islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
14578

57-الحديد

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

هي تسع وعشرون آية وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحديد بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء، وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء". وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعاً "لا تحتجموا يوم الثلاثاء، فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء" وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن العرباض بن سارية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية". وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف. وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر العرباض بن سارية، فهو مرسل. وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات، وكان يقول: إن فيهن آية أفضل من ألف آية" قال يحيى: فنراها الآية التي في آخر الحشر. وقال ابن كثير في تفسيره: والآية المشارة إليها والله أعلم هي قوله: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن" الآية والمسبحات المذكورة هي: الحديد والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن. قوله: 1- "سبح لله ما في السموات والأرض" أي نزهه ومجده. قال المقاتلان: يعني كل شيء من ذي روح وغيره، وقد تقدم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجن، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع. وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" وإنما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: "وسخرنا مع داود الجبال يسبحن" فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة، وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارة، كما في قوله: "وسبحوه" وباللام أخرى كهذه الآية، وأصله أن يكون متعدياً بنفسه، لأن معنى سبحته: بعدته عن السوء، فإذا استعمل باللام فهي إما مزيدة للتأكيد كما في شكرته وشكرت له، أو هي للتعليل: أي افعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصاً له، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضياً كهذه الفاتحة، وفي بعضها مضارعاً، وفي بعضها أمراً للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت، بل هي مسبحة أبداً في الماضي وستكون مسبحة أبداً في المستقبل "وهو العزيز" أي القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد ولا يمانعه ممانع كائناً ما كان "الحكيم" الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب.

لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

2- "له ملك السموات والأرض" يتصرف فيه وحده ولاينفذ غير تصرفه وأمره، وقيل أراد خزائن المطر والنبات وسائر الأرزاق "يحيي ويميت" الفعلان في محل رفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل نصب على الحال من ضمير له، أو كلام مستأنفة لبيان بعض أحكام الملك، والمعنى: أنه يحيي في الدنيا ويميت الأحياء، وقيل يحيي النطف وهي موات ويميت الأحياء، وقيل يحيي الأموات للبعث "وهو على كل شيء قدير" لا يعجزه شيئ كائناً ما كان.

هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

3- "هو الأول" قبل كل شيء "والآخر" بعد كل شيء: أي الباقي بعد فناء خلقه "والظاهر" العالي الغالب على كل شيء، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة "والباطن" أي العالم بما بطن، ومن قولهم فلان يبطن أمر فلان: أي يعلم داخلة أمره، ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار والعقول، وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، فيتعين المصير إلى ذلك "وهو بكل شيء عليم" لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ ب

4- "هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" هذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض. وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفى "يعلم ما يلج في الأرض" أي يدخل فيها من مطر وغيره "وما يخرج منها" من نبات وغيره "وما ينزل من السماء" من مطر وغيره "وما يعرج فيها" أي يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد، وقد تقدم تفسير هذا في سورة سبأ " وهو معكم أين ما كنتم " أي بقدرته وسلطانه وعلمه، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من بر وبحر "والله بما تعملون بصير" لا يخفى عليه من أعمالكم شيء.

لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

5- "له ملك السموات والأرض" هذا التكرير للتأكيد "وإلى الله ترجع الأمور" لا إلى غيره. قرأ الجمهور "ترجع" مبيناً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر على البناء للفاعل.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

6- "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" قد تقدم تفسير هذا في سورة آل عمران، وفي مواضع "وهو عليم بذات الصدور" أي بضمائر الصدور ومكنوناتها، لا يخفى عليه من ذلك خافية. وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فقال: "قوله: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر". وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة وتفسيرها. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا: هذا الله كان قبل كل شيء، فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأول قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم". وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري، قال ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال حتى أنزل الله " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " الآية قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابي عباس في قوله: " وهو معكم أين ما كنتم " قال: عالم بكم أينما كنتم.

آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ

7- قوله " آمنوا بالله ورسوله " أي صدقوا بالتوحيد وبصحة الرسالة ، وهذا خطاب لكفار العرب ، ويجوز أن يكون خطابا للجميع ، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه ، أو الازدياد منه ، ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال : " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " أي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، فإن المال مال الله والعباد خلفاء الله في أمواله فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه وقيل جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه ، وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم فلا تبخلوا به . كذا قال الحسن وغيره ، وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبيل الخير قبل أن ينتقل عنهم ويصير إلى غيرهم ، والظاهر أن معنى الآية الترغيب في الإنفاق في الخير ، وما يرضاه الله على العموم ، وقيل هو خاص بالزكاة المفروضة ، ولا وجه لهذا الخصوص ، ثم ذكر سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال : " فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير " أي الذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله ، وبين الإنفاق في سبيل الله لهم أجر كبير ، وهو الجنة .

وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

8- "وما لكم لا تؤمنون بالله" هذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع: أي أي عذر لكم، وأي مانع من الإيمان. وقد أزيحت عنكم العلل، وما مبتدأ ولكم خبره ولا تؤمنون في محل نصب على الحال من الضمير في لكم، والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وقيل المعنى: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا؟ وجملة "والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم" في محل نصب على الحال من ضمير لا تؤمنون على التداخل، ولتؤمنوا متعلق بيدعوكم: أي يدعوكم للإيمان، والمعنى: أي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه؟ وجملة "وقد أخذ ميثاقكم" في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضاً: أي والحال أن قد أخذ الله ميثاقكم حين أخبرجكم من ظهر أبيكم آدم، أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان. قرأ الجمهور "وقد أخذ" مبنياً للفاعل، وهو الله سبحانه لتقدم ذكره. وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول "إن كنتم مؤمنين" بما أخذ عليكم من الميثاق، أو بالحجج والدلائل، أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب فهذا من أعظم أسبابه وأوضح موجباته.

هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

9- "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات" أي واضحات ظاهرات، وهي الآية القرآنية، وقيل المعجزات والقرآن أعظمها "ليخرجكم من الظلمات إلى النور" أي ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات، أو بالدعوة "وإن الله بكم لرؤوف رحيم" أي لكثير الرأفة والرحمة بليغهما حيث أنزل كتبه وبعث رسله لهداية عباده فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه.

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَع

والاستفهام في قوله:10- " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " للتقريع والتوبيخ، والكلام في إعراب هذا كالكلام في إعراب قوله: "وما لكم لا تؤمنون بالله" وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" هو الإنفاق في سبيل الله كما بينا ذلك، والمعنى: أي عذر لكم وأي شيء يمنعكم من ذلك، والأصل في أن لا تنفقوا، وقيل إن أن زائدة، وجملة "ولله ميراث السموات والأرض" في محل نصب على الحال من فاعل ألا تنفقوا أو من مفعوله، والمعنى: أي شيء يمنعكم من الإنفاق في ذلك الوجه والحال أن كل ما في السموات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لهم منه شيء، وهذا أدخل في التوبيخ وأكمل في التقريع، فإن كون تلك الأموال تخرج عن أهلها وتصير لله سبحانه ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة، وهم خلفاؤه في التصرف فيها.ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح" قيل المراد بالفتح فتح مكة. وبه قال أكثر المفسرين. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وكذا قال مقاتل وغيره، وفي الكلام حذف، والتقدير: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح "وقاتل" ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لظهوره ولدلالة ما سيأتي عليه، وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقل وأضعف، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال. والجود بالنفس أقصى غاية الجود والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره "أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا" أي أرفع منزلة وأعلى رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم. وكانت بصائرهم أيضاً أنفذ. وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صح عنه "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وهذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للمتأخرين وصحبه كما يرشد إلى ذلك السبب الذي ورد فيه هذا الحديث "وكلا وعد الله الحسنى" أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها. قرأ الجمهور "وكلاً" بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر. وقرأ ابن عامر بالرفع على الابتداء، والجملة بعده خبره والعائد محذوف، أو على أنه خبر محذوف، ومثل هذا قول الشاعر: قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع "والله بما تعملون خبير" لا يخفى عليه من ذلك شيء.

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ

ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال: 11- "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الل، فإنه كمن يقرضه، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً قد أقرض، ومنه قول الشاعر: إذا جوزيت قرضاً فأجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل قال الكلبي "قرضاً" أي صدقة "حسناً" أي محتسباً من قلبه بلا من ولا أذى. قال مقاتل: حسناً طيبة به نفسه، وقد تقدم تفسير الآية في سورة البقرة "فيضاعفه له" قرأ ابن عامر وابن كثير فيضعفه بإسقاط الألف إلا أن ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة فيضاعفه بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصماً نصب الفاء ورفع الباقون. قال ابن عطية: الرفع على العطف على يقرض، أو الاستئناف والنصب لكون الفاء في جواب الاستفهام. وضعف النصب أبو علي الفارسي قال لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما وقع عن فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: "من ذا الذي يقرض الله" بمنزلة قوله أيقرض الله أحد "وله أجر كريم" وهو الجنة، والمضاعفة هنا هي كون الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال "خرجنا مع رسول الله عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يأتي قوم [تحرقون] أعمالكم مع أعمالهم، قلنا من هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: لا، ولكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه، إلا أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل" الآية" وهذا الحديث قال ابن كثير: هو غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية. وأخرج أحمد عن أنس قال: "كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم" والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك أحدهم ولا نصيفه" لفظ "ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وأخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما عن حديث أبي سعيد الخدري. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره.

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

قوله: 12- "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات" العامل في الظرف مضمر وهو أذكر، أو كريم، أو فيضاعفه، أو العامل في لهم وهو الاستقرار، والخطاب لكل من يصلح له، وقوله: "يسعى نورهم" في محل نصب على الحال من مفعول ترى، والنور هو الضياء الذي يرى "بين أيديهم وبأيمانهم" وذلك على الصراط يوم القيامة، وهو دليلهم إلى الجنة. قال قتادة: إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نورة إلا موضع قدميه. وقال الضحاك ومقاتل: وبأيمانهم كتبهم التي أعطوها، فكتبهم بأيمانهم، ونورهم بين أيديهم. قال الفراء: الباء بمعنى في: أي في أيمانهم، أو بمعنى عن. قال الضحاك أيضاً: نورهم هداهم وبأيمانهم كتبهم، واختار هذا ابن جرير الطبري: أي يسعى أيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم، قرأ الجمهور "بأيمانهم" جمع يمين. وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة بأيمانهم بكسر الهمزة على أن المراد بالإيمان ضد الكفر، وقيل هو القرآن، والجار والمجرور في الموضعين في محل نصب على الحال من نورهم: أي كائناً بين أيديهم وبأيمانهم "بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" بشراكم مبتدأ، وخبره جنات على تقدير مضاف: أي دخول جنات، والجملة مقول قول مقدر: أي يقال لهم هذا، والقائل لهم هم الملائكة. قال مكي: وأجاز الفراء نصب جنات على الحال، ويكون اليوم خبر بشراكم، وهذا بعيد جداً خالدين فيها حال مقدرة، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى النور والبشرى، وهو مبتدأ وخبره "هو الفوز العظيم" أي لا يقادر قدره حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه.

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذ

13- "يوم يقول المنافقون والمنافقات" يوم بدل من يوم الأول، ويجوز أن يكون العامل فيه الفوز العظيم، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر: أي اذكر "للذين آمنوا" اللام للتبليغ كنظائرها. قرأ الجمهور " انظرونا " أمراً بوصل الهمزة وضم الفاء من النظر بمعنى الانتظار: أي انتظرونا، يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار: أي أمهلونا وأخبرونا، يقال أنظرته واستنظرته: أي أمهلته واستمهلته. قال الفراء: تقول العرب أنظرني: أي انتظرني، وأنشد قول عمرو بن كلثوم: أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا وقيل معنى انظرونا: انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنورهم "نقتبس من نوركم" أي نستضيء منه، والقبس: الشعلة من النار والسراج، فلما قالوا ذلك "قيل ارجعوا وراءكم" أي قال لهم المؤمنون أو الملائكة زجراً لهم وتهكماً بهم: أي ارجعوا وراءكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور "فالتمسوا نوراً" أي اطلبوا هنالك نوراً لأنفسكم، فإنه من هنالك يقتبس، وقيل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة، وقيل أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكما بهم "فضرب بينهم بسور" السور: هو الحاجز بين الشيئين، والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار، أو بين أهل الجنة وأهل انار. قال الكسائي: والباء في بسور زائدة. ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال: "له باب باطنه فيه الرحمة" أي باطن ذلك السور. وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة فيه الرحمة وهي الجنة "وظاهره" وهو الجانب الذي يلي أهل النار "من قبله العذاب" أي من جهته عذاب جهنم، وقيل إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة. والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور، وقيل إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.

يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ

ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك فقال: 14- "ينادونهم ألم نكن معكم" أي موافقين لكم في الظاهر نصلي بصلاتكم في مساجدكم ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم، والجملة مستأنفة كأنه قيل: فماذا قال المنافقون بعد ضرب السور بينهم وبين المنؤمنين؟ فقال: "ينادونهم"، ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال: "قالوا بلى" أي كنتم معنا في الظاهر "ولكنكم فتنتم أنفسكم" بالنفاق وإبطان الكفر. قال مجاهد أهلكتموها بالنفاق، وقيل بالشهوات واللذات "وتربصتم" بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمن معه من المؤمنين حوادث الدهر، وقيل تربصتم بالتوبة، والأول أولى "وارتبتم" أي شككتم في أمر الدين ولم تصدقوا ما نزل من القرآن ولا بالمعجزات الظاهرة "وغرتكم الأماني" الباطلة التي من [جملتها] ما كنتم فيه من التربض، وقيل هو طول الأمل، وقيل ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين. وقال قتادة: الأماني هنا غرور الشيطان، وقيل الدنيا، وقيل هو طمعهم في المغفرة، وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأماني "حتى جاء أمر الله" وهو الموت، وقيل نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: هو إلقاؤهم في النار "وغركم بالله الغرور" قرأ الجمهور "الغرور" بفتح الغين، وهو صفة على فعول، والمراد به الشيطان: أي خدعكم بحلم الله وإمهاله الشيطان. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع وسماك بن حرب بضمها وهو مصدر.

فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

15- "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية" تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون "ولا من الذين كفروا" بالله ظاهراً وباطناً "مأواكم النار" أي منزلكم الذي تأوون إليه النار "هي مولاكم" أي هي أولى بكم، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان ثم استعمل فيمن يلازمه، وقيل معنى مولاكم: مكانكم عن قرب، من الولي وهو القرب. وقيل إن الله [يركب] في النار الحياة والعقل، فهي تتميز غيظاً على الكفار، وقيل المعنى: هي ناصركم على طريقة قول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع "وبئس المصير" الذي تصيرون إليه وهو النار. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود "يسعى نورهم بين أيديهم" قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويوقد أخرى. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ " انظرونا نقتبس من نوركم " فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون: "ارجعوا وراءكم" من حيث جئتم من الظلمة "فالتمسوا" هنالك النور. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون "انظرونا نقتبس من نوركم" وقال المؤمنون "ربنا أتمم لنا نورنا" فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً" وفي الباب أحاديث وآثار. وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت: أنه كان على سور بيت المقدس فبكى، فقيل له ما يبكيك؟ فقال: هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره الله في القرآن "فضرب بينهم بسور" هو السور الذي ببيت المقدس الشرقي "باطنه فيه الرحمة" المسجد "وظاهره من قبله العذاب" يعني وادي جهنم وما يليه. ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال، ولا سيما بعد زيادة قوله: باطنه في الرحمة المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأي معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس، ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين، فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرحمة بالمسجد، وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد. ويجعل المنافقين خارجه، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه وآمنا به، وإلا فلا كرامة ولا قبول. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "ولكنكم فتنتم أنفسكم" قال: بالشهوات واللذات "وتربصتم" قال: بالتوبة "وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله" قال: الموت "وغركم بالله الغرور" قال: الشيطان.

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ

قوله: 16- "ألم يأن للذين آمنوا" يقال أنى لك يأنى أنى: إذا حان. قرأ الجمهور "ألم يأن" وقرأ الحسن وأبو السماك ألما يأن وأنشد ابن السكيت: ألما يأن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا و"أن تخشع قلوبهم" فاعل يأن: أي ألم يحضر خشوع قلوبهم ويجيء وقته، ومنه قول الشاعر: ألم يأن لي قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلاً هذه الآية نزلت في المؤنين. قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل إن الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد. قال الزجاج: نزلت في طائفة من المؤمنين، حثوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفهم الله بالرقة والخشوع فطبقة فوق هؤلاء. وقال السدي وغيره: المعنى ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر وأسروا الكفر أن تخشع قلوبهم "لذكر الله" وسيأتي في آخر البحث ما يقوي قول من قال إنها نزلت في المسلمين، والخشوع لين القلب ورقته. والمعنى: أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعاً ورقة، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر ولا يخشع له "وما نزل من الحق" معطوف على ذكر الله، والمراد بما نزل من الحق القرآن، فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان، أو خطور بالقلب، وقيل المراد بالذكر هو القرآن، فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير، أو باعتبار تغير المفهومين. قرأ الجمهور "نزل" مشدداً مبنياً للفاعل. وقرأ نافع وحفص بالتخفيف مبنياً للفاعل. وقرأ ابن مسعود أنزل مبنياً للفاعل "ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل" قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جرياً على ما تقدم. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالفوقية على [الخطاب] التفاتاً، وبها قرأ عيسى وابن إسحاق، والجملة معطوفة على تخشع: أي ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم ولا يكونوا، والمعنى: النهي لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن "فطال عليهم الأمد" أي طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم. قرأ الجمهور الأمد بتخفيف الدال، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها: أي الزمن الطويل، وقيل المراد بالأمد على القراءة الأولى الأجل والغاية، يقال أمد فلان كذا: أي غايته "فقست قلوبهم" بذلك السبب، فلذلك حرفوا وبدلوا، فهنى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم "وكثير منهم فاسقون" أي خارجون عن طاعة الله لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم، وحرفوا وبدلوا ولم يؤمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل هم الذين ابتعدوا الرهبانية، وهم أصحاب الصوامع.

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

17- "اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها" فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها "قد بينا لكم الآيات" التي من جملتها هذه الآيات "لعلكم تعقلون" أي كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ وتعلموا بموجب ذلك.

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ

18- "إن المصدقين والمصدقات" قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الوضعين من الصدقة، وأصله المتصدقين والمتصدقات، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ أبي المتصدقين والمتصدقات بإثبات التاء على الأصل. وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد فيهما من التصديق: أي صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به "وأقرضوا الله قرضاً حسناً" معطوف على اسم الفاعل في المصدقين لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حل محل الفعل، فكأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا كذا قال أبو علي الفارسي وغيره. وقيل جملة وأقرضوا معترضة بين اسم إن وخبرها، وهو "يضاعف" وقيل هي صلة لموصول محذوف: أي والذين أقرضوا، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية وصحة قصد واحتساب أجر. قرأ الجمهور "يضاعف لهم" بفتح العين على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور أو ضمير يرجع إلى المصدقين على حذف مضاف: أي ثوابهم، وقرأ الأعمش يضاعفه بكسر العين وزيادة الهاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " يضاعف " بتشديد العين وفتحها "ولهم أجر كريم" وهو الجنة، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

19- "والذين آمنوا بالله ورسله" جميعاً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصول، وخبره قوله: "هم الصديقون والشهداء" والجملة خبر الموصول. قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق. قال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم. وقال مجاهد: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذي يشهدون للأمر وعليهم، واختار هذا الفراء والزجاج. وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير، وقيل هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ، والظاهر أن معنى الآية: إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعاً بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الدرجة عند الله، وقيل إن الصديقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله وصدقوا جميع رسله، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد. ثم بين سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال: "لهم أجرهم ونورهم" والضمير الأول راجع إلى الموصول، والضميران الأخيران راجعان إلى الصديقين والشهداء، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد، والمعنى: لهم الأجر والنور الموعودان لهم. ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم ذكر حال الكافرين وعقابهم فقال: "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا" أي جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصول باعتبار ما في صلته من اتصافهم بالكفر والتكذيب، وهذا مبتدأ وخبره "أصحاب الجحيم" يعذبون بها ولا أجر لهم ولا نور. بل عذاب مقيم وظلمة دائمة. وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله: "ألم يأن للذين آمنوا" الآية". وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون، فسحب رداءه محمراً وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم، ولقد أنزل علي في ضحككم آية "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله" قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم". وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية "ألم يأن للذين آمنوا" إلا أربع سنين. وأخرج نحوه عنه ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عنه أيضاً قال: لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض: أي شيء أحدثنا أي شيء صنعنا؟. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن "ألم يأن للذين آمنوا" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي رواد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت هذه الآية "ألم يأن للذين آمنوا". وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس "اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها" قال: يعني أنه يلين القلوب بعد قسوتها. وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مؤمنوا أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: "والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم"". وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال: كل مؤمن صديق وشهيد. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: "إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون" قال: هذه مفصولة "والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم"". وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني: قال "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء".

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَة

قوله: 20- "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو" لما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني وما وقع منهم من الكفر والتكذيب، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرها بين لهم حقارتهم وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة، واللعب هو الباطل، اللهو كل شيء يتلهى به ثم يذهب. قال قتادة: لعب ولهو. أكل وشرب. قال مجاهد: كل لعب لهو، وقيل اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها، وقيل اللعب الاقتناء، واللهو النساء، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة الأنعام، والزينة التزين بمتاع الدنيا من دون عمل للآخرة "وتفاخر بينكم" قرأ الجمهور بتنوين " تفاخر " والظرف صفة له، أو معمول له، وقرأ السلمي بالإضافة: أي يفتخر به بعضكم على بعض، وقيل يتفاخرون بالخلقة والقوة، وقيل بالأنساب والأحساب كما كانت عليه العرب "وتكاثر في الأموال والأولاد" أي يتكاثرون بأموالهم وأولادهم وتيطاولون بذلك على الفقراء ثم بين سبحانه لهذه الحاية شبها، وضرب لها مثلاً فقال: "كمثل غيث أعجب الكفار نباته" أي كمثل مطر أعجب الزراع نباته، والمراد بالكفار هنا الزراع لأنهم يكفرون البذر: أي يغطونه بالتراب، ومعنى نباته: النبات الحاصل به " ثم يهيج " أي يجف بعد خضرته وييبس "فتراه مصفراً" أي متغيراً عما كان عليه من الخضرة: والرونق إلى لون الصفرة والذبول "ثم يكون حطاماً" أي فتاتاً هشيماً متكسراً متحطماً بعد يبسه، وقد تقدم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف، والمعنى: أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته وكثرة نضارته. ثم لا يلبث أن يصير هشيماً تبناً كأن لم يكن. وقرئ مصفاراً والكاف في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف. ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا وسرعة زوالها، ذكر ما أعده للعصاة في الدار الآخرة فقال: "وفي الآخرة عذاب شدي" وأتبعه بما أعده لأهل الطاعة فقال: "ومغفرة من الله ورضوان" والتنكير فيهما للتعظيم. قال قتادة: عذاب شديد لأعداء الله. ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته. قال الفراء: التقدير عذاب شديد لأعداء الله. ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته. قال الفراء: التقدير في الآية إما عذاب شديد، وإما مغفرة، فلا يوقف على شديد. ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا فقال: "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" لمن اغتر بها ولم يعمل لآخرته. قال سعيد بن جبير: متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه. وهذه الجملة مقررة للمثل المتقدم ومؤكدة له.

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

ثم نذب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح، فإن ذلك سبب إلى الجنة فقال: 21- "سابقوا إلى مغفرة من ربكم" أي سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي، وقيل المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام قاله مكحول، وقيل المراد الصف الأول. ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا، بل هو من جملة ما تصدق عليه صدقاً شمولياً أو بدلياً "وجنة عرضها كعرض السماء والأرض" أي كعرضهما، وإذا كان هذا قدر عرضها فما ظنك بطولها. قال الحسن: يعني جميع السموات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها، وقيل المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة. وقال ابن كيسان: عنى به جنة واحدة من الجنات، والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله، ومن ذلك قول الشاعر: كأن بلاد الله وهي عريضة إلى الخائف المطلوب كفة حابل وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران، ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى فقال: " أعدت للذين آمنوا بالله ورسله " ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرد الإيمان بالله ورسله، ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه واجتنب ما نهاه الله عنه، وهذ أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة، وهو مبتدأ وخبره "فضل الله يؤتيه من يشاء" أي يعطيه من يشاء 'طاءه إياه تفضلاً وإحساناً "والله ذو الفضل العظيم" فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، والخير كله بيده، وهو الكريم المطلق والجواد الذي لا يبخل.

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره وثبت في أم الكتاب فقال: 22- "ما أصاب من مصيبة في الأرض" من قحط مطر وضعف نبات ونقص ثمار. قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار، وقيل الجوائح في الزرع "ولا في أنفسكم" قال قتادة: بالأوصاب والأسقام. وقال مقاتل: إقامة الحدود. وقال ابن جريح: ضيق المعاش "إلا في كتاب" في محل نصب على الحال من مصيبة: أي إلا حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وجملة "من قبل أن نبرأها" في محل جر صفة لكتاب، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة، أو إلى الأنفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ذلك، ومعنى نبرأها نخلقها "إن ذلك على الله يسير" أي أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير.

لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ

23- " لكي لا تأسوا على ما فاتكم " أي اختبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم منالدنيا "ولا تفرحوا بما آتاكم" منها: أي أعطاكم منها، فإن ذلك يزول عن قريب، وكل زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله ولا يحزن على فواته، ومع أن الكل بقضاء الله وقدره، فلن يعدو امرأ ما كتب له، وما كان حصوله كائناً لا محالة فليس بمستحق للفرح بحصوله ولا للحزن على فوته، وقيل والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، وإلا فليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح. قرأ الجمهور "بما آتاكم" بالمد: أي أعطاكم، وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو بالقصر: أي جاءكم، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد "والله لا يحب كل مختال فخور" أي لا يحب من اتصف بهاتين الصفتين وهما الاختيال والافتخار، قيل هو ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل إن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها، وقيل المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار. والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي، فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله.

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

24- "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" الموصول في محل رفع بالابتداء، وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، والخبر مقدر: أي الذي يبخلون فالله غني عنهم، ويدل على ذلك قوله: "ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد" وقيل الموصول في محل جر بدل من مختال، وهو بعيد، فإن هذا البخال بما في اليد وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور، لا لغة ولا شرعاً. وقيل هو في محل جر نعت له، وهو أيضاً بعيد. قال سعيد بن جبير: الذين يبخلون بالعلم ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئاً. وقال زيد بن أسلم: إنه البخل بأداء حق الله، وقيل إنه البخل بالصدقة، وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه، وقيل أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مآكلهم قاله السدي والكلبي: قرأ الجمهور " بالبخل " بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي بفتحتين، وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميفع بفتح الباء وإسكان الخاء. وقرأ نصر بن عاصم بضمهما، وكلها لغات "ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد" أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه محمود عند خلقه لا يضره ذلك. قرأ الجمهور "هو الغني" بإثبات ضمير الفصل. وقرأ نافع وابن عامر " فإن الله هو الغني الحميد " بحذف الضمير. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم" يقول في الدين والدنيا "إلا في كتاب من قبل أن نبرأها" قال نخلقها: " لكي لا تأسوا على ما فاتكم " من الدنيا "ولا تفرحوا بما آتاكم" منها. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله: " لكي لا تأسوا على ما فاتكم " الآية قال: ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً، ومن أصابه خير جعله شكراً. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال: يريد مصائب المعاش، ولا يريد مصائب الدين، إنه قال: " لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " وليس هذا من مصائب الدين، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة.

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِن

قوله: 25- "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات" أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة "وأنزلنا معهم الكتاب" المراد الجنس، فيدخل فيه كتاب كل رسول "والميزان ليقوم الناس بالقسط" قال قتادة ومقاتل بن حيان: الميزان العدل، والمعنى: أمرناهم بالعدل كما في قوله: "والسماء رفعها ووضع الميزان" وقوله: "الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان" وقال ابن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل به، ومعنى "ليقوم الناس بالقسط" ليتبعوا ما أمروا به من العدل فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة، والقسط العدل، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل، ومعنى إنزاله: إنزال أسبابه وموجباته. وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها فيكون إنزاله بمعنى إرشاد الناس إليه وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب -علفتهما تبناً وماءً بارداً- "وأنزلنا الحديد" أي خلقناه كما في قوله: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" والمعنى: أنه خلقه من المعادن وعلم الناس صنعته، وقيل إنه نزل مع آدم "فيه بأس شديد" لأنه تتخذ منه آلات الحرب. قال الزجاج: يمتنع به ويحارب، والمعنى: أنه تتخذ منه آلة للدفع وآلة للضرب، قال مجاهد: فيه جنة وسلاح، ومعنى "ومنافع للناس" أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه مثل السكين والفأس والإبرة وآلات الزراعة والنجارة والعمارة "وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب" معطوف على قوله: ليقوم الناس: أي لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم، وقيل معطوف على علة مقدرة، كأنه قيل ليتعملوه وليعلم الله، والأول أولى. والمعنى: أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله فمن نصر دينه ورسله فمن نصر دينه ورسله علمه ناصراً، ومن عصي علمه بخلاف ذلك وبالغيب في محل نصب على الحال من فاعل ينصره أو من مفعوله: أي غائباً عنهم أو غائبين عنه "إن الله قوي عزيز" أي قادر على كل شيء غالب لكل شيء، وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك لنتفعوا به إذا امتثلوا ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ

26- "ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم" لما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالاً أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، وكرر القسم للتوكيد "وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب" أي جعلنا فيهم النبوة والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل جعل بعضهم أنبياء وبعضهم يتلون الكتاب "فمنهم مهتد" أي فمن الذرية من اهتدى بهدى نوح وإبراهيم، وقيل المعنى: فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى "وكثير منهم فاسقون" خارجون عن الطاعة.

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ ر

27- "ثم قفينا على آثارهم برسلنا" أي اتبعنا على آثار الذرية أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى وإلياس وداود وسليمان وغيرهم "وقفينا بعيسى ابن مريم" أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه و"آتيناه الإنجيل "وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدم ذكر استقاقه في سورة آل عمران. قرأ الجمهور "الإنجيل" بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بفتحها "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة" الذين اتبعوه هم الحواريون جعل الله في قلوبهم مودة لبعضهم البعض، ورحمة يتراحمون بها، بخلاف اليهود فإنهم ليسوا كذلك، وأصل الرأفة اللين، والرحمة الشفقة، وقيل الرأفة أشد الرحمة "ورهبانية ابتدعوها" انتصاب رهبانية على الاشتغال: أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، وليس بمعطوفة على ما قبلها، وقيل معطوفة على ما قبلها: أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم. والأول أولى، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره، وجملة "ما كتبناها عليهم" صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم، والمعنى: ما فرضناها عليهم، والرهبانية بفتح الراء وضمها، وقد قرئ بهما، وهي بالفتح الخوف من الرهب، وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع، لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا، ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما "إلا ابتغاء رضوان الله" الاستثناء منقطع: أي ما كتبناها نحن عليهم رأساً، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. وقال الزجاج: ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئاً البتة، قال: ويكون "إلا ابتغاء رضوان الله" بدلاً من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى: ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله "فما رعوها حق رعايتها" أي لم رعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم وبل صيعوها وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين الملوك الذي غيروا وبدلوا وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، وهم المرادون بقوله: "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى أمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله "وكثير منهم فاسقون" خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذم لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً. وأما على القول بأن الاستثناء متصل، وأن التقدير: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها فوجه الذم ظاهر.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: 28- "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" بترك ما نهاكم عنه "وآمنوا برسوله" محمد صلى الله عليه وسلم "يؤتكم كفلين من رحمته" أي نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، وأصل الكفل الحظ والنصيب، وقد تقدم الكلام على تفسيره في سورة النساء "ويجعل لكم نوراً تمشون به" يعني على الصراط كما قال: "نورهم يسعى بين أيديهم" وقيل المعنى: ويجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به "ويغفر لكم" ما سلف من ذنوبكم "والله غفور رحيم" أي بليغ المغفرة والرحمة.

لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

29- "لئلا يعلم أهل الكتاب" اللام متعلقة بما تقدم من الأمر بالإيمان والتقوى، والتقدير: اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب "ألا يقدرون على شيء من فضل الله" ولا في قوله: لئلا زائدة للتوكيد، قاله الفراء والأخفش وغيرهما، وأن في قوله: أن لا يقدرون هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها ما بعدها، والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئاً من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له، وجملة "وأن الفضل بيد الله" معطوفة على الجملة التي قبلها: أي ليعلموا أنهم لا يقدرون وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه، وقوله: "يؤتيه من يشاء" خبر ثان لأن، أو هو الخبر، والجار والمجرور في محل نصب على الحال "والله ذو الفضل العظيم" هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمراد بالفضل هنا ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف. وقال الكلبي: هو رزق الله، وقيل نعم الله التي لا تحصى، وقيل هو الإسلام، وقد قيل إن لا في لئلا غير مزيدة، وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والمعنى: لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه، والأول أولى. وقرأ ابن مسعود لكيلا يعلم وقرأ خطاب بن عبد الله لأن يعلم وقرأ عكرمة ليعلم وقرئ ليلا بقلب الهمزة ياء، وقرئ بفتح اللام. وقد أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق ابن مسعود قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله، قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال : هل تدري أي عرق الإسلام أوثق؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم، يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصراً بالعمل وإن كان يزحف على استه، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها: فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" هم الذين آمنوا بي وصدقوني "وكثير منهم فاسقون" الذين جحدوني وكفروا بي". وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل فقيل لملوكهم ما نجو شيئاً أشد من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرأوان "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" "فأولئك هم الفاسقون" مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرأوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منهما، فقالوا ما تريدون إلى ذلك؟ دعونا، فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا له حميح فيهم ففعلوا ذلك، فأنزل الله: " رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفنى من فني منهم قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم. لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال الله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته" أجرين بإيمانهم بعيسى ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم "ويجعل لكم نوراً تمشون به" القرآن واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري في قوله: "كفلين" قال: ضعفين وهي بلسان الحبشة. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: "يؤتكم كفلين من رحمته" قال: الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس