islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
14756

38-ص

ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ

آياتها ست وثمانون، وقيل خمس وثمانون، وقيل ثمان وثمانون آية وهي مكية: قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة ص بمكة وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: " لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقى عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم. وتقول وتقول، قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً، قالوا فما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: "أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب" فنزل فيهم "ص والقرآن ذي الذكر" إلى قوله: "بل لما يذوقوا عذاب"." قوله: 1- "ص" قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور فإنها ساكنة الأواخر على الوقف. وقرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن أبي عبلة وأبو السماك بكسر الدال من غير تنوين، ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين، وقيل وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض -والمعنى صاد القرآن بعملك: أي عارضة بعملك وقابله فاعمل به، وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري وقال: إنه فسر قراءته هذه بهذا، وعنه أن المعنى: اتله وتعرض لقراءته. وقرأ عيسى بن عمر: الصاد بفتح الدال، والفتح لالتقاء الساكنين، وقيل نصب على الإغراء. وقيل معناه: صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وروي عن ابن أبي إسحاق أيضاً أنه قرأ صاد بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات. وقرأ هارون الأعور وابن السميفع صاد بالصم من غير تنوين على البناء نحو منذ وحيث. وقد اختلف في معنى صاد فقال الضحاك: معناه صدق الله. وقال عطاء: صدق محمد. وقال سعيد بن جبير: هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقال محمد بن كعب: هو مفتاح اسم الله. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الله. وروي عنه أنه قال: هو اسم من أسماء الرحمن. وقال مجاهد: هو فاتحة السورة. وقيل هو مما استأثر الله بعلمه، وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة. قيل وهو إما اسم للحروف مسروداً على نمط التعبد، أو اسم للسورة، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار اذكر أو اقرأ، والواو في قوله: "والقرآن ذي الذكر" هي واو القسم، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره وعلو محله، ومعنى "ذي الذكر" أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شيء. قال مقاتل: معنى "ذي الذكر" ذي البيان. وقال الضحاك: ذي الشرف كما في قوله: "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم" أي شرفكم، وقيل: أي ذي الموعظة. واختلف في جواب هذا القسم ما هو؟ فقال الزجاج والكسائي والكوفيون غير الفراء: إنه قوله: "إن ذلك لحق" وقال الفراء: لا نجده مستقيماً لتأخره جداً عن قوله: "والقرآن" ورجح هو وثعلب أن الجواب قوله: "كم أهلكنا" وقال الأخفش: الجواب هو "إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب" وقيل هو صاد، لأن معناه حق، فهو جواب لقوله والقرآن كما تقول حقاً والله، وجب والله. ذكره ابن الأنبارين وروي أيضاً عن ثعلب والفراء، وهو مبني على أن جواب القسم يجوز تقدمه وهو ضعيف. وقيل الجواب محذوف، والتقدير: والقرآن ذي الذكر لتبعثن ونحو ذلك. وقال ابن عطية تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار، والقول بالحذف أولى. وقيل إن قوله ص مقسم به، وعلى هذا القول تكون الواو في والقرآن للعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه، وأنه حق، وأنه ليس بمحل للريب.

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ

قال سبحانه: 2- "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" فأضرب عن ذلك وكأنه قال لا ريب فيه قطعاً، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه. بل هم في عزة عن قبول الحق: أي تكبر وتجبر. وشقاق: أي وامتناع عن قبول الحق، والعزة عند العرب: الغلبة والقهر، يقال: من عز بز أي من غلب سلب، ومنه و "عزني في الخطاب" أي غلبني، ومنه قول الشاعر: يعز على الطريق بمنكبيه كما انترك الخليع على القداح والشقاق: مأخوذ من الشق وقد تقدم بيانه.

كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ

ثم خوفهم سبحانه وهددهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار فقال 3- "كم أهلكنا من قبلهم من قرن" يعني الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل: أي كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين كانوا أمنع من هؤلاء وأشد قوة وأكثر أموالاً، وكم هي الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، و من قرن تمييز، و من في من قبلهم هي لابتداء الغاية "فنادوا ولات حين مناص" النداء هنا: هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص. قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت والتأخر. ولات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن. وقال النحويون: هي لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم: رب وربت، وثم وثمت قال الفراء: النوص التأخر، وأنشد قول امرئ القيس: أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص قال: يقال يناص عن قرنه ينوص نوصاً: أي فر وزاغ. قال الفراء: ويقال ناص ينوص: إذا تقدم. وقيل المعنى: أنه قال بعضهم لبعض مناص: أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص، فقال الله: "ولات حين مناص" قال سيبويه: لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر: أي ليس حيننا حين مناص. قال الزجاج: التقدير وليس أواننا. قال ابن كيسان: والقول كما قال سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه قال المبرد والأخفش. قال الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش: والتاء تكتب منقطعة عن حين، وكذلك هي في المصاحف. وقال أبو عبيد: تكتب متصلة بحين، فيقال ولا تحين ومنه قول أبي وجرة السعدي: العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر: تذكر حب ليلى لات حينا وأمسى الشيب قد قطع القرينا قال أبو عبيد: لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن. قلت: بل قد يزيدونها في غير ذلك كما في قول الشاعر: فلتعرفن خلائقاً مشمولة ولتندمن ولات ساعة مندم وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلاً به على أن من العرب من يخفض بها، وجملة "ولات حين مناص" في محل نصب على الحال من ضمير نادوا. قرأ الجمهور لات بفتح التاء، وقرئ لات بالكسر كجير.

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ

4- "وعجبوا أن جاءهم منذر منهم" أي عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزة وشقاق أن جاءهم منذر منهم: أي رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمروا على الكفر، وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي من أن جاءهم، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم "وقال الكافرون هذا ساحر كذاب" قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر: أي هذا المدعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات كذاب فيما يدعيه من أن الله أرسله. قيل ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالواه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر.

أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ

ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من التوحيد وما نفاه من الشركاء لله فقالوا: 5- "أجعل الآلهة إلهاً واحداً" أي صيرها إلهاً واحداً وقصرها على الله سبحانه "إن هذا لشيء عجاب" أي لأمر بالغ العجاب بالضم والعجاب بالتشديد أكثر منه قرأ الجمهور عجاب مخففاً. وقرأ علي والسلمي وعيسى بن عمر وابن مقسم بتشديد الجيم. قال مقاتل: عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة، قيل والعجاب بالتخفيف والتشديد يدلان على أنه قد تجاوز الحد في العجب، كما يقال الطويل الذي فيه طول، والطوال الذي قد تجاوز حد الطول وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدد الجيم لا بالمخفف، وقد قدمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات.

وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ

6- "وانطلق الملأ منهم" المراد بالملأ: الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز أي انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين "أن امشوا" أي قائلين لبعضهم بعضاً امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه "واصبروا على آلهتكم" أي اثبتوا على عبادتها، وقيل المعنى: وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام امشوا واصبروا على آلهتكم، و أن في قوله: "أن امشوا" هي المفسرة للقول المقدر، أو لقوله وانطلق لأنه مضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر أو للمذكور: أي بأن امشوا. وقيل المراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها: أي اجتمعوا وأكثروا، وهو بعيد جداً، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول، وجملة "إن هذا لشيء يراد" تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر: أي يريده محمد بنا وبآلهتنا، ويود تمامه ليعلو علينا، وتكون له أتباعاً فيتحكم فينا بما يريد، فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه والتنفير عنه. وقيل المعنى: إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده فهو كائن لا محالة، فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى: إن دينكم لشيء يراد: أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه، والأول أولى.

مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ

7- "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة" أي ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة. وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام، كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي. وقال مجاهد: يعنون ملة قريش، وروي مثله عن قتادة أيضاً. وقال الحسن: المعنى ما سمعنا: أن هذا يكون آخر الزمان. وقيل المعنى: ما سمعنا من اليهود والنصارى أن محمد رسول "إن هذا إلا اختلاق" أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه.

أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ

ثم استنكروا أن يخص الله ورسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا: 8- "أأنزل عليه الذكر من بيننا" والاستفهام للإنكار: أي كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والأشراف. قال الزجاج: قالوا كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ونحن أكبر سناً وأعظم شرفاً منه، وهذا مثل قولهم: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم بين السبب الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فقال: "بل هم في شك من ذكري" أي من القرآن أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله "بل لما يذوقوا عذاب" أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن ولم يشكوا فيه.

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ

9- "أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب" أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا، فما لهم ولإنكار ما تفضر الله به على هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته. والمعنى: بل أعندهم، لأن أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة. والعزيز الغالب القاهر. والوهاب: المعطي بغير حساب.

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ

10- "أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما" أي بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء، وقوله: "فليرتقوا في الأسباب" جواب شرط محذوف: أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء وإلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون، أو فليصعدوا، وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم. والأسباب: أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها. قاله مجاهد وقتادة، ومنه قول زهير: ولو رام أسبابا السماء بسلم قال الربيع بن أنس: الأسباب أدق من الشعر، وأشد من الحديد ولكن لا ترى. وقال السدي "في الأسباب" في الفضل والدين. وقيل فليعملوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة وهو قول أبي عبيدة. وقيل الأسباب الحبال: يعني إن وجدوا حبالاً يصعدون فيها إلى السماء فعلوا، والأسباب عند أهل اللغة كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان. وفي هذا الكلام تهكم بهم وتعجيز لهم.

جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ

11- "جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب" هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم والظفر بهم، وجند مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم جند، يعني الكفار مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بهم ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك من الكيد، و ما في قوله: ما هنالك هي صفة لجند لإفادة التعظيم والتحقير: أي جند أي جند. وقيل هي زائدة، يقال هزمت الجيش كسرته، وتهزمت القرية: إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدم، وهو قوله: "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإن أسلب عزهم وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك ولله الحمد في بدر وفيما بعده من مواطن الله. وقد أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن "ص" فقال: لا ندري ما هو. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ص محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عنه "والقرآن ذي الذكر" قال: ذي الشرف. وأخرج أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: "فنادوا ولات حين مناص" قال: ليس بحين نزو ولا فرار. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه في الآية قال: نادوا النداء حين ينفعهم، وأنشد: تذكرت ليلى لات حين تذكر وقد بنت منها والمناص بعيد وأخرج عنه أيضاً في الآية قال: ليس هذا حين زوال. وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عنه أيضاً قال: لا حين فرار. وأخرج بن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وانطلق الملأ منهم" الآية قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه "وانطلق الملأ منهم" قال: أبو جهل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة" قال: النصرانية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "فليرتقوا في الأسباب" قال: في السماء.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ

لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أمثالهم ممن تقدمهم وعمل عملهم من الكفر والتكذيب، فقال: 12- "كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد" قال المفسرون: كانت له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض. وقيل المراد بالأوتاد: الجموع والجنود الكثيرة، يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون سلطانه كما تقوي الأوتاد ما ضربت عليه، فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا. قال ابن قتيبة: العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون ملكاً دائماً شديداً، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد. وقيل المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم: أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة. قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتاداً، والأوتاد جمع وتد أفصحها فتح الواو وكسر التاء، ويقال وتد بفتحها وود بإدغام التاء في الدال وودت. قال الأصمعي ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل وأنشد: لاقت على الما جديلاً واتدا ولم يكن يخلفها المواعدا

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ

13- "وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة" الأيكة الغيضة، وقد تقدم تفسيرها واختلاف القراء في قراءتها في سورة الشعراء، ومعنى "أولئك الأحزاب" أنهم الموصوفون بالقوة والكثرة كقولهم: فلان هو الرجل. وقريش وإن كانوا حزباً كما قال الله سبحانه فيما تقدم "جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب" ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً، وأقوى أبداناً، وأوسع أموالاً وأعماراً، وهذه الجملة يجوز أن تكون خبراً، والمبتدأ قوله وعاد كذا قال أبو البقاء وهو ضعيف، بل الظاهر أن عاد وما بعده معطوفات على قوم نوح، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف، أو بدلاً من الأمم المذكورة.

إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ

14- "إن كل إلا كذب الرسل" إن هي النافية، والمعنى: ما كل حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل، لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد تكذيب كل حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي كل أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل "فحق عقاب" أي فحق عليهم عقابي بتكذيبهم، ومعنى حق: ثبت ووجب، وإن تأخر فكأنه واقع بهم، وكل ما هو آت قريب. قرأ يعقوب بإثبات الياء في عقاب وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي.

وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ

15- "وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة" أي ما ينتظرون إلا صيحة، وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة. وقيل هي النفخة الثانية، وعلى الأول المراد من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار، وعلى الثاني المراد كفار الأمم المذكورة: أي ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية. وقيل المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر: صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان وجملة "ما لها من فواق" في محل نصب صفة لصيحة. قال الزجاج: فواق وفواق بفتح الفاء وضمها أي ما لها من رجوع، والفواق ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتق من الرجوع أيضاً، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، وأفاق من مرضه: أي رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد ومقاتل: إن الفواق الرجوع. وقال قتادة ما لها من مثنوية. وقال السدي: ما لها من إفاقة، وقيل ما لها من مرد. قال الجوهري: ما لها من نظرة وراحة وإفاقة، ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم، فإذا جاءت لم ترجع ولا ترد عنهم ولا تصرف منهم ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، ومنه قول الأعشى: حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت جاءت لترضع شق النفس لو رضعا والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وجمعها فيق وأفواق. قرأ حمزة والكسائي "ما لها من فواق" بضم الفاء وقرأ الباقون بفتحها. قال الفراء وأبو عبيدة: الفواق بفتح الفاء الراحة: أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشي عليه، وبالضم الانتظار.

وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ

16- "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب" لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا هذه المقالة استهزاءاً وسخرية، والقط في اللغة النصيب، من القط، وهو القطع، وبهذا قال قتادة وسعيد بن جبير. قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك قط. قال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز، والجمع القطوط، ومنه قول الأعشى: ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق ومعنى يأفق يصلح، ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله "ويستعجلونك بالعذاب". وقيل السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن حبير والسدي. وقال أبو العالية والكلبي ومقاتل: لما نزل " فأما من أوتي كتابه بيمينه " "وأما من أوتي كتابه بشماله" قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب.

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ

ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال 17- "اصبر على ما يقولون" من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها، وهذه الآية منسوخة بآية السيف "واذكر عبدنا داود ذا الأيد" لما فرغ من ذكر قرون الضلالة، وأمم الكفر والتكذيب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته بذكر قصة داود وما بعدها. ومعنى "اذكر عبدنا داود" اذكر قصته فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوة ومنه رجل أيد: أي قوي، وتأيد الشيء: تقوى والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوة على العباد. قال الزجاج: وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة، ومن قوته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي نصف الليل وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وجملة "إنه أواب" تعليل لكونه ذا الأيد، والأواب: الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه. وقيل: معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأول، يقال آب يؤوب: إذا رجع.

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ

18- "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق" أي يقدسن الله سبحانه وينزهنه عما لا يليق به. وجملة يسبحن في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان والمعجزة، وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال. وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، فهذا معنى تسبيح الجبال، والأول أولى. وقيل معنى يسبحن يصلين، و معه متعلق بسخرنا. ومعنى بالعشي والإشراق قال الكلبي: غدوة وعشية، يقال أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وذكل وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها. قال الزجاج: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت.

وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ

19- "والطير محشورة" معطوف على الجبال، وانتصاب محشورة على الحال من الطير: أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة: أي مجموعة إليه تسبح الله معه. قيل كانت تجمعها إليه الملائكة. وقيل كانت تجمعها الريح "كل له أواب" أي كل واحد من داود والجبال والطير رجاع إلى طاعة الله وأمره، والضمير في له راجع إلى الله عز وجل. وقيل الضمير لداود: أي لأجل تسبيح داود مسبح، فوضع أواب موضع مسبح، والأول أولى. وقد قدمنا أن الأواب: الكثير الرجوع إلى الله سبحانه.

وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ

20- "وشددنا ملكه" قويناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم. وقيل بكثرة الجنود "وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب" المراد بالحكمة النبوة والمعرفة بكل ما يحكم به. وقال مقاتل: الفهم والعلم. وقال مجاهد: العدل. وقال أبو العالية: العلم بكتاب الله. وقال شريح: السنة. والمراد بالفصل الخطاب الفصل في القضاء وبه قال الحسن والكلبي ومقاتل. وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود والإيمان لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذا. وقيل هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل.

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ

21- "وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب" لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة لما فيها من الأخبار العجيبة. قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين، جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة، فأتياه وهو في محرابه. قال النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد والاثنين والجماعة. ومعنى "تسوروا المحراب" أتوه من أعلى سوره ونزلوا إليه، والسور: الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهم إثنين نظراً إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع. ومنه قول الشاعر: وخصم غضاب قد نفضت لحاهم كنفض البراذين العراب المخاليا والمحراب: الغرفة، لأنهم تسوروا عليه وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس ومنه محراب المسجد. وقيل إنهما كانا إنسيين ولم يكونا ملكين.

إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ

والعامل في إذ في قوله: 22- "إذ دخلوا على داود " النبأ: أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم، وبهذا قال ابن عطية ومكي وأبو البقاء. وقيل العامل فيه أتاك. وقيل معمول للخصم. وقيل معمول لمحذوف: أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. وقيل هو معمول لتسوروا. وقيل هو بدل مما قبله. وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما "ففزع منهم" وذكل لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم ودخلوا عليه بغير إذنه ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس. قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من المتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة، وجملة "قالوا لا تخف" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم وارتفاع "خصمان" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي نحن خصمان، وجاء فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا بلفظ التثنية لما ذكر من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد والمثنى والمجموع، فالكل جائز. قال الخليل: هو كما تقول نحن فعلنا كذا: إذا كنتما إثنين. وقال الكسائي: جمع لما كان خبراً فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة أخبر الإثنان عن أنفسهما فقالا خصمان، وقوله: "بغى بعضنا على بعض" هو على سبيل الفرض والتقدير، وعلى سبيل التعريض لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان. ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق ونهياه عن الجور فقالا: "فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط" أي لا تجر في حكمك، يقال شط الرجل وأشط شططاً وإشطاطاً: إذا جار في حكمه. قال أبو عبيد: شططت لعيه وأشططت: أي جرت. وقال الأخفش: معناه لا تسرف، وقيل لا تفرط، وقيل لا تمل. والمعنى متقارب، والأصل فيه البعد، من شطت الدار: إذا بعدت. قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شيء "واهدنا إلى سواء الصراط" سواء الصراط: وسطه. والمعنى: أرشدنا إلى الحق واحملنا عليه.

إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ

23- "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة" المراد بالأخوة هنا: أخوة الدين أو الصحبة، والنعجة هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش نعجة "ولي نعجة واحدة" قال الواحدي: النعجة البقرة الوحشية، والعرب تكني عن المرأة بها، وتشبه النساء بالنعاج من البقر. قرأ الجمهور "تسع وتسعون" بكسر التاء الفوقية. وقرأ الحسن وزيد بن علي بفتحها. قال النحاس: وهي لغة شاذة، وإنما عني بـ هذا داود لأنه كان له تسع وتسعون امرأة، وعني بقوله ولي نعجة واحدة أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود كما سيأتي بيان ذلك " فقال أكفلنيها " أي ضمها إلي وانزل لي عنها حتى أكفلها وأصير بعلاً لها. قال ابن كيسان: اجعلها كفلي ونصيبي "وعزني في الخطاب" أي غلبني، يقال عزه يعزه عزاً: إذا غلبه. وفي المثل من عز بز أي من غلب سلب والاسم العزة: وهي القوة. قال عطاء: المعنى إن تكلم كان أفصح مني. وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وعازني في الخطاب أي غالبني من المعازة وهي المغالبة.

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه

24- "قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه" أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول، واللام هي الموطئة للقسم، وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر، وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما يسمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها. ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر. قال النحاس. ويقال إن خطيئة داود هي قوله: "لقد ظلمك" لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت "وإن كثيراً من الخلطاء" وهم الشركاء واحدهم خليط: وهو المخالط في المال "ليبغي بعضهم على بعض" أي يتعدى بعضهم على بعض ويظلمه غير مراع لحقه "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطاً ولا غيره "وقليل ما هم" أي وقليل هم، وما زائدة للتوكيد والتعجيب. وقيل هي موصولة، وهم مبتدأ، وقليل خبره "وظن داود أنما فتناه". قال أبو عمرو والفراء: ظن يعني أيقن. ومعنى فتناه ابتليناه، والمعنىأنه عند أن تخاصما إليه وقال ما قال علم عند ذلك أن المراد، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته. قال الواحدي: قال المفسرون: فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، فعند ذلك علم داود بما أراده. قرأ الجمهور: "فتناه" بالتخفيف للتاء وتشديد النون. وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء بالتشديد للتاء والنون ، وهي مبالغة في الفتنة. وقرأ الضحاك افتناه وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميفع "فتناه" بتخفيفهما وإسناد الفعل إلى الملكين، ورويت هذه القراءة عن السجود. قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود، فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء وأحدهما يدخل في الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة. ثم جاء في هذا على تسمية أحدهما بالآخر. وقيل المعنى للسجود راكعاً: أي مصلياً. وقيل بل كان ركوعهم سجوداً، وقيل بل كان سجودهم ركوعاً "وأناب" أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه. وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه على أقوال: الأول أنه نظر إلى امرأة الرجل التي أراد أن تكون زوجة له، كذا قال سعيد بن جبير وغيره. قال الزجاج: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، وصارت الأولى له والثانية عليه. القول الثاني أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة. الثالث أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته فاغتم لذلك أوريا، فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها. الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة. السادس أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا. وأقول الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه، ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء، فقد نبه الله على ذلك وعرض له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه فاستغفر وتاب. وقد قال سبحانه: "وعصى آدم ربه فغوى" وهو أبو البشر وأول الأنبياء، ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه.

فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ

ثم أخبر سبحانه أنه قبل استغفاره وتوبته قال: 25- "فغفرنا له ذلك" أي ذلك الذنب الذي استغفر منه. قال عطاء الخراساني وغيره: إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه وغمر رأسه. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: "فغفرنا له ذلك" تام، ثم يبتدئ الكلام بقوله: "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" الزلفى: القربة والكرامة بعد المغفرة لذنبه. قال مجاهد: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة، والمراد بحسن المآب: حسن المرجع وهو الجنة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ما لها من فواق" قال: من رجعة. "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا" قال: سألوا الله أن يعجل لهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن عدي عنه "عجل لنا قطنا" قال: نصيبنا من الجنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: "ذا الأيد" قال: القوة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأواب المسبح. وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب "فقال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الأواب الموقن. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق". وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً قال: لقد أتى علي زمان وما أدري وجه هذه الآية "يسبحن بالعشي والإشراق" حتى رأيت الناس يصلون الضحى. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه قال: كنت أمر بهذه الآية "يسبحن بالعشي والإشراق" فما أدري ما هي؟ حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح، فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى، ثم قال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من وجه آخر عنه نحوه. والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جداً قد ذكرناها في شرحنا للمنتقى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم فقال: إن هذا غصبني بقراً لي، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده، فأتي داود في منامه فقيل له: اقتل الرجل الذي استعدى، فقال: إن هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأتي الليلة الثانية في منامه فأمر أن يقتل الرجل فلم يفعل، ثم أتي الليلة الثالثة، فقيل له: اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال: إن الله أمرني أن أقتلك، قال: تقتلني بغير بينة ولا تثبت؟ قال نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك، فقال الرجل: لا تعجل لعلي حتى أخبرك، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت، فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وشدد به ملكه، فهو قول الله "وشددنا ملكه". وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه "وآتيناه الحكمة" قال: أعطي الفهم. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن أبي موسى الأشعري قال: أول من قال أما بعد داود عليه السلام "و" هو "فصل الخطاب". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول: فصل الخطاب الذي أوتي داود أما بعد. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن داود حدث نفسه إذا ابتلي أنه يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فقيل له اليوم الذي تبتلى فيه، فأخذ الزبور ودخل المحراب وأغلق باب المحراب وأخذ الزبور في حجره، وأقعد منصفاً: يعني خادماً على الباب وقال: لا تأذن لأحد علي اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون الطير، فيه من كل لون، فجعل يدور بين يديه، فدنا منه فأمكن أن يأخذه، فتناوله بيده ليأخذه فاستوفز من خلفه، فأطبق الزبور وقام إليه ليأخذه، فطار فوقع على كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فأفضى فوقع على خص فأشرف عليه لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها، فغطت جسدها أجمع بشعرها، وكان زوجها غازياً في سبيل الله، فكتب داود إلى رأس الغزاة: انظر أوريا فاجعله في حملة التابوت وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم وأما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، فاشترط عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل وكتب عليه بذلك كتاباً، فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان، وشب فتسور عليه الملكان المحراب وكان شأنهما ما قص الله في كتابه وخر داود ساجداً، فغفر الله له وتاب عليه. وأخرج الحاكم وصححه والبيقي في الشعب قال: ما أصاب داود بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عجب، عجب بنفسه، وذلك أنه قال: يا رب ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك أو يسبح أو يكبر وذكر أشياء، فكره الله ذلك، فقال: يا داود إن ذلك لم يكن إلابي فلولا عوني ما قويت عليه، وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً، قال: يا رب فأخبرني به، فأخبر به فأصابته الفتنة ذلك اليوم. وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً بإسناد ضعيف. وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطولة. وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "إن هذا أخي" قال: على ديني. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير والطبراني عنه قال: ما زاد داود على أن قال "أكفلنيها". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أكفلنيها" قال ما زاد داود على أن قال: تحول لي عنها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وقليل ما هم" يقول: قليل الذي هم فيه، وفي قوله: "وظن داود أنما فتناه" قال: اختبرناه. وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضاً أنه قال في السجود في ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وأخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال: سجدها داود ونسجدها شكراً. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص. وأخرج ابن مردويه عن أنس مثله مرفوعاً. وأخرج الدارمي وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "ص"، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود، فقال: إنما هي توبة ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود، فنزل فسجد". وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر يوم القيامة فعظم شأنه وشدته قال: ويقول الرحمن عز وجل لداود عليه السلام: مر بين يدي، فيقول داود: يا رب أن تدخضني خطيئتي، فيقول: خذ بقدمي، فيأخذ بقدمه عز وجل فيمر، قال: فتلك الزلفى التي قال الله "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب".

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ

لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا: أي وقفنا له 26- "يا داود إنا" استخلفناك على الأرض، أو "جعلناك خليفة" لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر "فاحكم بين الناس بالحق" أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده "ولا تتبع الهوى" أي هوى النفس في الحكم بين العباد. وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس "فيضلك عن سبيل الله" بالنصب على أنه جواب للنهي وفاعل يضلك هو الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزوماً بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما، وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة. وسبيل الله: هو طريق الحق، أو طريق الجنة، وجملة "إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد" تعليل للنهي عن اتباع الهوى والوقوع في الضلال، والباء في "بما نسوا يوم الحساب" للسببية، ومعنى النسيان الترك: أي بسبب تركهم العمل لذلك اليوم: قال الزجاج: أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين وإن كانوا ينذرون ويذكرون. وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا: أي تركوا القضاء بالعدل، والأول أولى.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ

وجملة 27- "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً" مستأنفة مقررة لما قبلها من أمر البعث والحساب: أي ما خلقنا هذه الأشياء خلقاً باطلاً خارجاً عن الحكمة الباهرة، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا، فانتصاب باطلاً على المصدرية، أو على الحالية، أو على أنه مفعول لأجله، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى المنفي قبله وهو مبتدأ، وخبره " ظن الذين كفروا " أي مظنونهم، فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض ويقولون إنه لا قيامة ولا بعث ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلاً "فويل للذين كفروا من النار" والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل: أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم.

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ

ثم وبخهم وبكتهم فقال: 28- "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض" قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة كما تعطون فنزلت، وأم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة: أي نجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا بفرائضه كالمفسدين في الأرض بالمعاصي. ثم أضرب سبحانه إضراباً آخر وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه فقال: "أم نجعل المتقين كالفجار" أي بل نجعل أتقياء المؤمنين كأشقاء الكافرين والمنافقين والمنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين، وقيل إن الفجار هنا خاص بالكافرين، وقيل المراد بالمتقين الصحابة، ولا وجه للتخصيص بغير مخصص، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ

29- "كتاب أنزلناه إليك مبارك" ارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأنزلناه إليك صفة له، ومبارك خبر ثان للمبتدأ ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب لما تقرر من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح، وقد جوزه بعض النحاة والتقدير: القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخير والبركة. وقرئ مباركاً على الحال وقوله: "ليدبروا" أصله ليتدبر فأدغمت التاء في الدار وهو متعلق بأنزلناه. وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر. قرأ الجمهور ليدبروا بالإدغام. وقرأ أبو جعفر وشيبة لتدبروا بالتاء الفوقية على الخطاب، ورويت هذه القراءة عن عاصم والكسائي، وهي قراءة علي رضي الله عنه، واوصل لتتدبروا بتاءين فحذف إحداهما تخفيفاً " وليتذكر أولو الألباب " أي ليتعظ أهل العقول، والألباب جمع لب: وهو العقل.

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ

30- "ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب" أخبر سبحانه بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولداً، ثم مدح سليمان فقال: "نعم العبد" والمخصوص بالمدح محذوف: أي نعم العبد سليمان، وقيل إن المدح هنا بقوله: نعم العبد هو لداود، والأول أولى، وجملة "إنه أواب" تعليل لما قبلها من المدح، والأواب: الرجاع إلى الله بالتوبة كما تقدم بيانه.

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ

والظرف في قوله: 31- "إذ عرض عليه" متعلق بمحذوف وهو اذكر: أي اذكر ما صدر عنه وقت عرض الصافنات الجياد عليه "بالعشي" وقيل هو متعلق بنعم، وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت، وقيل متعلق بأواب، ولا وجه لتقييد كونه أواباً بذلك الوقت، والعشي من الظهر أو العصر إلى آخر النهار، والصافنات جمع صافن. وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال القتيبي والفراء: الصافن في كلام العرب الوقف من الخيل أو غيرها، وبه قال قتادة، ومنه الحديث "من أحب أن يتمثل له الناس صفوناً فليتبوأ مقعده من النار" أي يديمون القيام له، واستدلوا بقول النابغة: لنا قبة مضروبة بفنائها عتاق المهاري والجياد والصوافن ولا حجة لهم في هذا فإنه استدلال بمحل النزاع، وهو مصادرة لأن النزاع في الصافن ماذا هو؟ وقال الزجاج هو الذي يقف على أحدى اليدين ويرفع الأخرى ويجعل على الأرض طرف الحافر منها حتى كأنه يقوم على ثلاث وهي الرجلان وإحدى اليدين، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه وهي علامة الفراهة، وأنشد الزجاج قول الشاعر: ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسير ومن هذا قول عمرو بن كلثوم: تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا فإن قوله صفونا لا بد أن يحمل على معنى غير مجرد القيام، لأن مجرد القيام قد استفيد من قوله: عاكفة عليه. وقال أبو عبيد: الصافن هو الذي يجمع يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المتخيم، والجياد جمع جواد، يقال للفرس إذا كان شديد العدو. وقيل إنها الطوال الأعناق، مأخوذ من الجيد وهو العنق، قيل كانت مائة فرس، وقيل كانت عشرين ألفاً، وقيل كانت عشرين فرساً، وقيل إنها خرجت له من البحر وكانت لها أجنحة.

فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ

32- "فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي" انتصاب حب الخير على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى آثرت. قال الفراء: يقول آثرت حب الخير، وكل من أحب شيئاً فقد آثره. وقيل انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد والناصب له أحببت، وقيل هو مصدر تشبيهي: أي حباً مثل حب الخير، والأول أولى. والمراد بالخير هنا الخيل. قال الزجاج: الخير هنا الخيل. وقال الفراء: الخير والخيل في كالم العرب واحد. قال النحاس: وفي الحديث "الخيل معقود بنواصيها الخير" فكأنها سميت خيراً لهذا. وقيل إنها سميت خيراً لما فيها من المنافع. وعن في "عن ذكر ربي" بمعنى على. والمعنى: آثرت حب الخيل على ذكر ربي: يعني صلاة العصر "حتى توارت بالحجاب" يعني الشمس ولم يتقدم لها ولكن المقام يدل على ذلك. قال الزجاج: إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر، وقد جرى هنا الدليل وهو قوله بالعشي. والتواري: الاستتار عن الأبصار والحجاب: ما يحجبها عن الأبصار. قال قتادة وكعب: الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق وهو قالف، وسمي الليل حجاباً لأنه يستر ما فيه، وقيل الضمير في قوله: "حتى توارت" للخيل: أي حتى توارت في المسابقة عن الأعين. والأول أولى.

رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ

وقوله: "ردوها علي" من تمام قول سليمان: أي أعيدوا عرضها علي مرة أخرى. قال الحسن: إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله وقال رجوها علي: أي أعيدوها. وقيل الضمير في ردوها إلى الشمس ويكون ذلك معجزة له، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر، والأول أولى، والفاء في قوله: "فطفق مسحاً بالسوق والأعناق" هي الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام والتقدير هنا: فردوها عليه. قال أبو عبيدة: طفق يفعل مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظل وبات وانتصاب مسحاً على المصدرية بفعل مقدر: أي مسح مسحاً لأنه خبر طفق لا يكون إلا فعلاً مضارعاً، وقيل هو مصدر في موضع الحال، والأول أولى. والسوق جمع ساق، والأعناق جمع عنق، والمراد أنه طفق يضرب أعناقها وسوقها، يقال مسح علاوته: أي ضرب عنقه. قال الفراء: المسح هنا القطع، قال: والمعنى أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها لأنها كانت سبب فوت صلاته، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له، وجائز أن يباح ذلك لسليمان ويحضر في هذا الوقت. وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فقال قوم: المراد بالمسح ما تقدم. وقال آخرون منهم الزهري وقتادة: إن المراد به المسح على سوقها وأعناقها لكشف الغبار عنها حباً لها. والقول الأول أولى بسياق الكلام فإنه ذكر أنه آخرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردها عليه ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك وما صده عن عبادة ربه وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردها عليه هو كشف الغبار عن سوقها وأعناقها بالمسح عليها بيده أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال: إن فساد المال لا يصدر عن النبي فإن هذا مجرد استعباد باعتبار ما هو المتقرر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح على أن إفساد المال المنهي عنه في شرعنا إنما هو مجرد إضاعته لغير غرض صحيح، وأما لغرض صحيح فقد جاز مثله في شرعنا كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر. وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض" قال: الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، والمفسدين في الأرض عتبة وشيبة والوليد. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: "الصافنات الجياد" خيل خلقت على ما ئاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "الصافنات" قال: صفون الفرس رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر، وفي قوله: "الجياد" السراع. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله: "حب الخير" قال: الماء، وفي قوله ردوها عليقال: الخيل "فطفق مسحاً" قال: عقراً بالسيف. وأخرج وابن جرير وابن المنذرعن علي بن أبي طالب قال: الصلاة التي فرط فيها سليمان صلاة العصر. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله: "إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد" قال: كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة فعقرها. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن مسعود بقوله: "حتى توارت بالحجاب" قال: توارت من وراء ياقوتة خضراء، فخضرة السماء منها. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس قال: كان سليمان لا يكلم إعظاماً له، فلقد فاتته صلاة العصر وما استطاع أحد أن يكلمه. وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "عن ذكر ربي" يقول: من ذكر ربي "فطفق مسحاً بالسوق والأعناق" قال: قطع سوقها وأعناقها بالسيف.

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ

قوله: 34- "ولقد فتنا سليمان" أي ابتليناه واختبرناه. قال الواحدي. قال أكثر المفسرين: تزوج سليمان امرأة من بنات الملوك، فعبدت الصنم في داره ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته عن ذل. وقيل إن سبب الفتنة أنه تزوج سليمان امرأة يقال لها جرادة وكان يحبها حباً شديداً، فاختصم إليه فريقان: أحدهما من أهل جرادة، فأحب أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم بالحق. وقيل إن السبب أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد. وقيل إنه تزوج جرادة هذه وهي مشركة لأنه عرض عليها الإسلام فقالت: اقتلني ولا أسلم. وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه. وقال الحسن: إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره. وقيل إنه أمر أن لا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غيرهم. وقيل إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله. وقيل غير ذلك. ثم بين سبحانه ما عاقبه به فقال: "وألقينا على كرسيه جسداً" انتصاب جسداً على أنه مفعول ألقينا، وقيل انتصابه على الحال على تأويله بالمشتق: أي ضعيفاً أو فارغاً، والأول أولى. قال أكثر المفسرين: هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان هو شيطان اسمه صخر، وكان متمرداً عليه غير داخل في طاعته، ألقى الله شبه سليمان عليه وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان، وذلك عند دخول سليمان الكنيف لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف، فجاء صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان، فقعد على سرير سليمان وأقام أربعين يوماً على ملكه وسليمان هارب. وقال مجاهد: إن شيطاناً قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، فذهب ملكه وقعد الشيطان على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن، وكان سليمان يستطعم فيقول: أتعرفونني أطعموني؟ فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه، وهو معنى قوله: "ثم أناب" أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوماً. وقيل معنى أناب: رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، وهذا هو الصواب.

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ

وتكون جملة 35- "قال رب اغفر لي" بدلاً من جملة أناب وتفسيراً له: أي اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله. ثم لما قدم التوبة والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة طلبته فقال:"وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي" قال أبو عبيدة: معنىلا ينبغي لأحد من بعدي: لا يكون لأحد من بعدي، وقيل المعنى: لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعيد لعظمته وليس هذا من سؤال نبي الله سليمان عليه السلام للدنيا وملكها والشرف بين أهلها، بل المراد بسؤاله الملك أن يتمكن به من إنفاذ أحكام الله سبحانه، والأخذ على يد المتمردين من عباده من الجن والإنس، ولو لم يكن من المقتضيات لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله، وجملة "إنك أنت الوهاب" تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده: أي فإنك كثير الهبات عظيم الموهوبات.

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ

ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته وإعطاءه لمسألته فقال: 36- "فسخرنا له الريح" أي ذللناها له وجعلناها منقادة لأمره. ثم بين كيفية التسخير لها بقوله: "تجري بأمره رخاء" أي لينة الهبوب ليس بالعاصف، مأخوذ من الرخاوة، والمعنى أنها ريح لينة لا تزعزع ولا تعصف مع قوة هبوبها وسرعة جريها، ولا ينافي هذا قوله في آية أخرى "ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره" لأن المراد أنها في قوة العاصفة ولا تعصف. وقيل إنها كانت تارة رخاء، وتارة عاصفة على ما يريده سليمان ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين "حيث أصاب" أي حيث أراد. قال الزجاج: إجماع أهل اللغة والمفسرين أن معنى حيث أصاب: حيث أراد، وحقيقة حيث قعد. وقال الأصمعي وابن الأعرابي: العرب تقول: أصاب الصواب وأخطأ الجواب. وقيل إن معنى أصاب بلغة حمير أراد وليس من لغة العرب، وقيل هو بلسان هجر، والأول أولى، وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض.

وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ

37- "والشياطين" معطوف على الريح: أي وسخرنا له الشياطين، وقوله: "كل بناء وغواص" بدل من الشياطين: أي كل بناء منهم وغواص منهم يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر فيستخرجون له الدر منه، ومن هذا قول الشاعر: إلا سليمان إذ قال الجليل له قم في البرية فاحددها عن الفند وخبر الجن إني قد أذنت لهم يبنون تذمر بالصفاح والعمد

وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ

38- "وآخرين مقرنين في الأصفاد" معطوف على كل داخل في حكم البدل، وهم مردة الشياطين سخروا له حجتى قرنهم في الأصفاد. يقال قرنهم في الجبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد: الأغلال واحدها صفد. قال الزجاج: هي السلاسل، فكل ما شددته شداً وثيقاً بالحديد وغيره فقد صفدته. قال أبو عبيدة: صفدت الرجل فهو مصفود، وصفدته فهو مصفد، ومن هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته: فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا قال يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم، والإشارة بقوله هذا إلى ما تقدم من تسخير الريح والشياطين له.

هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ

وهو بتقدير القول: أي وقلنا له: 39- "هذا عطاؤنا" الذي أعطيناكه من الملك العظيم الذي طلبته "فامنن أو أمسك" قال الحسن والضحاك وغيرهما: أي فأعط من شئت وامنع من شئت "بغير حساب" لا حساب عليك في ذلك الإعطاء أو الإمساك، أو عطاؤنا لك بغير حساب لكثرته وعظمته. وقال قتادة: إن قوله: "هذا عطاؤنا" إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع، وهذا لا وجه لقصر الآية عليه لو قدرنا أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات، فكيف يدعي اخصاص الآية به مع عدم ذكره.

وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ

40- "وإن له عندنا لزلفى" أي قربة في الآخرة "وحسن مآب" وحسن مرجع، وهو الجنة. وقد أخرج الفريابي والحكيم الترمذي والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً" قال: هو الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوماً، وكان لسليمان امرأة يقال لها جرادة، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها، فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء، فكان لا يدري أيأتيه من السماء أم من الأرض؟ وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم قال السيوطي بسند قوي عن ابن عباس قال: أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى لجرادة خاتمه، وكانت جرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته، فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال هاتي خاتمي، قالت قد أعطيته سليمان. قال أنا سليمان، قالت كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحداً يقول أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله، وقام الشيطان يحكم بين الناس، فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، فأرسوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: ينكرن من أمر سليمان شيئاً؟ قلن نعم إنه يأتينا ونحن نحيض، وما كان يأتينا قبل ذلك، فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها وقرأوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته، وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فدعا سليمان فقال: تحمل لي هذا السمك؟ قال نعم، قال بكم، قال بسمكة من هذا السمك، فحمل سليمان السمك ثم انطلق به إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر، فأرسل سليمان في طلبه، وكان شيطاناً مريداً، فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاءوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فوثب، فجعل لا يتب في مكان من البيت إلا انباط معه الرصاص فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخله في جوفه ثم شد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر، فذلك قوله: " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا " يعني الشيطان الذي كان سلط عليه. وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وألقينا على كرسيه جسداً" قال: صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن عفريتاً من الجن جعل يتفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي وإن الله أمكنني منه، فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان "وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي" فرده الله خاسئا". وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فامنن" يقول: اعتق من الجن من شئت وأمسك منهم من شئت.

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ

قوله: 41- "واذكر عبدنا أيوب" معطوف على قوله "واذكر عبدنا داود" وأيوب عطف بيان، و "إذ نادى ربه" بدل اشتمال من عبدنا "أني مسني الشيطان" قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه به، ولو لم يحكه لقال إنه مسه. وقرأ عيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول. وفي قصة أيوب إرشاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره. قرأ الجمهور بضم النون من قوله: "بنصب" وصكون الصاد، فقيل هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد وأسد، وقيل هو لغة في النصب، نحو رشد ورشد. وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة وحفص ونافع في رواية عنه بضمتين، ورويت هذه القراءة عن الحسن. وقرأ أبو حيوة ويعقوب وحفص في بفتح وسكون، وهذه القراءات كلها بمعنى واحد، وإنما اختلفت القراءات باختلاف اللغات. وقال أبو عبيدة: إن النصب بفتحتين: التعب والإعياء، وعلى بقية القراءات الشر والبلاء، ومعنى قوله: "وعذاب" أي ألم. قال قتادة ومقاتل: النصب في الجسد، والعذاب في المال. قال النحاس وفيه بعد كذا قال. والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي وهو التعب والإعياء، وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب وهو الألم، وكلاهما راجع إلى البدن.

ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ

42- "اركض برجلك" هو بتقدير القول: أي قلنا له: اركض برجلك كذا قال الكسائي: والركض الدفع بالرجل، يقال ركض الدابة برجله: إذا ضربها بها. وقال المبرد: الركض التحريك. قال الأصمعي: يقال ركضت الدابة، ولا يقال ركضت هي، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه، ولا فعل لها في ذلك، وحكى سيبويه: ركضت الدابة فركضت، مثل جبرت العظم فجبر "هذا مغتسل بارد وشراب" هذا أيضاً من مقول القول المقدر: المغتسل هو الماء الذي يغتسل به، والشراب الذي يشرب منه. وقيل إن المغتسل هو المكان الذي يغتسل فيه. قال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية فاغتسل من إحداهما فأذهب الله ظاهر دائه، وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه، وكذا قال الحسن. وقال مقاتل نبعث عين جارية فاغتسل فيها فخرج صحيحاً، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماءاً عذباً بارداً. وفي الكلام حذف، والتقدير: فركض برجله فنبعت عين، فقلنا له هذا مغتسل إلخ، وأسند المس إلى الشيطان مع أن الله سبحانه هو الذي مسه بذلك: إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب. فقد قيل إنه أعجب بكثرة ماله، وقيل استغاثة مظلوم فلم يغثه، وقيل إنه قال ذلك على طريقة الأدب، وقيل إنه قال ذلك لأن الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه من تحسين الجزع وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك.

وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ

وقوله: 43- "ووهبنا له أهله" معطوف على مقدر كأنه قيل: فاغتسل وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله. قيل أحياهم الله بعد أن أماتهم: وقيل جمعهم بعد تفرقهم، وقيل غيرهم مثلهم، ثم زاده مثلهم معهم، وهو معنى قوله: "ومثلهم معهم" فكانوا مثل ما كانوا من قبل ابتلائه، وانتصاب قوله: "رحمةً منا وذكرى لأولي الألباب" على أنه مفعول لأجله: أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه، وليتذكر بحاله أولو الألباب فيصبروا على الشدائد كما صبر، وقد تقدم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده.

وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ

44- "وخذ بيدك ضغثاً" معطوف على اركض، أو على وهبنا، أو التقدير وقلنا له "خذ بيدك ضغثاً" والضغث: عثكال النخل بشماريخه، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان وأصل المادة تدل على جمع المختلطات. قال الواحدي: الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ "فاضرب به ولا تحنث" أي اضرب بذلك الضغث ولا تحنث في يمينك، والحنث: الإثم، ويطلق على فعل ما حلف على تركه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة. واختلف في سبب ذلك، فقال سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة. وقيل باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئاً وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها. وقيل جاءها إبليس في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب، فقال أداويه على أنه إذا برئ قال أنت شفيتني، لا أريد جزاءً سواه، قالت نعم، فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها. وقد اخلتف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك. قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلاناً مائة جلدة أو ضرباً ولم يقل ضرباً شديداً ولم ينو بقلبه فكيفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية، حكاه ابن المنذر عنه وعن أبي ثور وأصحاب الرأي. وقال عطاء: هو خاص بأيوب ورواه ابن القاسم عن مالك. ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال: "إنا وجدناه صابراً" أي على البلاء الذي ابتليناه به، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وأهله وولده فصبر "نعم العبد" أي أيوب "إنه أواب" أي رجاع إلى الله بالاستغفار والتوبة.

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ

45- "واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب" قرأ الجمهور "عبادنا" بالجمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير "عبدنا" بالإفراد. فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم وإسحاق ويعقوب عطف بيان، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم. وقد يقال لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه. وقيل إن إبراهيم وما بعده بدل، أو النصب بإضمار أعني وعطف البيان أظهر، وقراءة الجمهور أبين وقد اختارها أبو عبيد وأبو حاتم "أولي الأيدي والأبصار" الأيدي، جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة. قال قتادة: أعطوا قوة في العبادة ونصراً في الدين. قال الواحدي: وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والمفسرون. قال النحاس: أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم. وأما الأيدي فمختلف في تأويلها، فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين، وقوم يقولون: الأيدي جمع يد وهي النعمة: أي هم أصحاب النعم: أي الذين أنعم الله عز وجل عليهم، وقيل هم أصحاب النعم على الناس والإحسان إليهم، لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيراً، واختار هذا ابن جرير. قرأ الجمهور أولي الأيدي بإثبات الياء في الأيدي. وقرأ ابن مسعود والأعمش والحسن وعيسى الأيد بغير ياء، فقيل معناها معنى القراءة الأولى، وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها، وقيل الأيد: القوة.

إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ

وجملة 46- "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار" تعليل لما وصفوا به. قرأ الجمهور "بخالصة" بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون ذكرى منصوباً به، أو بمعنى الإخلاص، فيكون ذكرى منصوباً به، أو بمعنى الخلوص فيكون ذكرى مرفوعاً به، أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، وذكرى بدل منها أو بيان لها أو بإضمار أعني أو مرفوعة بإضمار مبتدأ، والدار يجوز أن تكون مفعولاً به لذكرى وأن تكون ظرفاً: إما على الاتساع، أو على إسقاط الخافض، وعلى كل تقدير فخالصة صفة لموصوف محذوف والباء للسببية: أي بسبب خصلة خالصة. وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى على أن الإضافة للبيان، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى، أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله والفاعل محذوف. أي بأن أخلصوا ذكرى الدار، أو مصدر بمعنى الخلوص مضافاً إلى فاعله. قال مجاهد: معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها. وقال قتادة: كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله. وقال السدي: أخلصوا بخوف الآخرة. قال الواحدي: فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص والذكرى بمعنى التذكر: أي خلص لهم تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون التأهب له ويزهدون في الدنيا، وذلك من شأن الأنبياء. وأما من أضاف فالمعنى: أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل، والذكرى على هذا المعنى الذكر.

وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ

47- "وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار" الاصطفاء: الاختيار، والأخيار جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشدداً ومخففاً، والمعنى: إنهم عندنا لمن المختارين من أنباء جنسهم من الأخيار.

وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ

48- "واذكر إسماعيل" قيل وجه إفراده بالذكر بعد ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا "واليسع وذا الكفل" قد تقدم ذكر اليسع، والكلام فيه في الأنعام، وتقدم ذكر ذا الكفل والكلام فيه في سورة الأنبياء، والمراد من ذكر هؤلاء أنهم من جملة من صبر من الأنبياء وتحملوا الشدائد في دين الله. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر "وكل من الأخيار" يعني الذين اختارهم الله لنبوته واصطفاهم من خلقه.

هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ

49- "هذا ذكر" الإشارة إلى ما تقدم من ذكر أوصافهم: أي هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به أبداً "وإن للمتقين لحسن مآب" أي لهم مع هذا الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة، والمآب: المرجع، والمعنى: أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنته.

جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ

ثم بين حسن المرجع فقال: 50- "جنات عدن" قرأ الجمهور جنات بالنصب بدلاً من حسن مآب، سواء كان جنات عدن معرفة أو نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس، ويجوز أن يكون جنات عطف بيان إن كانت نكرة، ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة وقد جوزه بعضهم. ويجوز أن يكون نصب جنات بإضمار فعل. والعدن في الأصل الإقامة، يقال عدن بالمكان: إذا أقام فيه وقيل هو اسم لقصر في الجنة، وقرئ برفع جنات على أنها مبتدأ. وخبرها مفتحة أو على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي هن جنات عدن، وقوله: "مفتحة لهم الأبواب" حال من جنات، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، والأبواب مرتفعة باسم الفعول: كقوله: "وفتحت أبوابها" والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر، أي منها، أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها. وقيل إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات، وبه قال أبو علي الفارسي: أي مفتحة هي الأبواب. قال الفراء: المعنى مفتحة أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة. وقال الزجاج: المعنى مفتحة لهم الأبواب منها. قال الحسن: إن الأبواب يقال لها: انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق، وقيل تفتح لهم الملائكة الأبواب.

مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ

وانتصاب 51- "متكئين فيها" على الحال من ضمير لهم، والعامل فيه مفتحة، وقيل هو حال من "يدعون" قدمت على العامل "فيها" أي يدعون في الجنات حال كونهم متكئين لدلالة الأول عليه، وعلى جعل متكئين حالاً من ضمير لهم، والعامل فيه مفتحة، فتكون جملة يدعون مستأنفة لبيان حالهم. وقيل إن يدعون في محل نصب على الحال من ضمير متكئين.

وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ

52- "وعندهم قاصرات الطرف أتراب" أي قاصرات طرفهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، وقد مضى بيانه في سورة الصافات. والأتراب: المتحجات في السن، أو المتساويات في الحسن. وقال مجاهد: معنى أتراب أنهن متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن. وقيل أتراباً للأزواج. والأتراب جمع ترب، واشتقاقه من التراب لأنه يمسهن في وقت واحد لاتحاد مولدهن.

هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ

53- "هذا ما توعدون ليوم الحساب" أي هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء، أو المعنى في يوم الحساب. وقرأ الجمهور "ما توعدون" بالفوقية على الخطاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ويعقوب بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله وإن للمتقين فإنه خبر.

إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ

54- "إن هذا لرزقنا" أي إن هذا المذكور من النعم والكرامات لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم "ما له من نفاد" أي انقطاع ولا يفنى أبداً، ومثله قوله: "عطاء غير مجذوذ" فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها. وقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن الشيطان عرج إلى السماء، فقال: يا رب سلطني على أيوب، قال الله: لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده، فنزل فجمع جنوده، فقال لهم: قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم، فصاروا نيراناً ثم صاروا ماء، فبينما هم في المشرق إذا هم بالمغرب، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق. فأرسل طائفة منهم إلى زرعه، وطائفة إلى أهله، وطائفة إلى بقره، وطائفة إلى غنمه وقال: إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض، فجاء صاحب الزرع فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك ناراً فأحرقته؟ ثم جاء صاحب الإبل، فقال، يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدواً فذهب بها؟ ثم جاءه صاحب الغنم فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على غنمك عدواً فذهب بها؟ وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون ويشربون إذا هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم؟ فقال له أيوب: فأين كنت؟ قال، كنت معهم، قال: فكيف انفلت؟ قال انفلت، قال: أيوب أنت الشيطان، ثم قال أيوب: أنا اليوم كيوم ولدتني أمي، فقام فحلق رأسه وقام يصلي، فرن إبليس رنة سمعها أهل السماء وأهل الأرض، ثم عرج إلى السماء فقال: أي رب إنه قد اعتصم فسلطني عليه فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك، قال: قد سلطتك على جسده ولم أسطلك على قلبه، فكانت امرأته تسعى عليه، حتى قالت له: الا ترى يا أيوب قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعث قروني برغيف فأطعمتك فادع الله أن يشفيك ويريحك قال: ويحك كنا في النعيم سبعين عاماً فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاماً، فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل يوماً فدعا بيده، ثم قال قم، فقام فنحاه عن مكانه وقال: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عين، فقال اغتسل، فاغتسل منها، ثم جاء أيضاً فقال: اركض برجلك فنبعت عين أخرى فقال له اشرب منها، وهو قوله: "اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله أين المبتلى الذي كان ها هنا؟ لعل الكلاب قد ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله عليه جسدي، ورد عليه ماله وولده عياناً ومثلهم معهم، وأمطر عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه وينشر كساءه ويأخذه فيجعل فيه، فأوحى الله إليه يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك. وفي هذا نكارة شديدة فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلط عليه هذا التسليط العظيم. وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتاً يداوي الناس، فقالت امرأة أيوب: يا عبد الله إن ها هنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره. فأتت أيوب فذكرت له ذلك، فقال: ويحك ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً فيضربها به، فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "وخذ بيدك ضغثاً" قال: هو الأسل. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: الضغث القبض من المرعى الرطب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الضغث الحزمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: حملت وليدة في بني ساعدة من زنا، فقيل لها ممن حملك؟ قالت من فلان المقعد، فسئل المقعد فقال صدقت، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر نحوه من طريق أخرى عن أبي أماة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة. وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد نحوه. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: أيوب رأس الصابرين يوم القيامة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: " أولي الأيدي " قال: القوة في العبادة "والأبصار" قال: الفقه في الدين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "أولي الأيدي" قال: النعمة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار" قال: أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها.

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ

قوله: 55- "هذا" قال الزجاج: هذا خبر مبتدإ محذوف: أي الأمر هذا فيوقف على هذا. قال ابن الأنباري: وهذا وقف حسن ثم يبتدئ "وإن للطاغين" ويجوز أن يكون هذا مبتدأ وخبره محذوف: أي هذا كما ذكر، أو هذا ذكر. ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشر بعد أن ذكر ما لأهل الخير فقال: "وإن للطاغين لشر مآب" أي الذين طغوا على الله وكذبوا رسله لشر مآب لشر منقلب بنقلبون إليه.

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ

ثم بين ذلك فقال: 56- "جهنم يصلونها" وانتصاب جهنم على أنها بدل من شر مآب، أو منصوبة بأعني، ويجوز أن يكون عطف بيان على قول البعض كما سلف قريباً، ويجوز أن يكون منصوباً على الاشتغال: أي يصلون جهنم يصلونها، ومعنى يصلونها يدخلونها، وهو في محل نصب على الحالية "فبئس المهاد" أي بئس ما مهدوا لأنفسهم، وهو الفراش، مأخوذ من مهد الصبي، ويجوز أن يكون المراد بالمهد الموضع، والمخصوص بالذم محذوف: أي بئس المهاد هي كما في قوله: "لهم من جهنم مهاد" شبه الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالمهاد.

هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ

57- "هذا فليذوقوه حميم وغساق" وهذا في موضع رفع بالابتداء وخبره حميم وغساق على التقدير والتأخير: أي هذا حميم وغساق فليذوقوه. قال الفراء والزجاج: تقدير الآية: هذا حميم وغساق فليذوقوه: أو يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة. والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره، والغساق ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، من قولهم غسقت عينه إذا انصبت، والغسقان الانصباب. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدإ محذوف: أي هو حميم وغساق، ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده: أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، ويجوز أن يكون حميم مرتفع على الابتداء وخبره مقدر قبله: أي منه حميم ومنه غساق، ومثله قول الشاعر: حتى ما إذا أضاء البرق في غلس وغودر البقل ملوي ومخضود أي منه ملوي ومنه مخضود، وقيل الغساق ما قتل ببرده، ومنه قيل لليل غاسق، لأنه أبرد من النهار، وقيل هو الزمهرير، وقيل الغساق المنتن، وقيل الغساق عين في جهنم يسيل منه كل ذوب حية وعقرب. وقال قتادة: هو ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم يسيل من دموع أهل النار يسقونه مع الحميم، وكذا قال ابن زيد. وقال مجاهد ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده، وتفسير الغساق بالبارد أنسب بما تقتضيه لغة العرب، ومنه قول الشاعر: إذا ما تذكرت الحياة وطيبها إلي جرى دمع من الليل غاسق أي بارد، وأنسب أيضاً بمقابلة الحميم. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين من غساق وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة بالتشديد، وهما لغتان بمعنى واحد كما قال الأخفش. وقيل معناهما مختلف، فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب، ومن شدد قال: هو اسم فاعل للمبالغة نحو ضراب وقتال.

وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ

58- "وآخر من شكله" قرأ الجمهور "وأخر" مفرد مذكر، وقرأ أبو عمرو "وآخر" بضم الهمزة على أنه جمع، وأنكر قراءة الجمهور لقوله أزواج، وأنكر عاصم الجحدري قراءة أبي عمرو وقال: لو كانت كما قرأ لقال من شكلها، وارتفاع آخر على أنه مبتدأ وخبره أزواج، ويجوز أن يكون من شكله خبراً مقدماً وأزواج مبتدأً مؤخراً والجملة خبر آخر، ويجوز أن يكون خبر آخر مقدراً: أي وآخر لهم، و "من شكله أزواج" جملة مستقلة، ومعنى الآية على قراءة الجمهور: وعذاب آخر أو مذوق آخر، أو نوع آخر من شكل ذلك المذوق أو النوع المتقدم. وإفراد الضمير في شكله على تأويل المذكور: أي من شكل المذكور، ومعنى "أزواج" أجناس وأنواع وأشباه. وحاصل معنى الآية: أن لأهل النار حميماً وغساقاً وأنواعاً من العذاب من مثل الحميم والغساق. قال الواحدي: قال المفسرون: هو الزمهرير، ولا يتم هذا الذي حكاه عن المفسرين إلا على تقدير أن الزمهرير أنواع مختلفة وأجناس متفاوتة ليطابق معنى أزواج، أو على تقدير أن لكل فرد من أهل النار زمهريراً.

هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ

59- "هذا فوج مقتحم معكم" الفوج الجماعة، والاقتحام الدخول، وهذا حكاية لقول الملائكة الذين هم خزنة النار وذلك أن القادة والرؤساء إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع. قالت الخزنة للقادة: هذا فوج، يعنون الأتباع مقتحم معكم: أي داخل معكم إلى النار، وقوله: "لا مرحباً بهم" من قول القادة والرؤساء لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا لا مرحباً بهم: أي لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب السعة، والمعنى: لا كرامة لهم، وهذا إخبار من الله سبحانه بانقطاع المودة بين الكفار، وأن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة. وجملة لا مرحباً بهم دعائية لا محل لها من الإعراب، أو صفة للفوج، أو حال منه أو بتقدير القول: أي مقولاً في حقهم لا مرحباً بهم، وقيل إنها من تمام قول الخزنة. والأول أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي، وجملة "إنهم صالوا النار" تعليل من جهة القائلين لا مرحباً بهم: أي إنهم صالوا النار كما صليناها ومستحقون لها كما استحقيناها.

قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ

وجملة 60- "قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم" مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي قال الأتباع عند سماع ما قاله الرؤساء لهم بل أنتم لا مرحباً بكم: أي لا كرامة لكم، ثم عللوا ذلك بقولهم: "أنتم قدمتموه لنا" أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى لنا وأوقعتمونا فيه ودعوتمونا إليه بما كنتم تقولون لنا من أن الحق ما أنتم عليه وأن الأنبياء غير صادقين فيما جاءوا به "بئس القرار" أي بئس المقر جهنم لنا ولكم.

قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ

ثم حكى عن الأتباع أيضاً أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر، وهو 61- "قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار" أي زده عذاباً ذا ضعف، والضعف بأن يزيد عليه مثله، ومعنى من قدم لنا هذا من دعانا إليه وسوغه لنا. قال الفراء: المعنى من سوغ لنا هذا وسنه، وقيل معناه: قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى الكفر فزده عذاباً ضعفاً في النار: أي عذاباً بكفره وعذاباً بدعائه إيانا، فصار ذلك ضعفاً، ومثله قوله سبحانه: "ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار" وقوله: "ربنا آتهم ضعفين من العذاب" وقيل المراد بالضعف هنا الحيات والعقارب.

وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ

62- "وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار" قيل هو من قول الرؤساء، وقيل من قول الطاغين المذكورين سابقاً. قال الكلبي: ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم من المؤمنين معهم فيها، فعند ذلك قالوا: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار. وقيل يعنون فقراء المؤمنين كعمار وخباب وصهيب وبلال وسالم وسلمان. وقيل أرادوا أصحاب محمد على العموم.

أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ

63- " أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار " قال مجاهد: المعنى اتخذناهم سخرياً في الدنيا فأخطأنا أم زاغت عنهم الأبصار فلم نعلم مكانهم؟ والإنكار المفهوم من الاستفهام متوجه إلى كل واحد من الأمرين. قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا: اتخذوهم سخرياً، وزاغت عنهم الأبصار. قال الفراء: والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن كثير والأعمش بحذف همزة اتخذناهم في الوصل، وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خبراً محضاً، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية لرجالاً، وأن يكون المراد الاستفهام، وحذفت أداته لدلالة أم عليها، فتكون أم على الوجه الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة: أي بل زاغت عنهم الأبصار على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار، ثم الإضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير، وعلى الثاني أم هي المتصلة. وقرأ الباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل، ولا محل للجملة حينئذ وفيه التوبيخ لأنفسهم على الأمرين جميعاً لأن أم على هذه القراءة هي للتسوية. وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة والمفضل وهبيرة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي "سخرياً" بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها: قال ابو عبيدة: من كسر جعله من الهزء، ومن ضم جعله من التسخير.

إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ

والإشارة بقوله: 64- "إن ذلك" إلى ما تقدم من حكاية حالهم، وخبر إن قوله: "لحق" أي لواقع ثابت في الدار الآخرة لا يختلف ألبتة، و "تخاصم أهل النار" خبر مبتدإ محذوف، والجملة بيان لذلك، وقيل بيان لحق، وقيل بدل منه، وقيل بدل من محل ذلك، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وهذا على قراءة الجمهور برفع تخاصم، والمعنى: إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بد أن يتكلموا به، وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء للأتباع، وما قالته الأتباع لهم. وقرأ ابن أبي عبلة بنصب تخاصم على أنه بدل من ذلك أو بإضمار أعني. وقرأ ابن السميفع تخاصم بصيغة الفعل الماضي فتكون جملة مستأنفة.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول قولاً جامعاً بين التخويف والإرشاد إلى التوحيد فقال: 65- "قل إنما أنا منذر" أي مخوف لكم من عقاب الله وعذابه "وما من إله" يستحق العبادة "إلا الله الواحد" الذي لا شريك له "القهار" لكل شيء سواه.

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ

66- "رب السموات والأرض وما بينهما" من المخلوقات "العزيز" الذي لا يغالبه مغالب "الغفار" لمن أطاعه، وقيل معنى العزيز المنيع الذي لا مثل له، ومعنى الغفار الستار لذنوب خلقه.

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ

ثم أمره سبحانه أن يبالغ في إنذارهم ويبين لهم عظم الأمر وجلالته فقال: 67- "قل هو نبأ عظيم" أي ما أنذرتكم به من العقاب وما بينته لكم من التوحيد هو خبر عظيم ونبأ جليل، من شأنه العناية به والتعظيم له وعدم الاستخفاف به، ومثل هذه الآية قوله: " عم يتساءلون * عن النبإ العظيم ". وقال مجاهد وقتادة ومقاتل: هو القرآن، فإنه نبأ عظيم لأنه كلام الله. قال الزجاج: قل النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم: يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين، وذلك دليل على صدقه ونبوته لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله.

أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ

وجملة 68- "أنتم عنه معرضون" توبيخ لهم وتقريع لكونهم أعرضوا عنه ولم يتفكروا فيه فيعلموا صدقه ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث.

مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ

وقوله: 69- "ما كان لي من علم بالملإ الأعلى" استئناف مسوق لتقرير أنه نبأ عظيم، والملأ الأعلى هم الملائكة "إذ يختصمون" أي وقت اختصامهم، فقوله: "بالملإ الأعلى" متعلق بعلم على تضمينه معنى الإحاطة، وقوله إذ يختصمون متعلق بمحذوف: أي ما كان لي فيما سبق علم بوجه من الوجوه بحال الملإ الأعلى وقت اختصامهم، والضمير في يختصمون راجع إلى الملأ الأعلى، والخصومة الكائنة بينهم هي في أمر آدم كما يفيده ما سيأتي قريباً.

إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ

وجملة 70- "إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين" معترضة بين اختصامهم المجمل وبين تفصيله بقوله: "إذ قال ربك للملائكة". والمعنى: ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين. قال الفراء: المعنى ما يوحى إلي ألا أنني نذير مبين أبين لكم ما تأتون من الفرائض والسنن وما تدعون من الحرام والمعصية. قال: كأنك قلت ما يوحى إلي إلا الإنذار. قال النحاس: ويجوز أن تكون في محل نصب بمعنى ما يوحى إلي إلا لأنما أنا نذير مبين. قرأ الجمهور بفتح همزة أنما على أنها وما في حيزها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل: أي ما يوحى إلي إلا الإنذار، أو إلا كوني نذيراً مبيناً، أو في محل نصب، أو جر بعد إسقاط لام العلة، والقائم مقام الفاعل على سبيل الحكاية، كأنه قيلما يوحى إلي إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار، وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين. وقيل إن الضمير في يختصمون عائد إلى قريش، يعني قول من قال منهم: الملائكة بنات الله، والمعنى: ما كان لي علم بالملائكة إذ تختصم فيهم قريش، والأول أولى. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وغساق" قال: الزمهرير "وآخر من شكله" قال: من نحوه "أزواج" قال: ألوان من العذاب. وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن دلواً من غساق يهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا". قال الترمذي بعد إخراجه: لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. قلت: ورشدين فيه مقال معروف. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله: "فزده عذاباً ضعفاً في النار" قال: أفاعي وحيات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بالملإ الأعلى" قال: الملائكة حين شوروا في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة. وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون " قال: هي الخصومة في شأن آدم حيث قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها". وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن نصر في كتاب الصلاة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني الليلة ربي في أحسن صورة، أحسبه قال في المنام، قال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو في نحري، فعلمت ما في السموات والأرض، ثم قال لي: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت نعم في الكفارات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره" الحديث. وأخرج الترمذي وصححه ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وابن مردويه من حديث معاذ بن جبل نحوه بأطول منه، وقال "وإسباغ الوضوء في السبرات". وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث جابر بن سمرة نحوه بأخصر منه. وأخرجا أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه، وفي الباب أحاديث.

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ

لما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالاً فيما تقدم ذكرها هنا تفصيلاً، فقال: 71- "إذ قال ربك للملائكة" إذ هذه هي بدل من "إذ يختصمون" لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة. وقيل: هي منصوبة بإضمار اذكر والأول إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض. وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدم ذكره فالثاني أولى "إني خالق بشراً من طين" أي خالق فيما سيأتي من الزمن بشراً: أي جسماً من جنس البشر مأخوذ من مباشرته للأرض، أو من كونه بادي البشرة. وقوله. "من طين" متعلق بمحذوف هو صفة لبشر أو بخالق.

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ

ومعنى 72- "فإذا سويته" صورته على صورة البشر وصارت أجزاؤه مستوية "ونفخت فيه من روحي" أي من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري. وقيل هو تمثيل، ولا نفخ ولا منفوخ فيه. والمراد جعله حياً بعد أن كان جماداً لا حياة فيه. وقد مر الكلام في هذا في سورة النساء "فقعوا له ساجدين" هو أمر من وقع يقع، وانتصاب ساجدين على الحال، والسجود هنا هو سجوز التحية لا سجود العبادة، وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة.

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ

73- "فسجد الملائكة" في الكلام حذف تدل عليه الفاء والتقدير: فخلقه فسواه ونفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة. وقوله: "كلهم" يفيد أنهم سجدوا جميعاً ولم يبق منهم أحد. وقوله: "أجمعون" يفيد أنهم اجتمعوا على السجود في وقت واحد: فالأول لقصد الإحاطة، والثاني لقصد الاجتماع. قال في الكشاف: فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرقين في أوقات. وقيل إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم.

إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ

74- "إلا إبليس" الاستثناء متصل على تقدير أنه كان متصفاً بصفات الملائكة داخلاً في عدادهم فغلبوا عليه، أو منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم: أي لكن إبليس "استكبر" أي أنف من السجود جهلاً منه بأنه طاعة لله، "و" كان استكباره استكبار كفر، فلذلك "كان من الكافرين" أي صار منهم بمخالفته لأمر الله واستكباره عن طاعته، أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة والأعراف وبني إسرائيل والكهف وطه.

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ

ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به فـ 75- "قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" أي ما صرفك وصدك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة، وأضاف خلقه إلى نفسه تكريماً له وتشريفاً، مع أنه سبحانه خالق كل شيء أضاف إلى نفسه الروح، والبيت، والناقة، والمساجد. قال مجاهد: اليد هنا بمعنى التأكيد والصلة مجازاً كقوله: "ويبقى وجه ربك". وقيل أراد باليد القدرة، يقال: مالي بهذا الأمر يد، ومالي به يدان: أي قدرة، ومنه قول الشاعر: تحملت من ذلفاء ما ليس لي يد ولا للجبال الراسيات يدان وقيل التثنية في اليد للدلالة على أنها ليس بمعنى القوة والقدرة، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه، و ما في قوله لما خلقت هي المصدرية أو الموصولة. وقرأ الجحدري لما بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى حين كما قال أبو علي الفارسي. وقرئ بيدي على الإفراد "أستكبرت" قرأ الجمهور بهمزة الاستفهام، وهو استفهام توبيخ وتقريع و "أم" متصلة. وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بألف وصل، ويجوز أن يكون الاستفهام مراداً فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر: تروح من الحي أم تبتكر وقول الآخر: بسبع رمين الجمر أم بثمانيا ويحتمل أن يكون خبراً محضاً من غير إرادة للاستفهام فتكون أم منقطعة، والمعنى: استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل أ "كنت من العالين" أي المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك، وقيل المعنى: استكبرت عن السجود الآن أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك.

قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ

وجملة 76- "قال أنا خير منه" مستأنفة جواب سؤال مقدر، ادعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم، وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن. ثم علل ما ادعاه من كونه خيراً منه بقوله: "خلقتني من نار وخلقته من طين" وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين، وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم وإن استغني عنها طردتن، وأيضاً فالطين يستولي على النار فيطفئها، وأيضاً فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض، وعلى كل حال فقد شرف آدم بشرف وكرم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر، وذلك أن الله خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه، والجواهر في أنفسها متجانسة، وإنما تشرف بعارض من عوارضها.

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ

وجملة 77- "قال فاخرج منها" مستأنفة كالتي قبلهاك أي فاخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة، ثم علل أمره بالخروج بقوله: "فإنك رجيم" أي مرجوم بالكواكب مطرود من كل خير.

وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ

78- "وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين" أي طردي لك عن الرحمة وإبعادي لك منها، ويوم الدين يوم الجزاء، فأخبر سبحانه وتعالى أن تلك اللغة مستمرة له دائمة عليه ما دامت الدنيا، ثم في الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق، وليس المراد أن اللعنة تزول عنه في الآخرة، بل هو ملعون أبداً، ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسي عنده اللعنة ويذهل عند الوقوع فيه منها صارت كأنها لم تكن بجنب ما يكون فيه.

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

79- "قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون" مستأنفة كما تقدم فيها قبلها: أي أمهلني ولا تعاجلني إلى غاية هي يوم يبعثون: يعني آدم وذريته.

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ

80- "قال فإنك من المنظرين" أي الممهلين.

إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ

81- "إلى يوم الوقت المعلوم" الذي قدره الله لفناء الخلائق، وهو عند النفخة الآخرة، وقيل هو النفخة الأولى. قيل إنما طلب إبليس الإنظار إلى يوم البعث ليتخلص من الموت، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل البعث، وعند مجيء البعث لا يموت، فحينئذ يتخلص من الموت. فأجيب بما يبطل مراده، وينقض عليه مقصده، وهو الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهو الذي يعلمه الله ولا يعلمه غيره.

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ

فلما سمع اللعين إنظار الله له إلى ذلك الوقت 82- "قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين" فأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم، وإدخال الشبه عليهم حتى يصيروا غاوين جميعاً.

إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ

ثم لما علم أن كيده لا ينجع إلا في أتباعه وأحزابه من أهل الكفر والمعاصي، استثنى من لا يقدر على إضلاله ولا يجد السبيل إلى إغوائه فقال: 83- "إلا عبادك منهم المخلصين" أي الذين أخلصتهم لطاعتك وعصمتهم من الشيطان الرجيم وقد تقدم تفسير هذه الآيات في سورة الحجر وغيرها. وقد أقسم ها هنا بعزة الله، وأقسم في موضع آخر بقوله "فبما أغويتني" ولا تنافي بين القسمين فإن إغواءه إياه من آثار عزته سبحانه.

قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ

وجملة 84- "قال فالحق والحق أقول" مستأنفة كالجمل التي قبلها. قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب، أو هما منصوبان على الإغراء: أي الزموا الحق، أو مصدران مؤكدان لمضمون.

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ

قوله: 85- "لأملأن جهنم" وقرأ ابن عباس ومجاهد والأعمش وعاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول على أنه مبتدأ وخبره مقدر: أي فالحق مني، أو فالحق أنا، أو خبره لأملأن، أو هو خبر مبتدإ محذوف، وأما نصب الثاني فبالفعل المذكور بعده: أي وأنا أقول الحق، وأجاز الفراء وأبو عبيد أن يكون منصوباً بمعنى حقاً لأملأن جهنم. واعترض عليهما بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها. وروي عن سيبويه والفراء أيضاً أن المعنى فالحق أن إملاء جهنم. وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قرآ برفعها، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء، وخبره الجملة المذكورة بعده، والعائد محذوف. وقرأ ابن السميفع وطلحة بن مصرف بخلضهما على تقدير حرف القسم. قال الفراء: كما يقول الله عز وجل لأفعلن كذا، وغلطه أبو العباس ثعلب وقال: لا يجوز الخفض بحر مضمر، وجملة "لأملأن جهنم" جواب القسم على قراءة الجمهور، وجملة "والحق أقول" معترضة بين القسم وجوابه، ومعنى "منك" أي من جنسك من الشياطين "وممن تبعك منهم" أي من ذرية آدم فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية و "أجمعين" تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه: أي لأملأنها من الشياطين وأتباعهم أجميعن.

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره لا عرض الدنيا الزائل، فقال: 86- "قل ما أسألكم عليه من أجر" والضمير في عليه راجع إلى تبليغ الوحي ولم يتقدم له ذكر، ولكنه مفهوم من السياق. وقيل هو عائد إلى ما تقدم من قوله: "أأنزل عليه الذكر من بيننا" وقيل الضمير راجع إلى القرآن، وقيل إلى الدعاء إلى الله على العموم، فيشمل القرآن وغيره من الوحي ومن قول الرسول لله. والمعنى ما أطلب منكم من جعل تعطونيه عليه "وما أنا من المتكلفين" حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه، والتكلف: التصنع.

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ

87- "إن هو إلا ذكر للعالمين" أي ما هذا القرآن، أو الوحي، أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر من الله عز وجل للجن والإنس. قال الأعمش: من القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين.

وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ

88- "ولتعلمن" أيها الكفار "نبأه" أي ما أنبأ عنه، وأخبر به من الدعاء إلى الله وتوحيده، والترغيب إلى الجنة، والتحذير من النار "بعد حين" قال قتادة والزجاج والفراء: بعد الموت. وقال عكرمة وابن زيد: يوم القيامة. وقال الكلبي: من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد الموت. وقال السدي: وذلك يوم بدر. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس "إذ يختصمون" أن الخصومة هي: "إذ قال ربك" إلخ. وأخرج ابن جرير وابن الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر قال: خلق الله أربعاً بيده: العرش، وجنة عدن، والقلم، وآدم. وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الهل بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "فالحق والحق أقول" قال: أنا الحق أقول الحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قل ما أسألكم عليه من أجر" قال: قل يا محمد "ما أسألكم عليه" ما أدعوكم إليه "من أجر" عرض دنيا. وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في المسجد، فقال فيما يقول: "يوم تأتي السماء بدخان مبين" قال: دخان يكون يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، قال: قمنا حتى دخلنا على عبد الله وهو في بيته وكان متكئاً فاستوى قاعداً فقال: يا أيها الناس من علم منكم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين". وأخرج البخاري عن عمر قال: نهينا عن التكلف. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي عن سلمان قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس