلم ذكراً هو أو أنثى "وما تغيض الأرحام" قال: هي المرأة ترى الدم في حملها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وما تغيض الأرحام" قال: خروج الدم "وما تزداد" قال: استمساكه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وما تغيض الأرحام" قال: أن ترى الدم في حملها "وما تزداد" قال: في التسعة أشهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه في الآية قال: ما تزداد على تسعة، وما تنقص من التسعة. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضاً في الآية "ما تغيض الأرحام" قال: السقط "وما تزداد" ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تنقص. فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله، وكل ذلك يعلمه تعالى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "عالم الغيب والشهادة" قال: السر والعلانية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: "ومن هو مستخف بالليل" قال: راكب رأسه من المعاصي "وسارب بالنهار" قال: ظاهر بالنهار بالمعاصي. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس "وسارب بالنهار" قال: الظاهر، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس أن سبب نزول الآية قدوم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصة المشهورة، وأنه لما أصيب عامر بن الطفيل بالغدة نزل قوله تعالى: "الله يعلم ما تحمل كل أنثى" إلى قوله: "معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد بن قيس وما قتله، فقال: "هو الذي يريكم البرق" إلى قوله: "وهو شديد المحال". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "معقبات" الآية قال هذه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "يحفظونه من أمر الله" قال: ذلك الحفظ من أمر الله بأمر الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "من أمر الله" قال: بإذن الله. وأخرج ابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: ولي السلطان يكون عليه الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، يقول: يحفظونه من أمري، فإني إذا أردت بقوم سوءاً فلا مرد له. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في الآية قال: الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يحفظونه من القتل، ألم تسمع أن الله يقوله: "إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له" أي إذا أراد سوءاً لم يغن الحرس عنه شيئاً. وأخرج ابن جرير عن عكرمة في الآية قال: هؤلاء الأمراء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هم الملائكة تعقب بالليل تكتب على ابن آدم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن علي في الآية قال: ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن تقع عليه حائط، أو ينزوي في بئر، أو يأكله سبع أو غرق أو حرق، فإذا جاء القدر خلواً بينه وبين القدر، وقد ورد في ذكر الحفظة الموكلين بالإنسان أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الحديث.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ

لما خوف سبحانه عباده بإنزال ما لا مرد له أتبعه بأمور ترجى من بعض الوجوه ويخاف من بعضها، وهي البرق والسحاب والرعد والصاعقة وقد مر في أول البقرة تفسير هذه الألفاظ وأسبابها: وقد اختلف في وجه انتصاب 12- "خوفاً وطمعاً" فقيل على المصدرية: أي لتخافوا خوفاً ولتطمعوا طمعاً، وقيل على العلة بتقدير إرادة الخوف والطمع لئلا يختلف فاعل الفعل المعلل وفاعل المفعول له، أو على الحالية من البرق، أو من المخاطبين بتقدير ذوي خوف، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه. قيل والمراد بالخوف هو الحاصل من الصواعق، وبالطمع هو الحاصل في المطر. وقال الزجاج: الخوف للمسافر لمايتأذى به من المطر، والطمع للحاضر، لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب "وينشئ السحاب الثقال" التعريف للجنس والواحدة سحابة، والثقال جمع ثقيلة. المراد الله سبحانه يجعل السحاب التي ينشئها ثقالاً بما يجعله فيها من الماء.

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ

13- "ويسبح الرعد بحمده" أي يسبح الرعد نفسه بحمد الله: أي ملتبساً بحمده، وليس هذا بمستبعد، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك "وإن من شيء إلا يسبح بحمده". وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك. ويكون ذكره على الإفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له، وعناية به، وقيل المراد ويسبح سامعو الرعد: أي يقولون: سبحان الله والحمد لله "والملائكة من خيفته" أي ويسبح الملائكة من خيفة الله سبحانه، وقيل من خيفة الرعد. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد، وأن الله سبحانه جعل له أعواناً "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء" من خلقه فيهلكه، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات التي قبلها. وهي الدلالة على كمال قدرته "وهم يجادلون في الله" الضمير راجع إلى الكفار المخاطبين في قوله: "هو الذي يريكم البرق" أي وهؤلاء الكفرة مع هذه الآيات التي أراهم الله يجادلون في شأن الله سبحانه فينكرون البعث تارة ويستعجلون العذاب أخرى، ويكذبون الرسل ويعصون الله، وهذه الجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة "وهو شديد المحال" قال ابن الأعرابي: المحال المكر، والمكر من الله: التدبير بالحق. وقال النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وقال الأزهري: المحال القوة والشدة، والميم أصلية، وما حلت فلاناً محالاً أينا أشد. وقال أبو عبيد: المحال العقوبة والمكروه. قال الزجاج: يقال ما حلته محالاً: إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، والمحل في اللغة: الشدة. وقال ابن قتيبة: أي شديد الكيد. وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان، وأصله من الكون، ثم يقال تمكنت. قال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية مثل مهاد وملاك ومراس وغير ذلك من الحروف. وقرأ الأعرج "وهو شديد المحال" بفتح الميم. وقد فسرت هذه القراءة بالحول. وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية: الأول العداوة، الثاني الحول، الثالث الأخذ، الرابع الحقد، الخامس القوة، السادس الغضب، السابع الهلاك، الثامن الحيلة.

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ

14- "له دعوة الحق" إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة: أي الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه كما يقال كلمة الحق، والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها، لا كدعوة من دونه. وقيل الحق هو الله سبحانه، والعنى: أن لله سبحانه دعوة المدعو الحق وهو الذي يسمع فيجيب. وقيل المراد بدعوة الحق ها هنا كلمة التوحيد والإخلاص، والمعنى: لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له. وقيل دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعي فيه سواه كما قال تعالى: " ضل من تدعون إلا إياه ". وقيل الدعوة العبادة، فإن عبادة الله هي الحق والصدق "والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء" أي والآلهة الذين يدعونهم يعني الكفار من دون الله عز وجل لا يستجيبون لهم بشيء مما يطلبونه منهم كائناً ما كان إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه، لأنه جماد لا يشعر بحاجته إليه، ولا يدري أنه طلب منه أن يبلغ فاه، ولهذا قال "وما هو" أي الماء "ببالغه" أي ببالغ فيه. قال الزجاج: إلا كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب، أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه، وما الماء ببالغه. وقيل المعنى: أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شيء منه، وقد ضربت العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقبض على الماء كما قال الشاعر: فأصبحت مما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد وقال الآخر: ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض على الماء خانته فروج الأصابع وقال الفراء: إن المراد بالماء هنا ماء البئر لأنها معدن للماء، وأنه شبهه بمن مد يده إلى البئر بغير رشاء، ضرب الله سبحانه هذا مثلاً لمن يدعو غيره من الأصنام "وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" أي يضل عنهم ذلك الدعاء فلا يجدون منه شيئاً، ولا ينفعهم بوجه من الوجوه بل هو ضائع ذاهب.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ

15- "ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً" إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل، فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم، فلا بد أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى حق لله السجود ووجب حتى يناول السجود بالفعل وغيره، أو يفسر للسجود بالانقياد، لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره، وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى، ويدل على إرادة هذا المعنى قوله: "طوعاً وكرهاً" فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً، وهما منتصبان على المصدرية: أي انقياد طوع وانقياد كره، أو على الحال: أي طائعين وكارهين. وقال الفراء: الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً، وبعض الكفار يسجدون إكراهاً وخوفاً كالمنافقين، فالآية محمولة على هؤلاء، وقيل الآية في المؤمنين، فمنهم من سجد طوعاً لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له "وظلالهم بالغدو والآصال" وظلالهم جمع ظل، والمراد به ظل الإنسان الذي يتبعه، جعل ساجداً بسجوده حيث صار لازماً له لا ينفك عنه. قال الزجاج وابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله سبحانه كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً، وظل الكافر يسجد لله كرهاً. وخص الغدو والآصال بالذاكر لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما، وهما ظرف للسجود المقدر: أي ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين. وقد تقدم تفسير الغدو والآصال في الأعراف، وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " وجاء بمن في السموات والأرض تغليباً للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم لله على الفعل من الاختصاص، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم، ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرون على أنفسهم بأنها من الله، كالخلق والحياة والموت ونحو ذلك.

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا

16- "قل من رب السموات والأرض" أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار من رب السموات والأرض؟ ثم لما كانوا يقرون بذلك ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله: "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم"، وقوله "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب، فقال: "قل الله" فكأنه حكى جوابهم وما يعتقدونه، لأنهم ربما تلعثموا في الجواب حذراً مما يلزمهم، ثم أمره بأن يلزمهم الحجة ويبكتهم فقال " قل أفاتخذتم من دونه أولياء " والاستفهام للإنكار: أي إذا كان رب السموات والأرض هو الله كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله: " قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله ". فما بالكم اتخذتم لأنفسكم من دونه أولياء عاجزين "لا يملكون لأنفسهم نفعاً" ينفعونها به "ولا ضراً" يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم، فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم والجملة في محل نصب على الحال، ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلاً وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، فقال: "قل هل يستوي الأعمى والبصير" أي هل يستوي الأعمى في دينه وهو الكافر، والبصير فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه، والثاني عالم بذلك. قرأ ابن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي " أم هل تستوي الظلمات والنور " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية، واختار القراءة الثانية أبو عبيد. والمراد بالظلمات الكفر، وبالنور الإيمان، والاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين الأعمى والبصير، وما بين الظلمات والنور، ووحد النور وجمع الظلمة، لأن طريق الحق واحدة لا تختلف، وطرائق الباطل كثيرة غير محصرة "أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه" أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة: أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، والاستفهام لإنكار الوقوع. قال ابن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم: أي ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر عليهم، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق، وسائر الشركاء لا يخلقون شيئاً، وجملة: خلقوا كخلقه في محل نصب صفة لشركاء. والمعنى: أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه "فتشابه" بهذا السبب "الخلق عليهم" حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم، بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها، وهي بمعزل عن أن تكون كذلك، ثم أمره الله سبحانه بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال: "قل الله خالق كل شيء" كائناً ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه. قال الزجاج: والمعنى أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقاً، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق "وهو الواحد" أي المتفرد بالربوبية "القهار" لما عداه، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب.

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزّ

ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر للحق وذويه، وللباطل ومنتحليه فقال: 17- "أنزل من السماء ماء" أي من جهتها والتنكير للتكثير أو للنوعية "فسالت أودية" جمع واد، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما. قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة إلا هذا، وكأنه حمل على فعيل فمع على أفعلة مثل جريب وأجربة، كما أن فعيلاً حمل على فاعل، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف، كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر قال: وفي قوله: "فسالت أودية" توسع: أي سال ماؤها، قال: ومعنى "بقدرها" بقدر مائها، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. قال الواحدي: والقدر مبلغ الشيء، والمعنى: بقدرها من الماء، فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع كثر، وقال في الكشاف: بقدرها بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار، قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر، إذ نفع نزول القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب: إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين "فاحتمل السيل زبداً رابياً" الزبد: هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل، ويقال له الغثاء والرغوة، والرابي: العالي المرتفع فوق الماء. قال الزجاج: هو الطافي فوق الماء، وقال غيره: هو الزائد بسبب انتفاخه، من ربا يربو إذا زاد. والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل. وقد تم المثل الأول، ثم شرح سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال "ومما يوقدون عليه في النار" من لابتداء الغاية: أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، أو للتبعيض بمعنى: وبعضه زبد مثله، والضمير للناس، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره، هذا على قراءة يوقدون بالتحتية، وبها قرأ حميد وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وحفص. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. والمعنى: ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة الذائبة "ابتغاء حلية" أي لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجملون كالذهب والفضة "أو متاع" أي أو طلب متاع تتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص "زبد مثله" المراد بالزبد هنا الخبث، فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في مثله يعود إلى زبداً رابياً، وارتفاع زبد على الابتداء وخبره مما يوقدون "كذلك يضرب الله الحق والباطل" أي مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل، ثم شرع في تقسيم المثل فقال: "فأما الزبد فيذهب جفاء" يقال جفأ الوادي بالهمز جفاء: إذا رمى بالقذر والزبد. قال الفراء: الجفاء الرمي، يقال: جفأ الوادي غثاء جفاء: إذا رمى به، والجفاء بمنزلة الغثاء. وكذا قال أبو عمرو بن العلاء، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ جفالاً. قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر. واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبداً رابياً فوقه، وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب، فإذا أذيبت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثاً مرتفعاً فوقها "وأما ما ينفع الناس" منهما وهو الماء الصافي، والذائب الخالص من الخبث "فيمكث في الأرض" أي يثبت فيها، أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة، وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل، يقول: إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحل وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل الباطل، وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض، وكذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه، وهو مثل الحق. قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعاً بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به. وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلاً ضربه الله للقرآن "كذلك يضرب الله الأمثال" أي مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم، وهذا تأكيد لقوله: كذلك يضرب الله الحق والباطل.

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ

ثم بين سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده، فقال فيمن ضرب له مثل الحق 18- "للذين استجابوا لربهم" أي أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه، والحسنى صفة موصوف محذوف: أي المثوبة الحسنى وهي الجنة، وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل "والذين لم يستجيبوا" لدعوته إلى ما دعاهم إليه، والموصول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية، وهي "لو أن لهم ما في الأرض جميعاً" من أصناف الأموال التي يتملكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء "ومثله معه" أي مثل ما في الأرض جميعاً كائناً معه ومنضماً إليه "لافتدوا به" أي بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله. والمعنى: ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم، ثم بين الله سبحانه ما أعده لهم فقال "أولئك" يعني الذين لم يستجيبوا "لهم سوء الحساب" قال الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم، وقال غيره: سوء الحساب المناقشة فيه، وقيل هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء "ومأواهم جهنم" أي مرجعهم إليها "وبئس المهاد" أي المستقر الذي يستقرون فيه. والمخصوص بالذم محذوف. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً" قال: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: خوفاً لأهل البحر وطمعاً لأهل البر. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: الخوف ما يخاف من الصواعق والطمع: الغيث. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في سننه من طرق عن علي بن أبي طالب قال: البرق مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب. وروي عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه، ولعلنا قد قدمنا في سورة البقرة شيئاً من ذلك. وأخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ينشئ السحاب فتنطق أحسن النطق وتضحك أحسن الضحك" قيل والمراد بنطقها الرعد، وبضحكها البرق. وقد ثبت عند أحمد والترمذي والنسائي في اليوم والليلة والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: "اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك". وأخرج العقيلي وضعفه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ينشئ الله السحاب ثم ينزل فيه الماء، فلا شيء أحسن من ضحكه، ولا شيء أحسن من نطقه، ومنطقه الرعد وضحكه البرق". وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن خزيمة بن ثابت، وليس بالأنصاري، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منشأ السحاب فقال: "إن ملكاً موكلاً يلم القاصية ويلحم الدانية في يده مخراق، فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت". وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال:" أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: الله على ما نقول وكيل، قال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال: يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت، قالوا: أخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عرق النساء، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا وكذا: يعني الإبل، فحرم لحومها، قالوا: صدقت، قالوا أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته. قالوا: صدقت إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا، إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل، قالوا: جبريل ذاك ينزل بالخراب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان، فأنزل الله: "قل من كان عدواً لجبريل" إلى آخر الآية". وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي الدنيا في المطر وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له، وقال: إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه. وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك، وكذا أخرج نحوه أبو الشيخ عن ابن عمر. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه الرعد، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه فتخرج الصواعق من بينه. وأخرج ابن أبي حاتم والخرائطي وأبو الشيخ في العظمة عن أبي عمران الجوني قال: إن بحوراً من نار دون العرش تكون منها الصواعق. وأخرج أبو الشيخ عن السدي قال: الصواعق نار. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "وهو شديد المحال" قال: شديد القوة. وأخرج ابن جرير عن علي قال: شديد الأخذ. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه في قوله: "له دعوة الحق" قال: التوحيد: لا إله إلا الله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات من طرق عن ابن عباس في قوله: دعوة الحق قال: شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير عن علي في قوله: " إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه " قال: كان الرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه. وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله: "هل يستوي الأعمى والبصير" قال: المؤمن والكافر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضاً في قوله: "أنزل من السماء ماء" الآية قال: هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: "فأما الزبد فيذهب جفاءً" وهو الشك "وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً "فسالت أودية بقدرها" قال: الصغير قدر صغره والكبير قدره كبره.

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ

الهمزة في قوله: 19- "أفمن يعلم" للإنكار على من يتوهم المماثلة بين من يعلم، إنما أنزله الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، وهو القرآن، وبين من هو أعمى لا يعلم ذلك، فإن الحال بينهما متباعد جداً كالتباعد الذي بين الماء والزبد، وبين الخبث والخالص من تلك الأجسام، ثم بين سبحانه أنه إنما يقف على تفاوت المنزلتين، وتباين الرتبتين أهل العقول الصحيحة، فقال: "إنما يتذكر أولو الألباب".

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ

ثم وصفهم بهذه الأوصاف المادحة، فقال: 20- "الذين يوفون بعهد الله" أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أو فيما بينهم وبين العباد "ولا ينقضون الميثاق" الذي وثقوه على أنفسهم، وأكدوه بالإيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه، ويراد بالميثاق ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية.

وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ

21- "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته، ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولاً أولياً، وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم، واللفظ أوسع من ذلك "ويخشون ربهم" خشية تحملهم على فعل ما وجب، واجتناب ما لا يحل "ويخافون سوء الحساب" وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش الحساب عذب، ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ

22- "والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم" قيل هو كلام مستأنف، وقيل معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ المضي للتنبيه على أنه ينبغي تحققه، والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، وقيل على الرزايا والمصائب، ومعنى كون ذلك الصبر لابتغاء وجه الله: أن يكون خالصاً له، لا شائبة فيه لغيره "وأقاموا الصلاة" أي فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص، والمراد بها الصلوات المفروضة، وقيل أعم من ذلك "وأنفقوا مما رزقناهم" أي أنفقوا بعض ما رزقناهم، والمراد بالسر: صدقة النفل، والعلانية: صدقة الفرض، وقيل السر لمن لم يعرف بالمال، أو لا يتهم بترك الزكاة، والعلانية لمن كان يعرف بالمال أويتهم بترك الزكاة " ويدرؤون بالحسنة السيئة " أي يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن"، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء، أو يدفعون الشر بالخير، أو المنكر بالمعروف، أو الظلم بالعفو، أو الذنب بالتوبة، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة "لهم عقبى الدار" العقبى مصدر كالعاقبة، والمراد بالدار الدنيا، وعقباها الجنة، وقيل المراد بالدار: الدار الآخرة، وعقباها الجنة للمطيعين، والنار للعصاة.

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ

23- "جنات عدن يدخلونها" بدل من عقبى الدار أي لهم جنات عدن، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره يدخلونها، والعدن أصله الإقامة، ثم صار علماً لجنة من الجنان. قال القشيري: وجنات عدن: وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن، ولكن في صحيح البخاري وغيره "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة". "ومن صلح من آبائهم" يشمل الآباء والأمهات "وأزواجهم وذرياتهم" معطوف على الضمير في يدخلون، وجاز ذلك للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه: أي ويدخلها أزواجهم وذرياتهم، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلا من كان كذلك من قرابات أولئك، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج أو الذرية بدون صلاح "والملائكة يدخلون عليهم من كل باب" أي من جميع أبواب المنازل التي يسكنونها، أو المراد من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه.

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ

24- "سلام عليكم" أي قائلين سلام عليكم: أي سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة "بما صبرتم" أي بسبب صبركم وهو متعلق بالسلام: أي إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم، أو بمحذوف: أي هذه الكرامة بسبب صبركم أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر "فنعم عقبى الدار" جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدم ذكرها للترغيب والتشويق.

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ

ثم اتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء، فقال: 25- "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" وقد مر تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض والقطع، ولم يتعرض لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدمة لدخولها في النقض والقطع "ويفسدون في الأرض" بالكفر وارتكاب المعاصي والأضرار بالأنفس والأموال "أولئك" الموصوفون بهذه الصفات الذميمة "لهم" بسبب ذلك "اللعنة": أي الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه "ولهم سوء الدار" أي سوء عاقبة دار الدنيا، وهي النار أو عذاب النار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى: "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق" قال: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه "كمن هو أعمى" قال: عن الحق فلا يبصره ولا يعقله " إنما يتذكر أولو الألباب " فبين من هم؟ فقال: "الذين يوفون بعهد الله". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أولوا الألباب قال: من كان له لب: أي عقل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن. وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" يعني من إيمان بالنبيين وبالكتب كلها "ويخشون ربهم" يعني يخافون من قطيعة ما أمر الله به أن يوصل "ويخافون سوء الحساب" يعني شدة الحساب. وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك " ويدرؤون بالحسنة السيئة " قال: يدفعون بالحسنة السيئة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله: "جنات عدن" قال: بطنان الجنة، يعني وسطها. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن عمر قال لكعب: ما عدن؟ قال: هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. وأخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنة عدن قضيب غرسه الله بيده، ثم قال له كن فكان". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "ومن صلح من آبائهم" قال: من آمن في الدنيا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله: "سلام عليكم بما صبرتم" قال: على دينكم "فنعم عقبى الدار" قال: نعم ما أعقبكم الله من الدنيا في الجنة. وأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال الله: إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة "إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكة إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول أقصى الخدم للذي يليه: ملك يستأذن، ويقول الذي يليه: ملك يستأذن، حتى يبلغ المؤمن، فيقول ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا له، ويقول الذي يليه للذي يليه ائذنوا له حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل ويسلم عليه، ثم ينصرف". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولهم سوء الدار" قال: سوء العاقبة.

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ

لما ذكر الله سبحانه عاقبة المشركين بقوله: "ولهم سوء الدار" كان لقائل أن يقول: قد نرى كثيراً منهم قد وفر الله له الرزق وبسط له فيه، فأجاب عن ذلك بقوله: 26- "الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" فقد يبسط الرزق لمن كان كافراً، ويقتره على من كان مؤمناً ابتلاءً وامتحاناً، ولا يدل البسط على الكرامة ولا القبض على الإهانة، ومعنى يقدر: يضيق. ومنه -ومن قدر عليه رزقه- أي ضيق، وقيل معنى يقدر: يعطي بقدر الكفاية، ومعنى الآية: أنه الفاعل لذلك وحده القادر عليه دون غيره "وفرحوا بالحياة الدنيا" أي مشركو مكة فرحوا بالدنيا وجهلوا ما عند الله، قيل وفي هذه الآية تقديم وتأخير. والتقدير: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا، فيكون وفرحوا معطوفاً على يفسدون "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" أي ما هي إلا شيء يستمتع به، وقيل المتاع واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما، وقيل المعنى: شيء قليل ذاهب، من متع النهار: إذا ارتفع فلا بد له من زوال، وقيل زاد كزاد الراكب يتزود به منها إلى الآخرة.

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ

27- "ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه" أي يقول أولئك المشركون من أهل مكة هلا أنزل على محمد آية من ربه؟ وقد تقدم تفسير هذا قريباً، وتكرر في مواضع "قل إن الله يضل من يشاء" أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بهذا، وهو أن الضلال بمشيئة الله سبحانه، من شاء أن يضله ضل كما ضل هؤلاء القائلون "لولا أنزل عليه آية من ربه" "ويهدي إليه من أناب" أي ويهدي إلى الحق. أو إلى الإسلام، أو إلى جنابه عز وجل "من أناب": أي من رجع إلى الله بالتوبة والإقلاع عما كان عليه، وأصل الإنابة الدخول في نوبة الخير، كذا قال النيسابوري، ومحل الذين آمنوا النصب على البدلية من قوله "من أناب" أي أنهم هم الذين هداهم الله وأنابوا إليه، ويجوز أن يكون الذين آمنوا خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين آمنوا، أو منصوب على المدح.

الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ

28- "وتطمئن قلوبهم بذكر الله" أي تسكن وتستأنس بذكر الله سبحانه بألسنتهم، كتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتكبير والتوحيد، أو بسماع ذلك من غيرهم، وقد سمى سبحانه القرآن ذكراً قال: "وهذا ذكر مبارك أنزلناه"، وقال: "إنا نحن نزلنا الذكر" قال الزجاج: أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين بخلاف من وصف بقوله: "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة" وقيل تطمئن قلوبهم بتوحيد الله، وقيل المراد بالذكر هنا الطاعة، وقيل بوعد الله، وقيل بالحلف بالله، فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه، وقيل بذكر رحمته، وقيل بذكر دلائله الدالة على توحيده "ألا بذكر الله" وحده دون غيره "تطمئن القلوب" والنظر في مخلوقات الله سبحانه وبدائع صنعه وإن كان يفيد طمأنينة في الجملة، لكن ليست كهذه الطمأنينة، وكذلك النظر في المعجزات من الأمور التي لا يطيقها البشر، فليس إفادتها للطمأنينة كإفادة ذكر الله، فهذا وجه ما يفيده هذا التركيب من القصر.

الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ

29- " الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب " الموصول مبتدأ خبره الجملة الدعائية، وهي طوبى لهم على التأويل المشهور، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المدح، وطوبى لهم خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون المصول بدلاً من القلوب على حذف مضاف: أي قلوب الذين آمنوا. قال أبو عبيدة والزجاج وأهل اللغة: طوبى فعلى من الطيب. قال ابن الأنباري: وتأويلها الحال المستطابة، وقيل طوبى شجرة في الجنة، وقيل هي الجنة، وقيل هي البستان بلغة الهند، وقيل معنى طوبى لهم: حسنى لهم، وقيل خير لهم، وقيل كرامة لهم، وقيل غبطة لهم، قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة، والأصل طيبى فصارت الياء واواً لسكونها وضم ما قبلها، واللام في لهم للبيان مثل سقيا لك ورعيا لك. وقرئ حسن مآب بالنصب والرفع، من آب إذا رجع: أي وحسن مرجع، وهو الدار الآخرة.

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ

30- "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم" أي مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن المشتمل على المعجزة الباهرة أرسلناك يا محمد، وقيل شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله، ومعنى "في أمة قد خلت من قبلها أمم" في قرن قد مضت من قبله قرون، أو في جماعة من الناس قد مضت من قبلها جماعات " لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك " أي لتقرأ عليهم القرآن، "و" الحال " وهم يكفرون بالرحمن " أي بالكثير الرحمة لعباده، ومن رحمته لهم إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم كما قال سبحانه: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وجملة "قل هو ربي" مستأنفة بتقدير سؤال كأنهم قالوا: وما الرحمن؟ فقال سبحانه "قل" يا محمد "هو ربي" أي خالقي "لا إله إلا هو" أي لا يستحق العبادة له والإيمان به سواه "عليه توكلت" في جميع أموري "وإليه" لا إلى غيره "متاب" أي توبتي، وفيه تعريض بالكفار وحث لهم على الرجوع إلى الله والتوبة من الكفر والدخول في الإسلام. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن سابط في قوله: "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" قال: كزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو الشيء يشرب عليه اللبن. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل يخرج في الزمان الأول في إبله، أو غنمه فيقول لأهله منعوني فيمتعونه فلقة الخبز أو التمر، فهذا مثل ضربه الله للدنيا. وأخرج الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود قال: "نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك؟ فقال مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها". وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع؟ وأشار بالسبابة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وتطمئن قلوبهم بذكر الله" قال: هشت إليه واستأنست به. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في الآية قال: إذا حلف لهم بالله صدقوا "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" قال: تسكن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: بمحمد وأصحابه. وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين نزلت هذه الآية "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: من أحب الله ورسوله وأحب أصحابي". وأخرج ابن مردويه عن علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" قال: ذاك من أحب الله ورسوله، وأحب أهل بيتي صادقاً غير كاذب، وأحب المؤمنين شاهداً وغائباً، ألا بذكر الله يتحابون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "طوبى لهم" قال: فرح وقرة عين. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: "طوبى لهم" قال نعم ما لهم. وقد روي عن جماعة من السلف نحو ما قدمنا ذكره من الأقوال، والأرجح تفسير الآية بما روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن عتبة بن عبد قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها شجرة تدعى طوبى" الحديث. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والخطيب في تاريخه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن رجلاً قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: طوبى لمن آمن بي ورآني، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسير مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها" وفي الباب أحاديث وآثار عن السلف، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، اقرأوا إن شئتم "وظل ممدود"" وفي بعض الألفاظ "إنها شجرة الخلد". وأخرج أبو الشيخ عن السدي "وحسن مآب" قال: حسن منقلب. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وهم يكفرون بالرحمن" قال:" ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون، باسمك اللهم، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم، فقال لا، ولكن اكتبوا كما يريدون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في هذه الآية نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد "وإليه متاب" قال: توبتي.

وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَ

قوله: 31- "ولو أن قرآنا سيرت به الجبال" قيل هذا متصل بقوله: "لولا أنزل عليه آية من ربه" وأن جماعة من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تنفسح فإنها أرض ضيقة، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصروا على تعنتهم وطلبهم ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد. ومعنى سيرت به الجبال: أي بإنزاله وقراءته فسارت عن محال استقرارها "أو قطعت به الأرض" أي صدعت حتى صارت قطعاً متفرقة "أو كلم به الموتى" أي صاروا أحياء بقراءته عليهم، فكانوا يفهمونه عند تكليمهم به كما يفهمه الأحياء. وقد اختلف في جواب لو ماذا هو؟ فقال الفراء: هو محذوف، وتقديره: لكان هذا القرآن، وروي عنه أنه قال: إن الجواب لكفروا بالرحمن: أي لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن، وقيل جوابه لما آمنوا كما سبق في قوله " ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " وقيل الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير: أي وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآناً إلى آخره، وكثيراً ما تحذف العرب جواب لو إذا دل عليه سياق الكلام، ومنه قول امرئ القيس: فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا أي لهان علي ذلك "بل لله الأمر جميعاً" أي لو أن قرآناً فعل به ذلك لكان هذا القرآن، ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن، فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدي إليه كون الأمر لله سبحانه ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته، ويدل على أن هذا هو المعنى المراد من ذلك قوله: "أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً" قال الفراء: قال الكلبي أفلم ييأس بمعنى أفلم يعلم، وهي لغة النخع. قال في الصحاح: وقيل هي لغة هوازن، وبهذا قال جماعة من السلف، قال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا. قال الزجاج: وهو مجاز لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما، ويؤيده قراءة علي وابن عباس وجماعة: أفلم يتبين، ومن هذا قول رباح بن عدي: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا أي ألم يعلم، وأنشد في هذا أبو عبيدة قول مالك بن عوف النضري: أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم أي ألم تعلموا، فمعنى الآية على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً من غير أن يشاهدوا الآيات، وقيل إن الإياس على معناه الحقيقي: أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم، لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعاً في إيمانهم "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" هذا وعيد للكفار على العموم أو لكفار مكة على الخصوص: أي لا يزال الذين كفروا تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل قارعة: أي داهية تفجؤهم، يقال قرعه الأمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع الضرب. قال الشاعر: أفنى تلادي وما جمعت من نشب قرع القراقير أفواه الأباريق والمعنى: أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم داهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو نحو ذلك من العذاب، وقد قيل إن القارعة: النكبة، وقيل الطلائع والسرايا، ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعم من ذلك "أو تحل" أي القارعة "قريباً من دارهم" فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه بوادرهم وقيل إن الضمير في "تحل" للنبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم محاصراً لهم آخذاً بمخانقهم كما وقع منه صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف "حتى يأتي وعد الله" وهو موتهم، أو قيام الساعة عليهم، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم حل بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدة، وقيل المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار، والأول أولى "إن الله لا يخلف الميعاد" فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة.

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ

32- "ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا" التنكير في رسل للتكثير: أي برسل كثيرة، والإملاء: الإمهال، وقد مر تحقيقه في الأعراف "ثم أخذتهم" بالعذاب الذي أنزلته بهم "فكيف كان عقاب" الاستفهام للتقريع والتهديد: أي فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزأوا بالرسل، فأمليت لهم ثم أخذتهم.

أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ و

ثم استفهم سبحانه استفهاماً آخر للتوبيخ والتقريع يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم، فقال 33- "أفمن هو قائم على كل نفس" القائم الحفيظ والمتولي للأمور. وأراد سبحانه نفسه، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت، والجواب محذوف: أي أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضر. قال الفراء: كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما، وقيل المراد بمن هو قائم على كل نفس: الملائكة الموكلون ببني آدم، والأول أولى، وجملة "وجعلوا لله شركاء" معطوفة على الجواب المقدر مبينة له أو حالية بتقدير قد: أي وقد جعلوا، أو معطوفة على "ولقد استهزئ" أي استهزأوا وجعلوا، "قل سموهم" أي قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم؟ وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ، لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه، فيقال: سمه إن شئت: يعني أنه أحقر من أن يسمى، وقيل إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون، فيكون ذلك تهديداً لهم "أم تنبئونه" أي بل أتنبئون الله "بما لا يعلم في الأرض" من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السموات والأرض "أم بظاهر من القول" أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة، وقيل المعنى: قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم سموهم. فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكاً، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض، لأنهم ادعوا له شريكاً في الأرض، وقيل معنى "أم بظاهر من القول" أم بزائل من القول باطل، ومنه قول الشاعر: أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا بن ريطة ظاهر أي زائل باطل، وقيل بكذب من القول، وقيل معنى بظاهر من القول بحجة من القول ظاهرة على زعمهم "بل زين للذين كفروا مكرهم" أي ليس لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس زين على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم. وقرأ من عداه بالبناء للمفعول، والمزين هو الله سبحانه، أو الشيطان ويجوز أن يسمى المكر كفراً، لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كان كفراً، وأما معناه الحقيقي فهو الكيد، أو التمويه بالأباطيل "وصدوا عن السبيل" قرأ حمزة والكسائي وعاصم "صدوا" على البناء للمفعول: أي صدهم الله، أو صدهم الشيطان. وقرأ الباقون على البناء للفاعل: أي صدوا غيرهم، واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الصاد "ومن يضلل الله فما له من هاد" أي يجعله ضالاً وتقتضي مشيئته إضلاله، فما له من هاد يهديه إلى الخير. قرأ الجمهور "هاد" من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة. وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة.

لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ

ثم بين سبحانه ما يستحقونه، فقال 34- "لهم عذاب في الحياة الدنيا" بما يصابون به من القتل والأسر وغير ذلك "ولعذاب الآخرة أشق" عليهم من عذاب الحياة الدنيا "وما لهم من الله من واق" يقيهم عذابه، ولا عاصم يعصمهم منه.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ

ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى، ذكر ما أعده للمؤمنين، فقال 35- "مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار" أي صفتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل، قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته، يقال مثلت لك كذا: أي صورته ووصفته، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها، ثم ذكرها، فقال: "تجري من تحتها الأنهار" وهو كالتفسير للمثل. قال سيبويه: وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة. وقال الخليل وغيره: إن "مثل الجنة" مبتدأ والخبر "تجري". وقال الزجاج: إنه تمثيل للغائب بالشاهد، ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، وقيل إن فائدة الخبر ترجع إلى "أكلها دائم" أي لا ينقطع، ومثله قوله سبحانه "لا مقطوعة ولا ممنوعة" وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد، والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، والعرب تفعل ذلك كثيرا "وظلها" أي كذلك دائم لا يتقلص ولا تنسخه الشمس، والإشارة بقوله "تلك" إلى الجنة الموصوفة بالصفات المتقدمة، وهو متبدأ خبره "عقبى الذين اتقوا" أي عاقبة الذين اتقوا المعاصي، ومنتهى أمرهم "وعقبى الكافرين النار" ليس لهم عاقبة ولا منتهى إلا ذلك. وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان كما تقول فأرنا أشياخنا الأول من الموتى نكلمهم، وافسح لنا هذه الجبال جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت "ولو أن قرآناً سيرت به الجبال" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لوس يبرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان يحيي عيسى الموتى لقومه، فأنزل الله "ولو أن قرآناً سيرت به الجبال" الآية إلى قوله: "أفلم ييأس الذين آمنوا" قال: أفلم يتبين الذين آمنوا، قالوا: هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم قال: حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحرت، أخبرنا بشر بن عمارة، حدثنا عمر بن حسان عن عطية العوفي فذكره. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه مختصراً. وأخرج أبو يعلى وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه عن الزبير بن العوام في ذكر سبب نزول الآية نحو ما تقدم مطولاً. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بل لله الأمر جميعاً" لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ولم يكن ليفعل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أفلم ييأس" يقول يعلم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي العالية "أفلم ييأس" قال: قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "تصيبهم بما صنعوا قارعة" قال: السرايا. وأخرج الطيالسي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه نحوه، وزاد "أو تحل قريباً من دارهم" قال: أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله، قال: فتح مكة. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "قارعة" قال: نكبة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عنه قارعة قال: عذاب من السماء، أو تحل قريباً من دارهم: يعني نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله آباءهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" قال: يعني بذلك نفسه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء في الآية قال: الله تعالى قائم بالقسط والعدل على كل نفس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "أم بظاهر من القول" قال: الظاهر من القول هو الباطل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: "مثل الجنة" قال: نعت الجنة، ليس للجنة مثل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم التيمي في قوله: "أكلها دائم" قال: لذاتها دائمة في أفوائهم.

وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ

اختلف المفسرون في تفسير الكتاب المذكور فقيل: هو التوراة والإنجيل، والذين يفرحون بما أنزل إلى رسول الله هم من أسلم من اليهود والنصارى. وقيل الذين يفرحون هم أهل الكتابين لكون ذلك موافقاً لما في كتبهم مصدقاً له، فعلى الأول يكون المراد بقوله: "ومن الأحزاب من ينكر بعضه" من لم يسلم من اليهود والنصارى، وعلى الثاني يكون المراد به المشركين من أهل مكة ومن يماثلهم، أو يكون المراد به البعض من أهل الكتابين: أي من أحزابهما، فإنهم أنكروه لما يشتمل عليه من كونه ناسخاً لشرائعهم فيتوجه فرح من فرح به منهم إلى ما هو موافق لما في الكتابين، وإنكار من أنكر منهم إلى ما خالفهما، وقيل المراد بالكتاب القرآن، والمراد بمن يفرح به المسلمون، والمراد بالأحزاب المتحزبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين واليهود والنصارى، والمراد بالبعض الذي أنكروه من خالف ما يعتقدونه على اختلاف اعتقادهم. واعترض على هذا بأن فرح المسلمين بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره. وأجيب عنه بأن المراد زيادة الفرح والاستبشار. وقال كثير من المفسرين: إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فأنزل الله "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" ففرحوا بذلك، ثم لما بين ما يحصل بنزول القرآن من الفرح للبعض والإنكار للبعض صرح بما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم ذلك، فقال "قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به" أي لا أشرك به بوجه من الوجوه: أي قل لهم يا محمد إلزاماً للحجة ورداً للإنكار إنما أمرت فيما أنزل إلي بعبادة الله وتوحيده، وهذا أمر اتفقت عليه الشرائع وتطابقت على عدم إنكاره جميع الملل المقتدية بالرسل، وقد اتفق القراء على نصب ولا أشرك به عطفاً على أعبد. وقرأ أبو خليد بالرفع على الاستئناف، وروى هذه القراءة عن نافع " إليه أدعو " أي إلى الله لا إلى غيره أو إلى ما أمرت به وهو عبادة الله وحده، والأول أولى لقوله " وإليه مآب " فإن الضمير لله سبحانه: أي إليه وحده: لا إلى غيره مرجعي.

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ

ثم ذكر بعض فضائل القرآن، وأوعد على الإعراض عن اتباعه مع التعرض لرد ما أنكروه من اشتماله على نسخ بعض شرائعهم فقال: 37- "وكذلك أنزلناه حكماً عربياً" أي مثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا القرآن مشتملاً على أصول الشرائع وفروعها، وقيل المعنى: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب، ونريد بالحكم ما فيه من الأحكام أو حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، وانتصاب حكماً على الحال "ولئن اتبعت أهواءهم" التي يطلبون منك موافقتهم عليها كالاستمرار منك على التوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتك لشيء مما يعتقدونه "بعد ما جاءك من العلم" الذي علمك الله إياه " ما لك من الله " أي من جنابه "من ولي" يلي أمرك وينصرك "ولا واق" يقيك من عذابه، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريض لأمته، واللام في ولئن اتبعت هي الموطئة للقسم. ومالك ساد مسد جواب القسم والشرط.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ

38- "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية" أي إن الرسل الذين أرسلناهم قبلك هم من جنس البشر لهم أزواج من النساء ولهم ذرية توالدوا منهم ومن أزواجهم، ولم نرسل الرسل من الملائكة الذين لا يتزوجون ولا يكون لهم ذرية. وفي هذا رد على من كان ينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجه بالنساء: أي أن هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه "وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله" أي لم يكن لرسول من الرسل أن يأتي بآية من الآيات، ومن جملتها ما اقترحه عليه الكفار إلا بإذن الله سبحانه. وفيه رد على الكفار حيث اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات ما اقترحوا بما سبق ذكره "لكل أجل كتاب" أي لكل أمر مما قضاه الله، أو لكل وقت من الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب عند الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير. والمعنى: لكل كتاب أجل: أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل ووقت معلوم كقوله سبحانه: " لكل نبإ مستقر " وليس الأمر على حسب إرادة الكفار واقتراحاتهم: بل على حسب ما يشاؤه ويختاره.

يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ

39- "يمحو الله ما يشاء ويثبت" أي يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه، يقال محوت الكتاب محواً إذا أذهبت أثره. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم "ويثبت" بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر، ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم، وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة، وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه الثواب والعقاب، وقيل يمحو ما يشاء من الرزق، وقيل يمحو من الأجل، وقيل يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وقيل يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء، وقيل يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة، وقيل يمحو الآباء وثبت الأبناء، وقيل يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله: "فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة" وقيل يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه ويثبت ما يشاء فيرده إلى صاحبه، وقيل يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها، وقيل يمحو الدنيا ويثبت الآخرة، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره، والأول أولى كما تفيده ما في قوله: ما يشاء من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله "لكل أجل كتاب" ومع قوله "وعنده أم الكتاب" أي أصله، وهو اللوح المحفوظ، فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "جف القلم" وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله سبحانه، وقيل إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "يفرحون بما أنزل إليك" قال: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرحوا بكتاب الله وبرسوله وصدقوا به "ومن الأحزاب من ينكر بعضه" يعني اليهود والنصارى والمجوس. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية: قال هؤلاء من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يفرحون بذلك، ومنهم من يؤمن به، ومنهم من لا يؤمن به "ومن الأحزاب من ينكر بعضه" قال: الأحزاب الأمم اليهود والنصارى والمجوس. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: " وإليه مآب " قال: إليه مصير كل عبد. وأخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتل. وقرأ قتادة "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن هشام قال: دخلت على عائشة فقلت: إني أريد أن أتبتل؟ قالت لا تفعل، أما سمعت الله يقول "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية" وقد ورد في النهي عن التبتل والترغيب في النكاح ما هو معروف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل "ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله" ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر، فأنزلت هذه الآية تخويفاً لهم ووعيداً لهم "يمحو الله ما يشاء ويثبت" إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا شيئاً، ويحدث الله في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله "يمحو الله ما يشاء ويثبت" قال: ينزل الله في كل شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فيدبر أمر السنة إلى السنة فيمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد سبق له خير حتى يموت على طاعة الله. وأخرج ابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضاً في الآية قال: هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت، وعنده أم الكتاب: أي جملة الكتاب. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال "إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت، والدفتان لوحان: لله كل يوم ثلاث وستون لحظة يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب". وإسناده عند ابن جرير: هكذا حدثنا محمد بن شهر بن عسكر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس فذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت" الحديث. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بإسناد. قال السيوطي: ضعيف عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والممات". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً بنحوه. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال "لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر". وأخرج ابن جرير عن قيس بن عباد قال العاشر من رجب وهو يوم يمحو الله فيه ما يشاء. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عنه نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال وهو يطوف بالبيت اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله: "يمحو الله ما يشاء ويثبت" قال: يبدل الله ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله "وعنده أم الكتاب" يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب: الناسخ والمنسوخ، ما يبدل، وما يثبت كل ذلك في كتاب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "وعنده أم الكتاب" قال: الذكر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن يسار عن ابن عباس أنه سأل كعباً عن أم الكتاب؟ فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عالمون، فقال لعلمه كن كتاباً، فكان كتاباً.

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ

40- "وإما نرينك" ما زائدة وأصله: وإن نرك "بعض الذي نعدهم" من العذاب كما وعدناهم بذلك بقولنا: "لهم عذاب في الحياة الدنيا"، وبقولنا "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة"، والمراد أريناك بعض ما نعدهم قبل موتك، أو توفيناك قبل إراءتك لذلك "فإنما عليك البلاغ" أي فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم "وعلينا الحساب" أي محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به، وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته، ويصدق نبوته فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

41- "أولم يروا" يعني أهل مكة، والاستفهام للإنكار: أي أولم ينظروا "أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" أي نأتي أرض الكفر كمكة ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين منها شيئاً فشيئاً. قال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر، يقول: أو لم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم، فيكف لا يعتبرون؟ وقيل إن معنى الآية: موت العلماء والصلحاء. قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف، وقد قال ابن الأعرابي: الطرف الرجل الكريم. قال القرطبي: وهذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلا أن يحمل على موت أحبار اليهود والنصارى وقيل المراد من الآية: خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها، وقيل المراد بالآية: هلاك من هلك من الأمم، وقيل المراد: نقص ثمرات الأرض، وقيل المراد: جور ولاتها حتى تنقص "والله يحكم لا معقب لحكمه" أي يحكم ما يشاء في خلقه، فيرفع هذا ويضع هذا، ويحيي هذا ويميت هذا، ويغني هذا ويفقر هذا، وقد حكم بعزة الإسلام وعلوه على الأديان، وجملة "لا معقب لحكمه" في محل نصب على الحال، وقيل معترضة: والمعقب: الذي يكر على الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يقفيه بالرد والإبطال. قال الفراء: معناه لا راد لحكمه: قال: والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه، ولا يستدرك أحد عليه، والمراد من الآية أنه لا يتعقب أحد حكم الله سبحانه بنقص ولا تغيير "وهو سريع الحساب" فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته على السرعة.

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ

42- "وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً" أي قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل فكادوهم وكفروا بهم، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم، وأن المكر كله لله، فقال "فلله المكر جميعاً" لا اعتداد بمكر غيره، ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره، فقال: "يعلم ما تكسب كل نفس" من خير وشر فيجازيها على ذلك، ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها كان المكر كله له، لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون. وقال الواحدي: إن مكر الماكرين مخلوق فلا يضر إلا بإرادته، وقيل فالمعنى: فلله جزاء مكر الماكرين " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "الكافر" بالإفراد، وقرأ الباقون الكفار بالجمع: أي سيعلم جنس الكافر لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا، أو في الدار الآخرة، أو فيهما، وقيل المراد بالكافر: أبو جهل.

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ

43- "ويقول الذين كفروا لست مرسلاً" أي يقول المشركون أو جميع الكفار: لست يا محمد مرسلاً إلى الناس من الله، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم" فهو يعلم صحة رسالتي، وصدق دعواتي، ويعلم كذبكم "ومن عنده علم الكتاب" أي علم جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل، فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري ونحوهم، وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك، وقيل المراد بالكتاب والقرآن ومن عنده علم منه هم المسلمون، وقيل المراد من عنده علم اللوح المحفوظ، وهو الله سبحانه واختار هذا الزجاج وقال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره. وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ننقصها من أطرافها" قال: ذهاب العلماء. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "ننقصها من أطرافها" قال: موت علمائها وفقهائها وذهاب خيار أهلها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال: موت العلماء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: يعني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان ينتقص له ما حوله من الأرضين ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون. وقال الله في سورة الأنبياء "نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون". بل نبي الله وأصحابه هم الغالبون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: نقصان أهلها وبركتها. وأخرج ابن المنذر عنه قال: إنا تنقص الأنفس والثمرات وأما الأرض فلا تنقص. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: أولم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية منها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد "والله يحكم لا معقب لحكمه" ليس أحد يتعقب حكمه فيرده كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيرده. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: "قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجدني في الإنجيل؟ قال لا، فأنزل الله "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب"". يقول عبد الله بن سلام، وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد، ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أني الذي أنزلت في "ومن عنده علم الكتاب"؟ قالوا: اللهم نعم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس "ومن عنده علم الكتاب" قال: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال: كان قوم من أهل الكتاب يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن مردويه وابن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "ومن عنده علم الكتاب" قال ومن عند الله علم الكتاب. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ "ومن عنده علم الكتاب" يقول: ومن عند الله علم الكتاب. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله: "ومن عنده علم الكتاب" أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف وهذه السورة مكية؟ وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "ومن عنده علم الكتاب" قال: جبريل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هو الله.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس