islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
14597

29-العنكبوت

الم

تفسير سورة العنكبوت، هي تسع وستون آية وقد اختلف في كونها مكية أو مدنية، أو بعضها مكياً وبعضها مدنياً على ثلاثة أقوال: الأول أنها مكية كلها، أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس، وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير، وبه قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. والقول الثاني أنها مدنية كلها، قال القرطبي: وهو أحد قولي ابن عباس وقتادة. والقول الثالث أنها مكية إلا عشر آيات من أولها، قال القرطبي: وهو أحد قولي ابن عباس وقتادة، وهو قول يحيى بن سلام. وحكي عن علي بن أبي طالب أنها نزلت بين مكة والمدينة، وهذا قول رابع. وأخرج الدارقطني في السنن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات، يقرأ في الركعة الأولى العنكبوت أو الروم، وفي الثانية يس. 1- "الم" قد تقدم الكلام على فاتحة هذه السورة مستوفى في سورة البقرة.

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ

والاستفهام في قوله: 2- "أحسب الناس" للتقريع والتوبيخ، و "أن يتركوا" في موضع نصب بحسب، وهي وما دخلت عليه قائمة مقام المفعولين على قوله سيبويه والجمهور، و "أن يقولوا" في موضع نصب على تقدير: لأن يقولوا، أو بأن يقولوا، أو على أن يقولوا، وقيل هو بدل من أن يتركوا، ومعنى الآية: أن الناس لا يتركون بغير اختبار ولا ابتلاء "أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" أي وهم لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم، وليس الأمر كما حسبوا، بل لا بد أن يختبرهم حتى يتبين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب، فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان واستبعاده، وبيان أنه لا بد من الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها. قال الزجاج: المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ولا يمتحنون بما تتبين به حقيقة إيمانهم، وهو قوله: "أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون". قال السدي وقتادة ومجاهد: أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب، وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح معنى ما ذكرناه، وظاهرها شمول كل الناس من أهل الإيمان، وإن كان السبب خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ كما قررناه غير مرة. قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك.

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ

3- "ولقد فتنا الذين من قبلهم" أي هذه سنة الله في عباده وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة كما اختبر من قبلهم من الأمم كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء وما وقع مع قومهم من المحن وما اختبر الله به أتباعهم ومن آمن بهم من تلك الأمور التي نزلت بهم "فليعلمن الله الذين صدقوا" في قولهم: آمنا "وليعلمن الكاذبين" منهم في ذلك، قرأ الجمهور " فليعلمن " بفتح الياء واللام في الموضعين: أي ليظهرن الله الصادق والكاذب في قولهم ويميز بينهم، وقرأ علي بن أبي طالب في الموضعين بضم الياء وكسر اللام. والمعنى أي يعلم الطائفتين في الآخرة بمنازلهم، أو يعلم الناس بصدق من صدق ويفضح الكاذبين بكذبهم، أو يضع لكل طائفة علامة تشتهر بها وتتميز عن غيرها.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ

4- "أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا" أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون، وهو ساد مسد مفعولي حسب، وأم هي المنقطعة "ساء ما يحكمون" أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك. وقال الزجاج: ما في موضع نصب بمعنى ساء شيئاً أو حكماً يحكمون. قال: ويجوز أن تكون ما في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم، وجعلها ابن كيسان مصدرية: أي ساء حكمهم.

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

5- " من كان يرجو لقاء الله " أي من كان يطمع، والرجاء بمعنى الطمع. قاله سعيد بن جبير. وقيل الرجاء هنا بمعنى الخوف. قال القرطبي: وأجمع أهل التفسير على أن المعنى: من كان يخاف الموت. ومنه قول الهذلي: إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها قال الزجاج: معنى من كان يرجو لقاء الله: من كان يرجو ثواب لقاء الله: أي ثواب المصير إليه، فالرجاء على هذا معناه الأمل "فإن أجل الله لآت" أي الأجل المضروب للبعث آت لا محالة. قال مقاتل: يعني يوم القيامة، والمعنى: فليعمل لذلك اليوم كما في قوله: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً" ومن في الآية التي هنا يجوز أن تكون شرطية والجزاء فإن أجل الله لآت، ويجوز أن تكون موصولة ودخلت الفاء في جوابها تشبيها لها بالشرطية. وفي الآية من الوعد والوعيد والترهيب والترغيب ما لا يخفى "وهو السميع" لأقوال عباده "العليم" بما يسرونه وما يعلنونه.

وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ

6- "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه" أي من جاهد الكفار وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات فإنما يجاهد لنفسه: أي ثواب ذلك له لا لغيره ولا يرجع إلى الله سبحانه من نفع ذلك شيء "إن الله لغني عن العالمين" فلا يحتاج إلى طاعتهم كما لا تضره معاصيهم. وقيل المعنى: ومن جاهد عدوه لنفسه لا يريد بذلك وجه الله، فليس لله حاجة لجهاده، والأول أولى.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ

7- "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم" أي لنغطينها عنهم بالمغفرة بسبب ما عملوا من الصالحات "ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون" أي بأحسن جزاء أعمالهم، وقيل بجزاء أحسن أعمالهم، والمراد بأحسن مجرد الوصف لا التفضيل لئلا يكون جزاؤهم بالحسن مسكوتاً عنه، وقيل يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن منه كما في قوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها".

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

8- "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً" انتصاب حسناً على أنه نعت مصدر محذوف: أي إيصاء حسناً على المبالغة، أو على حذف المضاف: أي ذا حسن. هذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: تقديره ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً، فهو مفعول لفعل مقدر، ومنه قول الشاعر: عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا خيراً بها كأنما خافونا أي يوصينا أن نفعل بها خيراً، ومثله قول الحطيئة: وصيت من برة قلباً حرا بالكلب خيراً والحمأة شراً قال الزجاج: معناه ووصينا الإنسان: أن يفعل بوالديه ما يحسن، وقيل هو صفة لموصوف محذوف: أي ووصيناه أمراً ذا حسن، وقيل هو منتصب على أنه مفعول به على التضمين أي ألزمناه حسناً، وقيل منصوب بنزع الخافض: أي ووصيناه بحسن، وقيل هو مصدر لفعل محذوف: أي يحسن حسناً، ومعنى الآية: التوصية للإنسان بوالديه بالبر بهما والعطف عليهما. قرأ الجمهور "حسناً" بضم الحاء وإسكان الميم، وقرأ أبو الرجاء وأبو العالية والضحاك بفتحهما، وقرأ الجحدري إحساناً وكذا في مصحف أبي "وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما" أي طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلهاً ليس لك به علم بكونه إلهاً فلا تطعهما، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعبر بنفي العلم عن نفي الإله لأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه، فكيف بما علم بطلانه؟ وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى، ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه، فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " أي أخبركم بصالح أعمالكم وطالحها، فأجازي كلا منكم بما يستحقه.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ

والموصول في قوله: 9- "والذين آمنوا وعملوا الصالحات" في محل رفع على الابتداء وخبره "لندخلنهم في الصالحين" أي في زمرة الراسخين في الصلاح، ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال، ويجوز أن يكون المعنى: لندخلنهم في مدخل الصالحين، وهو الجنة كذا قيل، والأول أولى.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ

10- " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله " أي في شأن الله ولأجله كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به "جعل فتنة الناس" التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى "كعذاب الله" أي جزع من أذهاهم. فلم يصبر عليه وجعله في الشدة والعظم كعذاب الله فأطاع الناس كما يطيع الله، وقيل هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر. قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله "ولئن جاء نصر من ربك" أي نصر من الله للمؤمنين وفتح وغلبة للأعداء وغنيمة يغنمونها منهم "ليقولن إنا كنا معكم" أي داخلون معكم في دينكم ومعاونون لكم على عدوكم، فكذبهم الله. وقال: "أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين" أي هو سبحانه أعلم بما في صدورهم منهم من خير وشر، فكيف يدعون هذه الدعوى الكاذبة. وهؤلاء هم قوم ممن كان في إيمانهم ضعف، كانوا إذا مسهم الأذى من الكفار وافقوهم. وإذا ظهرت قوة الإسلام ونصر الله المؤمنين في موطن من المواطن " ليقولن إنا كنا معكم " وقيل المراد بهذا وما قبله المنافقون. قال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بالله بألسنتهم. فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة افتتنوا. وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك، والظاهر أن هذا النظم من قوله: "ومن الناس من يقول" إلى قوله: "وقال الذين كفروا" نازل في المنافقين لما يظهر من السياق.

وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ

ولقوله: 11- "وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين" فإنها لتقرير ما قبلها وتأكيده: أي ليميزن الله بين الطائفتين ويظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى ويصبر في الله حق الصبر، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله. والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا، فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم وكفر بالله عز وجل، وإن خفقت ريح الإسلام وطلع نصره ولاح فتحه رجع إلى الإسلام، وزعم أنه من المسلمين.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

12- "وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا" اللام في للذين آمنوا هي لام التبليغ: أي قالوا مخاطبين لهم كما سبق بيانه في غير موضع: أي قالوا لهم اسلكوا طريقتنا وادخلوا في ديننا "ولنحمل خطاياكم" أي إن كان اتباع سبيلنا خطيئة تؤاخذون بها عند البعث والنشور كما تقولون فلنحمل ذلك عنكم فنؤاخذ به دونكم واللام في لنحمل لام الأمر كأنهم أمروا أنفسهم بذلك. وقال الفراء والزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء: أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، ثم رد الله عليهم بقوله: "وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء" من الأولى بيانية. والثانية مزيدة للاستغراق: أي وما هم بحاملين شيئاً من خطيئاتهم التي التزموا بها وضمنوا لهم حملها، ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل فقال: "إنهم لكاذبون" فيما ضمنوا به من حمل خطاياكم. قال المهدوي، هذا التكذيب لهم من الله عز وجل حمل على المعنى، لأن المعنى: إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم، فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر أوقع عليه التكذيب كما يوقع على الخبر.

وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ

13- "وليحملن أثقالهم" أي أوزارهم التي عملوها، والتعبير عنها بالأثقال للإيذان بأنها ذنوب عظيمة "وأثقالاً مع أثقالهم" أي أوزاراً مع أوزارهم. وهي أوزار من أضلوهم وأخرجوهم عن الهدى إلى الضلالة ومثله قوله سبحانه: "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم" ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها" كما في حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم وغيره "وليسألن يوم القيامة" تقريعاً وتوبيخاً "عما كانوا يفترون" أي يختلقونه من الأكاذيب التي كانوا يأتون بها في الدنيا. وقال مقاتل: يعني قولهم: نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: " الم * أحسب الناس أن يتركوا " الآية قال: أنزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما أنزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا، قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد أنزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم". وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله " الم * أحسب الناس أن يتركوا " الآية. وأخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الله إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وسمية أم عمار، وعمار، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أن يسبقونا" قال أن يعجزونا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أمي لا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بمحمد فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يشجرون فاها بالعصا، فنزلت هذه الآية "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما". وأخرجه أيضاً الترمذي من حديثه، وقال: نزلت في أربع آيات وذكر نحو هذه القصة، وقال: حسن صحيح. وقد أخرج هذا الحديث أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضاً. وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجه وأبو يعلى وابن حبان وأبو نعيم والبيهقي والضياء عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جعل فتنة الناس كعذاب الله" قال: يرتد عن دين الله إذا أوذي في الله.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ

أجمل سبحانه قصة نوح تصديقاً لقوله في أول السورة "ولقد فتنا الذين من قبلهم" وفيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل له: إن نوحاً لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قيلي، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك. قيل ووقع في النظم إلا خمسين عاماً ولم يقل تسعمائة سنة وخمسين، لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني، فقد يطلق على ما يقرب منه. وقد اختلف في مقدار عمر نوح. وسيأتي آخر البحث. وليس في الآية إلا أنه لبث فيهم هذه المدة، وهي لا تدل على أنها جميع عمره. فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم، وقد تلبث في الأرض بعد هلاكهم بالطوفان، والفاء في 14- "فأخذهم الطوفان" للتعقيب: أي أخذهم عقب تمام المدة المذكورة، والطوفان يقال لكل شيء كثير مطيف بجمع محيط بهم من مطل أو قتل أو موت قاله النحاس. وقال سعيد بن جبير وقتادة والسدي: هو المطر. وقال الضحاك: الغرق، وقيل الموت، ومنه قول الشاعر: أفناهم طوفان موت جارف وجملة "وهم ظالمون" في محل نصب على الحال: أي مستمرون على الظلم ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح وذكرهم هذه المدة بطولها.

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ

15- "فأنجيناه وأصحاب السفينة" أي أنجيناه نوحاً وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه. واختلف في عددهم على أقوال "وجعلناها" أي السفينة "آية للعالمين" أي عبرة عظيمة لهم، وفي كونها آية وجوه: أحدها أنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة. وثانيها أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة، وثالثها أن الماء غيض قبل نفاذ الزاد. وهذا غير مناسب لوصف السفينة بأن الله جعلها آية، وقيل إن الضمير راجع في جعلناها إلى الواقعة أو إلى النجاة، أو إلى العقوبة بالغرق.

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

16- "وإبراهيم إذ قال لقومه" انتصاب إبراهيم بالعطف على نوحاً. وقال النسائي: هو معطوف على الهاء في جعلناها، وقيل منصوب بمقدر: أي واذكر إبراهيم. وإذ قال منصوب معطوف على الظرفية: أي وأرسلنا إبراهيم وقت قوله لقومه اعبدوا الله أو جعلنا إبراهيم آية وقت قوله هذا: أو واذكر إبراهيم وقت قوله، على أن الظرفية بدل اشتمال من إبراهيم "اعبدوا الله واتقوه" أي أفردوه بالعبادة وخصوه بها واتقوه أن تشركوا به شيئاً "ذلكم خير لكم" أي عبادة الله وتقواه خير لكم من الشرك، ولا خير في الشرك أبداً، ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم "إن كنتم تعلمون" شيئاً من العلم، أو تعلمون علماً تميزون به بين ما هو خير وما هو شر. قرأ الجمهور وإبراهيم بالنصب، ووجهه ما قدمنا. وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة بالرفع على الابتداء والخبر مقدر: أي ومن المرسلين إبراهيم.

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

17- "إنما تعبدون من دون الله أوثاناً" بين لهم إبراهيم أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر ولا يسمع ولا يبصر، والأوثان هي الأصنام. وقال أبو عبيد: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة. وقال الجوهري: الوثن الصنم والجمع أوثان "وتخلقون إفكاً" أي وتكذبون كذباً على أن معنى تخلقون تكذبون، ويجوز أن يكون معناه: تعملون وتنحتون: أي تعلمونها وتنحتونها للإفك. قال الحسن: معنى تخلقون تنحتون: أي إنما تعبدون أوثاناً وأنتم تصنعونها. قرأ الجمهور "تخلقون" بفتح الفوقية وسكون الخاء وضم اللام مضارع خلق و "إفكاً" بكسر الهمزة وسكون الفاء. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي والسلمي وقتادة بفتح الخاء واللام مشددة، والأصل تتخلقون. وروي عن زيد بن عليأنه قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة. وقرأ ابن الزبير وفضيل بن ورقان أفكاً بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب، أو صفة لمصدر محذوف: أي خلقاً أفكاً "إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً" أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئاً من الرزق "فابتغوا عند الله الرزق" أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فهو الذي عنده الرزق كله فاسألوه من فضله ووحدوه دون غيره "واشكروا له" أي على نعمائه، فإن الشكر موجب لبقائها وسبب للمزيد عليها، يقال شكرته وشكرت له "إليه ترجعون" بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره.

وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

18- "وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم" قيل هذا من قول إبراهيم: أي وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم، وقيل هو من قول الله سبحانه: أي وإن تكذبوا محمداً فذلك عادة الكفار مع من سلف "وما على الرسول إلا البلاغ المبين" لقومه الذي أرسل إليهم، وليس عليه هدايتهم، وليس ذلك في وسعه.

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

19- " أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده " قرأ الجمهور "أو لم يروا" بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. قال أبو عبيد: كأنه قال: أو لم ير الأمم. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقريش، وقيل هو خطاب من الله لقريش. قرأ الجمهور "كيف يبدئ" بذم التحتية من أبدأ يبدئ. وقرأ الزبيري وعيسى بن عمر وأبو عمرو بفتحها من بدأ يبدأ. وقرأ الزهري كيف بدأ والمعنى ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح ثم يخرجه إلى الدنيا ثم يتوفاه بعد ذلك، وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم، والواو للعطف على مقدر "إن ذلك على الله يسير" لأنه إذا أراد أمراً قال له كن فيكون.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في الأرض ليتفكروا ويعتبروا فقال: 20- "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" على كثرتهم واختلاف ألوانهم وطبائعهم وألسنتهم وانظروا إلى مساكن القرون الماضية والأمم الخالية وآثارهم لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. وقيل إن المعنى: قل لهم يا محمد سيروا، ومعنى قوله: "ثم الله ينشئ النشأة الآخرة" أن الله الذي بدأ النشأة الأولى وخلقها على تلك الكيفية ينشئها نشأة ثانية عند البعث، والجملة عطف على جملة سيروا في الأرض داخلة معها في حيز القول، وجملة "إن الله على كل شيء قدير" تعليل لما قبلها. قرأ الجمهور بـ "النشأة" بالقصر وسكون الشين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمد وفتح الشين، وهما لغتان كالرأفة والرآفة. وهي منتصبة على المصدرية بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة.

يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ

21- "يعذب من يشاء ويرحم من يشاء" أي هو سبحانه بعد النشأة الآخرة يعذب من يشاء تعذيبه وهم الكفار والعصاة ويرحم من يشاء رحمته، وهم المؤمنون به المصدقون لرسله العاملون بأوامره ونواهيه "وإليه تقلبون" أي ترجعون وتردون لا إلى غيره.

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

22- "وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء" قال الفراء: ولا من في السماء بمعجزين الله فيها. قال: وهو كما في قول حسان: فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء أي ومن يمدحه وينصره سواء. ومثله قوله تعالى: "وما منا إلا له مقام معلوم" أي إلا من له مقام معلوم، والمعنى: أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه. وقال قطرب: إن معنى الآية: ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان ها هنا ولا بالبصرة: يعني ولا بالبصرة لو صار إليها. وقال المبرد: المعنى ولا من في السماء، على أن من ليست موصولة بل نكرة، وفي السماء صفة لها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف، ورد ذلك علي بن سليمان وقال: لا يجوز، ورجح ما قاله قطرب "وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير" من مزيدة للتأكيد: أي ليس لكم ولي يواليكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذاب الله.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

23- "والذين كفروا بآيات الله ولقائه" المراد بالآيات التنزيلية أو التكوينية أو جميعهما، وكفروا بلقاء الله: أي أنكروا البعث وما بعده ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الكافرين بالآيات واللقاء، وهو مبتدأ وخبره "يئسوا من رحمتي" أي إنهم في الدنيا آيسون من رحمة الله لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله ولا ما أخبرتهم به رسله. وقيل المعنى: أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله وهي الجنة. والمعنى: أنهم أويسوا من الرحمة "وأولئك لهم عذاب أليم" كرر سبحانه الإشارة للتأكيد، ووصف العذاب بكوهنه أليماً للدلالة على أنه في غاية الشدة.

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

24- "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه" هذا رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدم من خطاب محمد صلى الله عليه وسلم على قول من قال: إن قوله قل سيروا في الأرض خطاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأما على قول من قال: إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام، فالكلام في سياقه سابقاً ولاحقاً: أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم: افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين، ثم اتفقوا على تحريقه "فأنجاه الله من النار" وجعلها عليه برداً وسلاماً "إن في ذلك" أي في إنجاء الله لإبراهيم "لآيات" بينة: أي دلالات واضحة وعلامات ظاهرة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه: حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثراً، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق، وإنما خص المؤمنون، لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه، وأما من عداهم فهم عن ذلك غافلون. قرأ الجمهور بنصب "جواب قومه" على أنه خبر كان وما بعده اسمها. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار والحسن برفعه على أنه اسم كان وما بعده في محل نصب على الخبر.

وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

25- "وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا" أي قال إبراهيم لقومه: أي للتوادد بينكم والتواصل لاجتماعكم على عبادتها، وللخشية من ذهاب المودة فيما بينكم إن تركتم عبادتها. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي "مودة بينكم" برفع مودة غير منونة، وإضافتها إلى بينكم. وقرأ الأعمش وابن وثاب مودة برفعها منونة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بنصب "مودة" منونة ونصب "بينكم" على الظرفية. وقرأ حمزة وحفص بنصب مودة مضافة إلى بينكم. فأما قراءة الرفع فذكر الزجاج لها وجهين: الأول أنها ارتفعت على خبر إن في إنما اتخذتم وجعل ما موصوفة، والتقدير: إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودة بينكم. والوجه الثاني أن تكون على إضمار مبتدأ: أي هي مودة أو تلك مودة. والمعنى: أن المودة هي التي جمعتكم على عبادة الأوثان واتخاذها. قيل ويجوز أن تكون مودة مرتفعة بالابتداء وخبرها في الحياة الدنيا. ومن قرأ برفع مودة منونة فتوجيهه كالقراءة الأولى، ونصب بينكم على الظرفية. ومن قرأ بنصب مودة ولم ينونها جعلها اتخذتم وجعل إنما حرفاً واحداً للحصر، وهكذا من نصبها ونونها. ويجوز أن يكون النصب في هاتين القراءتين على أن المودة علة فهي مفعول لأجله، وعلى قراءة الرفع يكون مفعول اتخذتم الثاني محذوفاً: أي أوثان آلهة، وعلى تقدير أن ما في قوله إنما اتخذتم موصولة يكون المفعول الأول ضميرها: أي اتخذتموه، والمفعول الثاني أوثاناً "ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض" أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر منهم فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة، وقيل المعنى يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان وتتبرأ الأوثان من العابدين لهم "ويلعن بعضكم بعضاً" أي يلعن كل فريق الآخرة على التفسيرين المذكورين "ومأواكم النار" أي الكفار، وقيل يدخل في ذلك الأوثان: أي هي منزلكم الذي تأوون إليه "وما لكم من ناصرين" يخلصونكم منها ينصرتهم لكم.

فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

26- "فآمن له لوط" أي آمن لإبراهيم لوط فصدقه في جميع ما جاء به، وقيل إنه لم يؤمن به إلا حين رأى النار لا تحرقه، وكان لوط ابن أخي إبراهيم "وقال إني مهاجر إلى ربي" قال النخعي وقتادة: الذي قال إني مهاجر إلى ربي وهو إبراهيم. قال قتادة: هاجر من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة، والمعنى: إني مهاجر على مقتضى الحكمة.

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

وقيل إن القائل إني مهاجر إلى ربي هو لوط، والأول أولى لرجوع الضمير في قوله: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" إلى إبراهيم، وكذا في قوله: "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب"، وكذا في قوله: "وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين" فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف: أي من الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولداً له ويعقوب ولداً لولده إسحاق وجعل في ذريته النبوة والكتاب فلم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا من صلبه، ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب، والمراد التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومعنى "وآتيناه أجره في الدنيا" أنه أعطي في الدنيا الأولاد، وأخبره الله باستمرار النبوة فيهم، وذلك مما تقر به عينه ويزداد به سروره، وقيل أجره في الدنيا أن أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منهم. وقيل أعطاه في الدنيا عملاً صالحاً وعاقبة حسنة "وإنه في الآخرة لمن الصالحين": أي الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة وكثرة العطاء من الرب سبحانه. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: بعث الله نوحاً وهو ابن أربعين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفاً وسبعمائة سنة. وأخرج ابن جرير عن عوف بن أبي شداد قال: إن الله أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح فقال: يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتاً له بابان، فقال في وسط البيت هنيهة، ثم خرج من الباب الآخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجعلناها آية للعالمين" قال: أبقاها الله آية فهي على الجودي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وتخلقون إفكاً" قال: تقولون كذباً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: " النشأة الآخرة " قال: هي الحياة بعد الموت، وهو النشور. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "فآمن له لوط" قال: صدق لوط إبراهيم. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال: "أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط". وأخرج ابن منده وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: " هاجر عثمان إلى الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه أول من هاجر بعد إبراهيم ولوط". وأخرج ابن عساكر والطبراني والحاكم في الكنى عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط مهاجر". وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: أول من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" قال هما ولدا إبراهيم، وفي قوله: "وآتيناه أجره في الدنيا" قال إن الله وصى أهل الأديان بدينه فليس من أهل الأديان دين إلا وهم يقولون إبراهيم ويرضون به. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: "وآتيناه أجره في الدنيا" قال الذكر الحسن. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الولد الصالح والثناء، وقول ابن عباس: هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده، لأن ولد الولد بمنزلة الولد، ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس فهو حبر هذه الأمة، وهذه الرواية عنه هي من رواية العوفي،وفي الصحيحين "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ

قوله: 28- "ولوطاً" منصوب بالعطف على نوحاً، أو على إبراهيم، أو بتقدير اذكر. قال الكسائي: المعنى وأنجينا لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً "إذ قال لقومه" ظرف للعامل في لوط "إنكم لتأتون الفاحشة" قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر أإنكم بالاستفهام. وقرأ الباقون بلا استفهام، والفاحشة الخصلة المتناهية في القبح، وجملة "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" مقررة لكمال قبح هذه الخصلة، وأنهم منفردون بذلك لم يسبقهم إلى عملها أحد من الناس على اختلاف أجناسهم.

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

ثم بين سبحانه هذه الفاحشة فقال: 29- " أإنكم لتأتون الرجال " أي تلوطون بهم "وتقطعون السبيل" قيل إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم، فقطعوا السبيل بهذا السبب. قال الفراء: كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث، وقيل كانوا يقطعون الطريق على المارة بقتلهم ونهبهم. والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سبباً لقطع الطريق من غير تقييد بسبب خاص، وقيل إن معنى قطع الطريق: قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال "وتأتون في ناديكم المنكر" النادي والندي والمنتدى مجلس القوم ومتحدثهم. واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه، فقيل كانوا يحذفون الناس بالحصباء، وستخفون بالغريب، وقيل كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقيل كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضاً، وقيل كانوا يلعبون بالحمام، وقيل كانوا يخضبون أصابعهم بالحناء، وقيل كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش، وقيل يلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات، ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات. قال الزجاج: وفي هذه إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر وأن لا يجتمعوا على الهزؤ والمناهي. ولما أنكر لوط عليهم ما كانوا يفعلونه أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله: "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين" أي فما أجابوا بشيء إلا بهذا القول رجوعاً منهم إلى التكذيب واللجاج والعناد، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وقد تقدم في سورة النمل "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم" وتقدم في سورة الأعراف " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم " وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد ومكرراً للنهي لهم والوعيد عليهم، فقالوا له أولاً: ائتنا بعذاب الله كما في هذه الآية، فلما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوهم كما في الأعراف والنمل، وقيل إنهم قالوا أولاً أخرجوهم من قريتكم، ثم قالوا ثانياً ائتنا بعذاب الله.

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ

ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة عليهم من الله سبحانه فـ 30- "قال رب انصرني على القوم المفسدين" بإنزال عذابك عليهم، وإفسادهم هو بما سبق من إتيان الرجال وعمل المنكر في ناديهم، فاستجاب الله سبحانه وبعث لعذابهم ملائكته وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم.

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ

ولهذا قال: 31- "ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى" أي بالبشارة بالولد وهو إسحاق، وبولد الولد وهو يعقوب " قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية " أي قالوا لإبراهيم هذه المقالة، والقرية هي قرية سدوم التي كان فيها قوم لوط، وجملة "إن أهلها كانوا ظالمين" تعليل للإهلاك: أي أهلاكنا لهم بهذا السبب.

قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ

32- "قال إن فيها لوطاً" أي قال لهم إبراهيم: إن في هذه القرية التي أنتم مهلكوها لوطاً فكيف تهلكونها؟ "قالوا نحن أعلم بمن فيها" من الأخيار والأشرار ونحن أعلم من غيرنا بمكان لوط "لننجينه وأهله" من العذاب. قرأ الأعمش وحمزة ويعقوب والكسائي "لننجينه" بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد "إلا امرأته كانت من الغابرين" أي الباقين في العذاب، وهو لفظ مشترك بين الماضي والباقي، وقد تقدم تحقيقه، وقيل المعنى: من الباقين في القرية التي سينزل بها العذاب، فتعذب من جملتهم ولا تنجو فيمن نجا.

وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ

33- "ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم" أي لما جاءت الرسل لوطاً بعد مفارقتهم إبراهيم سيء بهم: أي جاءه ما ساءه وخاف منه، لأنه ظنهم من البشر، فخاف عليهم من قومه لكونهم في أحسن صورة من الصور البشرية، و أن في أن جاءت زائدة للتأكيد "وضاق بهم ذرعاً" أي عجز عن تدبيرهم وحزن وضاق صدره، وضيق الذراع كناية عن العجز، كما يقال في الكناية عن الفقر: ضاقت يده، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة هود. ولما شاهدت الملائكة ما حل به من الحزن والتضجر "قالوا لا تخف ولا تحزن" أي لا تخف علينا من من قومك ولا تحزن فإنهم لا يقدرون علينا "إنا منجوك وأهلك" من العذاب الذي أمرنا الله بأن ننزله بهم "إلا امرأتك كانت من الغابرين" أخبروا لوطاً بما جاءوا به من إهلاك قومه وتنجيته وأهله إلا امرأته كما أخبروا بذلك إبراهيم، قرأ حمزة والكسائي وشعبة ويعقوب والأعمش "منجوك" بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد. قال المبرد: الكاف في منجوك مخفوض ولم يجز عطف الظاهر على المضمر المخفوض، فحمل الثاني على المعنى وصار التقدير: وننجي أهلك.

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

34- "إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء" هذه الجملة مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم من تخصيص التنجية به وبأهله، والرجز العذاب أي عذاباً من السماء، وهو الرمي بالحجارة، وقيل إحراقهم بنار نازلة من السماء، وقيل هو الخسف والحصب كما في غير هذا الموضع، ومعنى كون الخسف من السماء أن الأمر به نزل من السماء. قرأ ابن عامر "منزلون" بالتشديد. وبها قرأ ابن عباس. وقرأ الباقون بالتخفيف، والباء في "بما كانوا يفسقون" لسببية: أي لسبب فسقهم.

وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

35- "ولقد تركنا منها آية بينة" أي أبقينا من القرية علامة ودلالة بينة وهي الآثار التي بها من الحجارة رجموا بها وخراب الديار. وقال مجاهد: هو الماء الأسود الباقي على وجه أرضهم ولا مانع من حمل الآية على جميع ما ذكر، وخص من يعقل، لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها.

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

36- "وإلى مدين أخاهم شعيباً" أي وأرسلناه إليهم، وقد تقدم ذكره وذكر نسبه وذكر قومه في سورة الأعراف وسورة هود "قال يا قوم اعبدوا الله" أي أفردوه في العبادة وخصوه بها "وارجوا اليوم الآخر" أي توقعوه وافعلوا اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم. قال يونس النحوي: معناه اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" العثو العثى أشد الفساد. وقد تقدم تفسيره.

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ

37- "فأخذتهم الرجفة" أي الزلزلة، وتقدم في سورة هود "وأخذ الذين ظلموا الصيحة" أي صيحة جبريل وهي سبب الرجفة "فأصبحوا في دارهم جاثمين" أي أصبحوا في بلدهم أو منازلهم جاثمين على الركب ميتين.

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ

38- "وعاداً وثمود" قال الكسائي: قال بعضهم هو راجع إلى أول السورة: أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عاداً وثمود، قال: وأحب إلي أن يكون على فأخذتهم الرجفة أي وأخذت عاداً وثمود. وقال الزجاج: التقدير وأهلكنا عاداً وثمود، وقيل المعنى: واذكر عاداً وثموداً إذ أرسلنا إليهم هوداً وصالحاً "وقد تبين لكم من مساكنهم" أي وقد ظهر لكم يا معاشر الكفار من مساكنهم بالحجر والأحقاف آيات بينات تتعظون بها وتتفكرون فيها، ففاعل تبين محذوف "وزين لهم الشيطان أعمالهم" التي يعملونها من الكفر ومعاصي الله "فصدهم" بهذا التزيين "عن السبيل" أي الطريق الواضح الموصول إلى الحق "وكانوا مستبصرين" أي أهل بصائر يتمكنون بها من معرفة الحق بالاستبدال. قال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر فلم تنفعهم بصائرهم، وقيل المعنى: كانوا مستبصرين في كفرهم وضلالتهم معجبين بها يحسبون أنهم على هدى ويرون أن أمرهم حق، فوصفهم بالاستبصار على هذا باعتبار ما عند أنفسهم.

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ

39- "وقارون وفرعون وهامان" قال الكسائي: إن شئت كان محمولاً على عاداً وكان فيه ما فيه، وإن شئت كان على فصدهم عن السبيل أي وصد قارون وفرعون وهامان. وقيل التقدير: وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل "فاستكبروا في الأرض" عن عبادة الله "وما كانوا سابقين" أي فائتين، يقال سبق طالبه: إذا فاته: وقيل وما كانوا سابقين في الكفر، بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة.

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِ

40- "فكلا أخذنا بذنبه" أي عاقبنا بكفره وتكذيبه. قال الكسائي: "فكلا أخذنا" أي فأخذنا كلاً بذنبه "فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً" أي ريحاً تأتي بالحصباء، وهي الحصى الصغار فترجمهم بها، وهم قوم لوط "ومنهم من أخذته الصيحة" وهم ثمود وأهل مدين "ومنهم من خسفنا به الأرض" وهو قارون وأصحابه "ومنهم من أغرقنا" وهم قوم نوح وقوم فرعون "وما كان الله ليظلمهم" بما فعل بهم، لأنه قد أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" باستمرارهم على الكفر وتكذيبهم للرسل وعملهم بمعاصي الله. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وتأتون في ناديكم المنكر" قال: مجلسكم. وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا في كتاب المصمت وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه: "وتأتون في ناديكم المنكر" قال: كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم". قال الترمذي: بعد إخراجه وتحسينه: ولا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك.وأخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، وهو قول الله سبحانه: "وتأتون في ناديكم المنكر". وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: هو الحذف. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة في الآية قالت: الضراط. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "فأخذتهم الرجفة" قال: الصيحة، وفي قوله: " وكانوا مستبصرين " قال: في الضلالة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً" قال: قوم لوط "ومنهم من أخذته الصيحة" قال: ثمود "ومنهم من خسفنا به الأرض" قال: قارون "ومنهم من أغرقنا" قال: قوم نوح.

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

قوله: 41- "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء" يوالونهم ويتكلمون عليهم في حاجاتهم من دون الله سواء كانوا من الجماد أو الحيوان، ومن الأحياء أو من الأموات "كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً" فإن بيتها لا يغني عنها شيئاً لا في حر ولا قر ولا مطر، كذلك ما تخذوه ولياً من دون الله، فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ولا يغني عنهم شيئاً. قال الفراء: هو مثل ضربه الله لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً. قال: ولا يحسن الوقف على العنكبوت لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء شبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به، وقد جوز الوقف على العنكبوت التي اتخذت بيتاً، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول والعنكبوت تقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وتجمع على عناكب وعنكبوتات، وهي الدويبة الصغيرة التي تنسج نسجاً رقيقاً. وقد يقال لها عكنبات، ومنه قول الشاعر: كأنما يسقط من لغامها بيت عكنبات على زمامها "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" لا بيت أضعف منه مما يتخذه الهوام بيتاً ولا يدانيه في الوهى والوهن شيء من ذلك "لو كانوا يعلمون" أن اتخاذهم الأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت بيتاً، أو لو كانوا يعلمون شيئاً من العلم لعلموا بهذا.

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

42- " إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء " ما استفهامية، أو نافية أو موصولة، ومن للتبعيض أو مزيدة للتوكيد. وقيل إن هذه الجملة على إضمار القول: أي قل للكافرين إن الله يعلم أي شيء يدعون من دونه. وجزم أبو علي الفارسي بأنها استفهامية، وعلى تقدير النفي كأنه قيل: إن الله يعلم أنكم لا تدعون من دونه من شيء: يعني ما تدعونه ليس بشيء، وعلى تقدير الموصولة: إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه، ويجوز أن تكون ما مصدرية، ومن شيء عبارة عن المصدر. قرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب "يدعون" بالتحتية. واختار هذه القراءة أبو عبيد لذكر الأمم قبل هذه الآية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب "وهو العزيز الحكيم" الغالب المصدر أفعاله على غاية الإحكام والإتقان.

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ

43- "وتلك الأمثال نضربها للناس" أي هذا المثل وغيره من الأمثال التي في القرآن نضربها للناس تنبيهاً لهم وتقريباً لما بعد من أفهامهم "وما يعقلها" أي يفهمها ويتعقل الأمر الذي ضربناها لأجله "إلا العالمون" بالله الراسخون في العلم المتدبرون المتفكرون لما يتلى عليهم وما يشاهدونه.

خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ

44- "خلق الله السموات والأرض بالحق" أي بالعدل والقسط مراعياً في خلقها مصالح عباده. وقيل المراد بالحق كلامه وقدرته، ومحل بالحق النصب على الحال "إن في ذلك لآية للمؤمنين" أي لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته وتفرده بالإلهية، وخص المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بذلك.

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ

45- "اتل ما أوحي إليك من الكتاب" أي القرآن، وفيه الأمر بالتلاوة للقرآن والمحافظة على قراءته مع التدبر لآياته والتفكر في معانيه "وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" أي دم على إقامتها واستمر على أدائها كما أمرت بذلك، وجملة "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" تعليل لما قبلها، والفحشاء ما قبح من العمل، والمنكر ما لا يعرف في الشريعة: أي تمنعه من معاصي الله وتبعده منها، ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سبباً للانتهاء، والمراد هنا الصلوات المفروضة "ولذكر الله أكبر" أي أكبر من كل شيء: أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر. قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق: أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله مراقب له. وقيل ذكر الله أكبر بالذكر في الآية التسبيح والتهليل، يقول هو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر. وقيل المراد بالذكر هنا الصلاة: أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات، وعبر عنها بالذكر كما في قوله: "فاسعوا إلى ذكر الله" للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات، وقيل المعنى: ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، واختار هذا ابن جرير، ويؤيده حديث "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" "والله يعلم ما تصنعون" لا تخفى عليه من ذلك خافية فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً.

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

46- "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" أي إلا بالخصلة التي هي أحسن، وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة "إلا الذين ظلموا منهم" بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم، هكذا فسر الآية أكثر المفسرين بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى. وقيل معنى الآية: لا تجادلوا من آمن بمحمد من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن: يعني بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أهل الكتاب، ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا القول هم الباقون على كفرهم. وقيل هذه الآية منسوخة بآيات القتال، وبذلك قال قتادة ومقاتل. قال النحاس: من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك. قال سعيد بن جبير ومجاهد: إن المراد بالذين ظلموا منهم الذين نصبوا القتال للمسلمين فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية "وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا" من القرآن "وأنزل إليكم" من التوراة والإنجيل: أي آمنا بأنهما منزلان من عند الله وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية والبعثة المحمدية، ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه "وإلهنا وإلهكم واحد" لا شريك له ولا ضد ولا ند "ونحن له مسلمون" أي ونحن معاشر أمة محمد مطيعون له خاصة، لم نقل عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله، ولا اخذنا أحبارنا ورهباننا أرباباً من دون الله، ويحتمل أن يراد ونحن جميعاً منقادون له، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب وطاعتهم أبلغ من طاعتهم. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء" الآية قال: ذاك مثل ضربه الله لمن عبد غيره أن مثله كمثل بيت العنكبوت. وأخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العنكبوت شيطان مسخها الله فمن وجدها فليقتلها". وأخرج ابن أبي حاتم عن مزيد بن ميسرة قال: العنكبوت شيطان. وأخرج الخطيب عن علي قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن". وروى القرطبي في تفسيره عن علي أيضاً أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيت يورث الفقر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود، والثانية على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" قال: في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمران بن حصين قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" فقال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعداً". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له". وفي لفظ "لم يزد بها من الله إلا بعداً". وأخرج الخطيب عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً نحوه. قال السيوطي: وسنده ضعيف. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الشعب عنه نحوه موقوفاً. قال ابن كثير في تفسيره: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولذكر الله أكبر" يقول: ولذكر الله لعباده إذا ذكروه أكبر من ذكرهم إياه. وأخرج الفريابي وسعد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن ربيعة قال: سألني ابن عباس عن قول الله "ولذكر الله أكبر" فقلت: ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير قال: لذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، ثم قال: اذكروني أذكركم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير عن ابن مسعود "ولذكر الله أكبر" قال: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله. وأخرج ابن السني وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: لها وجهان: ذكر الله أكبر مما سواه. وفي لفظ: ذكر الله عند ما حرمه وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه. وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع، لأن الله يقول في كتابه العزيز "ولذكر الله أكبر". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في الشعب عن عنترة قال: قلت لابن عباس أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" قال: بلا إله إلا الله. وأخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل ألينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون". وأخرج البيهقي في الشعب والديلمي وأبو نصر السجزي في الإبانة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق، والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن مسعود قال: لا تسألوا أهل الكتاب، وذكر نحو حديث جابر، ثم قال: فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما وطأ كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه.

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ

قوله: 47- "وكذلك أنزلنا إليك الكتاب" هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والإشارة إلى مصدر الفعل كما بيناه في مواضع كثيرة. أي ومثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا إليك الكتاب، وهو القرآن، وقيل المعنى: كما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك القرآن "فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به" يعني مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وخصهم بإيتائهم الكتاب لكونهم العاملين به وكأن غيرهم لم يؤتوه لعدم عملهم بما فيه وجحدهم لصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكورة فيه "ومن هؤلاء من يؤمن به" الإشارة إلى أهل مكة، والمراد أن منهم، وهو من قد أسلم من يؤمن به: أي بالقرآن، وقيل الإشارة إلى جميع العرب "وما يجحد بآياتنا" أي آيات القرآن "إلا الكافرون" المصممون على كفرهم من المشركين وأهل الكتاب "وما يجحد بآياتنا" أي آيات القرآن "إلا الكافرون" المصممون على كفرهم من المشركين وأهل الكتاب.

وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ

48- " وما كنت تتلو من قبله من كتاب " الضمير في قبله راجع إلى القرآن لأنه المراد بقوله أنزلنا إليك الكتاب: أي ما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتاباً ولا تقدر على ذلك لأنك أمي لا تقرأ ولا تكتب "ولا تخطه بيمينك" أي ولا تكتبه لأنك لا تقدر على الكتابة. قال مجاهد كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية. قال النحاس: وذلك دليل على نبوته لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل كتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم "إذاً لارتاب المبطلون" أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا لعله وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة أو من الكتب المدونة في أخبار الأمم، فلما كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة ولا محل للشك أبداً، بل إنكار من أنكر وكفر مجرد عناد وجحود بلا شبهة، وسماهم مبطلين لأن ارتيابهم على تقدير أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته ووضوح معجزاته.

بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ

49- "بل هو آيات بينات" يعني القرآن "في صدور الذين أوتوا العلم" يعني المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم وحفظوه بعده، وقال قتادة وومقاتل: إن الضمير يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أي بل محمد آيات بينات: أي ذو آيات. وقرأ ابن مسعود بل هي آيات بينات قال الفراء معنى هذه القراءة: بل آيات القرآن آيات بينات..واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع بل هذا آيات بينات ولا دليل في هذه القراءة على ذلك، لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن كما جاز أن تكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج ذلك إلى التأويل، والتقدير "وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون" أي المجاوزون للحد في الظلم.

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ

50- "وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه" أي قال المشركون هذا القول، والمعنى: هلا أنزلت عليه آيات كآيات الأنبياء، وذلك كآيات موسى وناقة صالح وإحياء المسيح للموتى، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال: "قل إنما الآيات عند الله" ينزلها على من يشاء من عباده ولا قدرة لأحد على ذلك "وإنما أنا نذير مبين" أنذركم كما أمرت وأبين لكم كما ينبغي، ليس في قدرتي غير ذلك. قرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي "لولا أنزل عليه آية" بالإفراد. وقرأ الباقون بالجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله "قل إنما الآيات" .

أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

51- " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " هذه الجملة مستأنفة للرد على اقتراحهم وبيان بطلانه: أي أو لم يكف المشركين من الآيات التي اقترحوها هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه فعجزوا، ولو أتيتهم بآيات موسى وآيات غيره من الأنبياء لما آمنوا، كما لم يؤمنوا بالقرآن الذي يتلى عليهم في كل زمان ومكان "إن في ذلك" الإشارة إلى الكتاب الموصوف بما ذكر "لرحمة" عظيمة في الدنيا والآخرة "وذكرى" في الدنيا يتذكرون بها وترشدهم إلى الحق "لقوم يؤمنون" أي لقوم يصدقون بما جئت به من عند الله فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك.

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

52- "قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً" أي قل للمكذبين كفى الله شهيداً بما وقع بيني وبينكم "يعلم ما في السموات والأرض" لا تخفى عليه من ذلك خافية، ومن جملته ما صدر بينكم وبين رسوله " والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون " أي أمنوا بما يعبدونه من دون الله وكفروا بالحق وهو الله سبحانه، أولئك هم الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

53- "ويستعجلونك بالعذاب" استهزاء وتكذيباً منهم بذلك كقولهم "أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" "ولولا أجل مسمى" قد جعله الله لعذابهم وعينه، وهو القيامة، وقال الضحاك: الأجل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب "لجاءهم العذاب" أي لولا ذلك الأجل المضروب لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم. وقيل المراد بالأجل المسمى النفخة الأولى، وقيل الوقت الذي قدره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر. والحاصل أن لكل عذاب أجلاً لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه كما في قوله سبحانه: " لكل نبإ مستقر " وجملة "وليأتينهم بغتة" مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها، ومعنى بغتة فجأة، وجملة "وهم لا يشعرون" في محل نب على الحال: أي حال كونهم لا يعلمون بإتيانه،

يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ

ثم ذكر سبحانه أن موعد عذابهم النار فقال: 54- "يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين" أي يطلبون منك تعجيل عذابهم والحال أن مكان العذاب محيط بهم أي: سيحيط بهم عن قرب، فإن ما هو آت قريب، والمراد بالكافرين جنسهم فيدخل فيه هؤلاء المستعجلون دخولاً أولياً، فقوله: "ويستعجلونك بالعذاب" إخبار عنهم، وقوله ثانياً "يستعجلونك بالعذاب" تعجب منهم، وقيل التكرير للتأكيد.

يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

ثم ذكر سبحانه كيفية إحاطة العذاب بهم فقال 55- "يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم" أي من جميع جهاتهم فإذا غشيهم العذاب على هذه الصفة فقد أحاطت بهم جهنم " ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون " القائل هو الله سبحانه أو بعض ملائكته يأمره: أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي. قرأ أهل المدينة والكوفة نقول بالنون. وقرأ الباقون بالتحتية، واختار القراءة الأخيرة أبو عبيد لقوله: "قل كفى بالله" وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة ويقال ذوقوا. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والإسماعيلي في معجمه عن ابن عباس في قوله: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ولا يكتب كان أمياً، وفي قوله: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" قال: كان الله أنزل شأن محمد في التوراة والإنجيل لأهل العلم وعلمه لهم وجعله لهم آية فقال لهم: إن آية نبوته أن يخرج حين يخرج ولا يعلم كتاباً ولا يخطه بيمينه، وهي الآيات البينات التي قال الله تعالى. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب " الآية قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ولا يكتب. وأخرج الفريابي والدارمي وأبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال: " جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفى بقوم حمقاً أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم فنزلت " أولم يكفهم " الآية". وأخرجه الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة فذكره بمعناه. وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في الشعب عن الزهري "أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف، فجعلت تقرأه والنبي صلى الله عليه وسلم يتلون وجهه فقال: والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا نبيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم". وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن الضريس والحاكم في الكنى والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال: " دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط فقال عبد الله بن الحرث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقال عمر: رضينا بالله وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم". وأخرج نحوه عبد الرزاق والبيهقي من طريق أبي قلابة عن عمر. وأخرج البيهقي وصححه عن عمر بن الخطاب قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعلم التوراة فقال: لا تتعلمها وآمن بها، وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوا به". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن جهنم لمحيطة بالكافرين" قال: جهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه وتكون فيه الشمس والقمر ثم يستوقد فيكون هو جهنم، وفي هذا نكارة شديدة، فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة.

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ

لما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ومن المشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم، وزاد فسادهم، وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه فقال الله سبحانه: 56- "يا عبادي الذين آمنوا" أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفاً وتكريماً، والذين آمنوا صفة موضحة أو مميزة "إن أرضي واسعة" إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان، وفي مكايدة للكفار فاخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي وتتسهل عليكم. قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته. وقال مطرف بن الشخير: المعنى إن رحمتي واسعة ورزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض. وقيل المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة فاعبدون حتى أورثكموها. وانتصاب إياي بفعل مضمر: أي فاعبدوا إياي.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ

ثم خوفهم سبحانه بالموت ليهون عليهم أمر الهجرة فقال: 57- "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان، ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى غيره، فكل حي في سفر إلى دار القرار وإن طال لبثه في هذه الدار.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ

58- "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً" في هذا الترغيب إلى الهجرة، وأن جزاء من هاجر أن يكون في غرف الجنة، ومعنى لنبوئنهم لننزلنهم غرف الجنة، وهي علاليها: فانتصاب غرفاً على أنه المفعول الثاني على تضمين نبوتهم معنى ننزلنهم أو على الظرفية مع عدم التضمين، لأن نبوتهم لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وإما منصوب بنزع الخافض اتساعاً: أي في غرف الجنة، وهو مأخوذ من المباءة وهي الإنزال. قرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف يا عبادي بإسكان الياء وفتحها الباقون. وقرأ ابن عامر "إن أرضي" بفتح الياء، وسكنها الباقون. وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم يرجعون بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " لنبوئنهم " بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة، وقرأ الباقون بالباء الموحدة، ومعنى لنثوينهم بالمثلثة: لنعطينهم غرفاً يثوون فيها من الثوى وهو الإقامة. قال الزجاج، يقال ثوى الرجل: إذا أقام، وأثويته: إذا أنزلته منزلاً يقيم فيه. قال الأخفش: لا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول أثويته الدار، بل تقول في الدار، وليس في الآية حرف جر في المفعول الثاني، قال أبو علي الفارسي: هو على إرادة حرف الجر، ثم حذف كما تقول أمرتك الخير: أي بالخير. ثم وصف سبحانه تلك الغرف فقال: "تجري من تحتها الأنهار" أي من تحت الغرف "خالدين فيها" أي في الغرف لا يموتون أبداً، أو في الجنة، والأول أولى "نعم أجر العاملين" المخصوص بالمدح محذوف: أي نعم أجر العاملين أجرهم، والمعنى: العاملين للأعمال الصالحة.

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

ثم وصف هؤلاء العاملين فقال: 59- "الذين صبروا" على مشاق التكليف وعلى أذية المشركين لهم، ويجوز أن يكون منصوباً على المدح "وعلى ربهم يتوكلون" أي يفوضون أمورهم إليه في كل إقدام وإحجام.

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

ثم ذكر سبحانه ما يعين على الصبر والتوكل، وهو النظر في حال الدواب فقال: 60- "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم" قد تقدم الكلام في كأين، وأن أصلها أي دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم كما صرح به الخليل وسيبويه، وتقدريها عندهما كشيء كثير من العدد من دابة. وقيل المعنى: وكم من دابة. ومعنى "لا تحمل رزقها" لا تطيق حمل رزقها لضعفها ولا تدخره، وإنما يرزقها الله من فضله ويرزقكم فكيف لا يتوكلون على الله مع قوتهم وقدرتهم على أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها. قال الحسن: تأكل لوقتها، لا تدخر شيئاً. قال مجاهد: يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئاً "وهو السميع" الذي يسمع كل مسموع "العليم" بكل معلوم.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ

ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم وعجب السامع من كونهم يقرون بأن خالقهم ورازقهم ولا يوحدونه ويتركون عبادة غيره فقال: 61- "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله" أي خلقها، لا يقدرون على إنكار ذلك، ولا يتمكنون من جحوده "فأنى يؤفكون" أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده بالإلهية، وأنه وحده لا شريك له، والاستفهام للإنكار والاستبعاد.

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

ولما قال المشركون لبعض المؤمنين: لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء دفع سبحانه ذلك بقوله: 62- " الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " أي التوسيع في الرزق والتقتير له هو من الله الباسط القابض يبسطه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته، وما يليق بحال عباده من القبض والبسط، ولهذا قال: "إن الله بكل شيء عليم" يعلم ما فيه صلاح عباده وفسادهم.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ

63- "ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله" أي نزله وأحيا به الأرض الله، يعترفون بذلك لا يجدون إلى إنكاره سبيلاً. ثم لما اعترفوا هذا الاعتراف في هذه الآيات، وهو يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله على إقرارهم وعدم جحودهم مع تصلبهم في العناد وتشددهم في رد كل ما جاء به رسول الله من التوحيد فقال: "قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون" أي أحمد الله على أن جعل الحق معك، وأظهر حجرك عليهم، ثم ذمهم فقال: "بل أكثرهم لا يعقلون" الأشياء التي يتعلقها العقلاء. فلذلك لا يعملون بمقتضى ما اعترفوا به مما يستلزم بطلان ما هم عليه عند كل عاقل.

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا وأنها من جنس اللعب واللهو: وأن الدار على الحقيقة هي دار الآخرة فقال: 64- "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" من جنس ما يلهو به الصبيان ويلعبون به "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان". قال ابن قتيبة وأبو عبيدة: إن الحيوان الحياة. قال الواحدي: وهو قول جميع المفسرين ذهبوا إلى أن معنى الحيوان ههنا الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة فيكون كالنزوان والغليان ويكون التقدير: وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان، أو ذات الحيوان: أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا ينغضها موت ولا مرض، ولا هم ولا غم "لو كانوا يعلمون" شيئاً من العلم لما آثروا عليها الدار الفانية المنغصة.

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ

ثم بين سبحانه أنه ليس المانع لهم من الإيمان إلا مجرد تأثير الحياة فقال: 65- "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين" أي إذا انقطع رجاؤهم من الحياة وخافوا الغرق رجعوا إلى الفطرة، فدعوا الله وحده كائنين على صورة المخلصين له الدين بصدق نياتهم، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه "فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" أي فاجئوا المعاودة إلى الشرك، ودعوا غير الله سبحانه. والركوب هو الاستعلاء، وهو متعد بنفسه، وإنما عدي بكلمة في للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة.

لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

واللام في 66- "ليكفروا بما آتيناهم" وفي قوله: "وليتمتعوا" للتعليل: أي فاجئوا الشرك بالله ليكفروا بنعمة الله وليتمتعوا بهما فهما في الفعلين لام كي، وقيل هما لاما الأمر تهديداً ووعيداً: أي اكفروا بما أعطيناكم من النعمة وتمتعوا، ويدل على هذه القراءة قراءة أبي وتمتعوا وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسر اللام، وأما على قراءة الجمهور بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر، وفي قوله: "فسوف يعلمون" تهديد عظيم لهم: أي فسيعلمون عاقبة ذلك وما فيه من الوبال عليهم.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ

67- " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا " أي ألم ينظروا: يعني كفار قريش أنا جعلنا حرمهم هذا حرماً آمنا يأمن فيه ساكنه من الغارة والقتل والسبي والنهب فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيرهم من العرب فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشيطانها، وجملة "ويتخطف الناس من حولهم" في محل نصب على الحال: أي يختلسون من حولهم بالقتل والسبي والنهب، والخطف: الأخذ بسرعة، وقد مضى تحقيق معناه في سورة القصص "أفبالباطل يؤمنون" وهو الشرك بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد "وبنعمة الله يكفرون" يجعلون كفرها مكان شكرها، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ

68- "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" أي لا أحد أظلم منه، وهو من زعم أن لله شريكاً "أو كذب بالحق لما جاءه" أي كذب بالرسول الذي أرسل إليه والكتاب الذي أنزله على رسوله. وقال السدي: كذب بالتوحيد، والظاهر شموله لما يصدق عليه أنه حق. ثم هدد المكذبين وتوعدهم فقال: "أليس في جهنم مثوى للكافرين" أي مكان يستقرون فيه، والاستفهام للتقرير، والمعنى: أليس يستحقون الاستقرار فيها وقد فعلوا ما فعلوا.

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ

ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله أردفه بحال عباده الصالحين، فقال: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير لنهدينهم سبلنا: أي الطريق الموصل إلينا. قال ابن عطية: هي مكية نزلت قبل فرض الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته، وقيل: الآية هذه نزلت في العباد. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون "وإن الله لمع المحسنين" بالنصر والعون، ومن كان معه لم يخذل، ودخلت لام التوكيد على مع بتأويل كونها اسماً، أو على أنها حرف ودخلت عليها لإفادة معنى الاستقرار كما تقول: إن زيداً لفي الدار، والبحث مقرر في علم النحو. وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما نزلت هذه الآية "إنك ميت وإنهم ميتون"، قلت يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون"". وينظر كيف صحة هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يسمع قول الله سبحانه "إنك ميت وإنهم ميتون" يعلم أنه ميت، وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا، وأنه خاتم الأنبياء فكيف ينشأ عن هذه الآية ما سأل عنه علي رضي الله عنه من قوله أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء فلعل هذه الرواية لا تصح مرفوعة ولا موقوفة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر، قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط التمر ويأكل، فقال لي مالك لا تأكل؟ قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعف اليقين. قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت "وكأين من دابة لا تحمل رزقها" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً، ولا أخبأ رزقاً لغد". وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة. وفي إسناده أبو العطوف الجوزي وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " قال: باقية. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور" وهو مرسل.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس