islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
14882

15-الحجر

الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ

وهي تسع وتسعون آية وهي مكية بالاتفاق كما قال القرطبي. وأخرج النحاس في ناسخه وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحجر بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. قوله: 1- "الر" قد تقدم الكلام في محله مستوفى، والإشارة بقوله: "تلك" إلى ما تضمنته السورة من الآيات والتعريف في الكتاب. قيل هو للجنس، والمراد جنس الكتب المتقدمة، وقيل المراد به القرآن، ولا يقدح في هذا ذكر القرآن بعد الكتاب، فقد قيل إنه جمع له بين الاسمين، وقيل المراد بالكتاب هذه السورة، وتنكير القرآن للتفخيم: أي القرآن الكامل.

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ

2- "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء من ربما. وقرأ الباقون بتشديدها، وهما لغتان، قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون، ومنه قول الشاعر: ربما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء وتميم وربيعة يثقلونها. وقد تزاد التاء الفوقية، وأصلها أن تستعمل في القليل. وقد تستعمل في الكثير. قال الكوفيون: أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين. ومنه قول الشاعر: رب رفد هرقته ذلك اليــو م وأسرى من معشر أقيال وقيل هي هنا للتقليل لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب. قيل وما هنا لحقت رب لتهيئها للدخول على الفعل، وقيل هي نكرة بمعنى شيء، وإنما دخلت رب هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل إلا على الماضي، لأن المترقب في أخباره سبحانه كالواقع المتحقق، فكأنه قيل: ربما ود الذين كفروا لو كانوا مسلمين: أي منقادين لحكمه مذعنين له من جملة أهله. وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة. والمراد أنه لما انكشف لهم الأمر واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي لمجرد التحسر والتندم ولوم النفس على ما فرطت في جنب الله، وقيل كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين، وقيل عند خروج عصاة الموحدين من النار، والظاهر أن هذه الودادة كائنة منهم في كل وقت مستمرة في كل لحظة بعد انكشاف الأمر لهم.

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

3- "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا" هذا تهديد لهم: أي دعهم عما أنت بصدده من الأمر لهم والنهي، فهم لا يرعوون أبداً ولا يخرجون من باطل ولا يدخلون في حق، بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل والتمتع بزهرة الدنيا، فإنهم كالأنعام التي لا تهتم إلا بذلك ولا تشتغل بغيره، والمعنى: اتركهم على ما هم عليه من الاشتغال بالأكل ونحوه من متاع الدنيا ومن إلهاء الأمل لهم عن اتباعك فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم. وفي هذا من التهديد والزجر ما لا يقدر قدره، يقال ألهاه كذا: أي شغله، ولهى هو عن الشيء يلهى: أي شغلهم الأمل عن اتباع الحق، وما زالوا في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذي عينين وانكشف الأمر ورأوا العذاب يوم القيامة، فعند ذلك يذوقون وبال ما صنعوا. والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر، وهذه الآية منسوخة بآية السيف.

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ

4- " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم " أي وما أهلكنا قرية من القرى بنوع من أنواع العذاب "إلا ولها" أي لتلك القرية "كتاب" أي أجل مقدر لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه "معلوم" غير مجهول ولا منسي فلا يتصور التخلف عنه بوجه من الوجوه، وجملة "لها كتاب" في محل نصب على الحال من قرية وإن كانت نكرة لأنها قد صارت بما فيها من العموم في حكم الموصوفة، والواو للفرق بين كون هذه الجملة حالاً، أو صفة فإنها تعينها للحالية كقولك حالي رجل على كتفه سيف، وقيل إن الجملة صفة لقرية، والواو لتأكيد اللصوق بين الصفة والموصوف.

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ

5- "ما تسبق من أمة أجلها" أي ما تسبق أمة من الأمم أجلها المضروب لها المكتوب في اللوح المحفوظ، والمعنى: أنه لا يأتي هلاكها قبل مجيء أجلها "وما يستأخرون" أي وما يتأخرون عنه، فيكون مجيء هلاكهم بعد مضي الأجل المضروب له وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل، ولذلك حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما قبلها، فكأنه قيل إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العقلاء، فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر. وقد تقدم تفسير الأجل في أول سورة الأنعام.

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ

ثم لما فرغ من تهديد الكفار شرع في بيان بعض عتوهم في الكفر، وتماديهم في الغي مع تضمنه لبيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب، فقال: 6- "وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر" أي قال: كفار مكة مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتهكمين به حيث أثبتوا له إنزال الذكر عليه مع إنكارهم لذلك في الواقع أشد إنكار ونفيهم له أبلغ نفي، أو أرادوا: بيا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه، وعلى وفق ما يدعيه "إنك لمجنون" أي إنك بسبب هذه الدعوة التي تدعيها من كونك رسولاً لله مأموراً بتبليغ أحكامه لمجنون، فإنه لا يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة عندهم من كان عاقلاً، فقولهم هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم هو كقول فرعون: "إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون".

لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

7- "لو ما تأتينا بالملائكة" لو ما حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمني ومن ما المزيدة، فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخلة هي عليه، والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك "إن كنت من الصادقين". قال الفراء: الميم في "لو ما" بدل من اللام في لولا. وقال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام. قال النحاس: لوما ولولا وهلا واحد، وقيل المعنى: لو ما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك.

مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ

8- "ما ننزل الملائكة إلا بالحق" قرئ "ما ننزل" بالنون مبنياً للفاعل، وهو الله سبحانه فهو على هذا من التنزيل، والمعنى على هذه القراءة: قال الله سبحانه مجيباً على الكفار لما طلبوا إتيان الملائكة إليهم ما ننزل نحن "الملائكة إلا بالحق" أي تنزيلاً متلبساً بالحق الذي يحق عنده تنزيلنا لهم فيما تقتضيه الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية وليس هذا الذي اقترحتموه مما يحق عنده تنزيل الملائكة، وقرئ تنزل مخففاً من الإنزال: أي ما ننزل نحن الملائكة إلا بالحق، وقرئ ما تنزل بالمثناة من فرق مضارعاً مثقلاً مبنياً للفاعل من التنزيل بحذف إحدى التاءين: أي تتنزل، وقرئ أيضاً بالفوقية مضارعاً مبنياً للمفعول، وقيل معنى إلا بالحق: إلا بالقرآن، وقيل بالرسالة، وقيل بالعذاب "وما كانوا إذاً منظرين" في الكلام حذف، والتقدير: ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة وما كانوا إذاً منظرين، فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة.

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

ثم أنكر على الكفار استهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: "يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون"، فقال سبحانه: "إنا نحن نزلنا الذكر" أي نحن نزلنا ذلك الذكر الذي أنكروه ونسبوك بسببه إلى الجنون "وإنا له لحافظون" عن كل ما لا يليق به من تصحيف وتحريف وزيادة ونقص ونحو ذلك. وفيه وعيد شديد للمكذبين به المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الضمير في له لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أولى بالمقام.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ

ثم ذكر سبحانه أن عادة أمثال هؤلاء الكفار مع أنبيائهم كذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: 10- "ولقد أرسلنا من قبلك" أي رسلاً وحذف لدلالة الإرسال عليه: أي رسلاً كائنة من قبلك "في شيع الأولين" في أممهم وأتباعهم وسائر فرقهم وطوائفهم. قال الفراء: الشيع الأمة التابعة بعضهم بعضاً فيما يجتمعون عليه، وأصله من شاعه إذا تبعه، وإضافته إلى الأولين من إضافة الصفة إلى الموصوف عند بعض النحاة، أو من حذف الموصوف عند آخرين منهم.

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

11- "وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" أي ما يأتي رسول من الرسل شيعته إلا كانوا به يستهزءون كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد صلى الله عليه وسلم، وجملة إلا كانوا به يستهزءون في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها صفة رسول، أو في محل جر على أنها صفة له على اللفظ لا على المحل.

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ

12- "كذلك نسلكه في قلوب المجرمين" أي مثل ذلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم "نسلكه" أي الذكر "في قلوب المجرمين"، فالإشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء، والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط، قاله الزجاج قال: والمعنى كما فعل بالمجرمين الذين استهزأوا نسلك الضلال في قلوب المجرمين.

لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ

وجملة 13- "لا يؤمنون به" في محل نصب على الحال من ضمير نسلكه: أي لا يؤمنون بالذكر الذي أنزلناه، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما قبلها فلا محل لها، وقيل إن الضمير في نسلكه للاستهزاء، وفي لا يؤمنون به للذكر، وهو بعيد، والأولى أن الضميرين للذكر "وقد خلت سنة الأولين" أي مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم، حيث فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء. وقال الزجاج: وقد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضلال في قلوبهم.

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ

ثم حكى الله سبحانه إصرارهم على الكفر وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء. فقال: 14- "ولو فتحنا عليهم" أي على هؤلاء المعاندين لمحمد صلى الله عليه وسلم المكذبين له المستهزئين به "باباً من السماء" أي من أبوابها المعهودة ومكناهم من الصعود إليه "فظلوا فيه" أي في ذلك الباب "يعرجون" يصعدون بآلة أو بغير آلة حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد ولا يعاند عند مشاهدتها معاند، وقيل الضمير في فظلوا للملائكة: أي فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب، والكفار يشاهدونهم وينظرون صعودهم من ذلك الباب.

لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ

15- "لقالوا" أي الكفار لفرط عنادهم وزيادة عتوهم "إنما سكرت أبصارنا" قرأ ابن كثير سكرت بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد وهو من سكر الشراب، أو من السكر، وهو سدها عن الإحساس، يقال سكر النهر: إذا سده وحبسه عن الجري، ورجح الثاني بقراءة التخفيف. وقال أبو عمرو بن العلاء: سكرت غشيت وغطيت، ومنه قول الشاعر: وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الجزور تسكر وبه قال أبو عبيد وأبو عبيدة، وروي عن أبي عمرو أيضاً أنه من سكر الشراب: أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله، وقيل معنى سكرت حبست كما تقدم، ومنه قول أوس بن حجر: فصرت على ليلة ساهره فليست بطلق ولا ساكره قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة " بل نحن قوم مسحورون " أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا، ثم ادعوا أنهم مسحورون: أي سحرهم محمد صلى الله عليه وسلم. وفي هذا بيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقي لعارض السكر، أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح، ومن بلغ في التعنت إلى هذا الحد فلا تنفع فيه موعظة، ولا يهتدي بآية. وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "تلك آيات الكتاب" قال: التوراة والإنجيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في "تلك آيات الكتاب" قال: الكتب التي كانت قبل القرآن: "وقرآن مبين" قال: مبين والله هداه ورشده وخيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" قال: ود المشركون يوم بدر حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية قال: هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار. وأخرج سعيد بن منصور وهناد بن السري في الزهد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس قال: ما يزال الله يشفع ويدخل ويشفع ويرحم حتى يقول: من كان مسلماً فليدخل الجنة، فذلك قوله: "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين". وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس وأنس أنهما تذاكرا هذه الآية "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" فقالا: هذا حيث يجمع الله من أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار، فيقول المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، فيغضب الله لهم فيخرجهم بفضله ورحمته. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند، قال السيوطي صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ناساً من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا، ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم، فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين"". وأخرج ابن أبي عاصم في السنة وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً نحوه. وأخرج إسحاق بن راهويه وابن حبان والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج هناد بن السري والطبراني في الأوسط وأبو نعيم عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً. وفي الباب أحاديث في تعيين هذا السبب في نزول هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا" الآية قال: هؤلاء الكفرة. وأخرج أيضاً عن أبي مالك في قوله: "ذرهم" قال: خل عنهم. وأخرج ابن جرير عن الزهري في قوله: "ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون" قال: نرى أنه إذا حضره أجله، فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدم، وأما ما لم يحضر أجله فإن الله يؤخر ما شاء ويقدم ما شاء. قلت: وكلام الزهري هذا لا حاصل له ولا مفاد فيه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "يا أيها الذي نزل عليه الذكر" قال: القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ما ننزل الملائكة إلا بالحق" قال: بالرسالة والعذاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وما كانوا إذاً منظرين" قال: وما كانوا لو نزلت الملائكة بمنظرين من أن يعذبوا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في مجاهد "وإنا له لحافظون" قال: عندنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "في شيع الأولين" قال: أمم الأولين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس في قوله: "كذلك نسلكه في قلوب المجرمين" قال: الشرك نسلكه في قلوب المشركين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن الحسن مثله أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة "وقد خلت سنة الأولين" قال: وقائع الله فيمن خلا من الأمم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "فظلوا فيه يعرجون" قال ابن جريج: قال ابن عباس: فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم لقالوا "إنما سكرت أبصارنا" قال: قريش تقوله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية عن ابن عباس أيضاً يقول: ولو فتحنا عليهم بابا من أبواب السماء فظلت الملائكة تعرج فيه يختلفون فيه ذاهبين وجائين لقال أهل الشرك: إنما أخذ أبصارنا وشبه علينا، وإنما سحرنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد سكرت أبصارنا: قال سدت. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه قال: ومن قرأ "سكرت" مخففة، فإنه يعني سحرت.

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ

لما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم وعجز أصنامهم، ذكر قدرته الباهرة وخلقه البديع ليستدل بذلك على وحدانيته، فقال: 16- "ولقد جعلنا في السماء بروجاً" الجعل إن كان بمعنى الخلق، ففي السماء متعلق به، وإن كان بمعنى التصيير ففي السماء خبره، والبروج في اللغة: القصور والمنازل، والمراد بها هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة، وهي الاثنا عشر المشهورة كما تدل على ذلك لتجربة، والعرب تعد المعرفة بمواقع النجوم ومنازلها من أجل العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب، وقالوا الفلك إثنا عشر برجاً، وأسماء هذه البروج: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت. كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة المشتغلين بهذا العلم، ويسمون الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. وأصل البروج الظهور، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها. وقال الحسن وقتادة: البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها، وقيل: السبعة السيارة منها قاله أبو صالح، وقيل: هي قصور وبيوت في السماء فيها حرس، والضمير في "وزيناها" راجع إلى السماء: أي وزينا السماء بالشمس والقمر والنجوم والبروج للناظرين إليها: أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين إذا كان من النظر، وهو الاستدلال.

وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ

17- "وحفظناها" أي السماء "من كل شيطان رجيم" قال أبو عبيدة: الرجيم المرجوم بالنجوم، كما في قوله: "رجوماً للشياطين" والرجم في اللغة هو الرمي بالحجارة، ثم قيل للعن والطرد والإبعاد رجم، لأن الرامي بالحجارة يوجب هذه المعاني.

إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ

18- "إلا من استرق السمع" استثناء متصل: أي إلا ممن استقرق السمع، ويجوز أن يكون منقطعاً: أي ولكن من استرق السمع "فأتبعه شهاب مبين" والمعنى: حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئاً من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنها تتبعه الشهب فتقتله أو تخبله: ومعنى فأتبعه: تبعه ولحقه أو أدركه. والشهاب: الكوكب أو النار المشتعلة الساطعة كما في قوله: "بشهاب قبس" قال ذو الرمة: كأنه كوكب في إثر عفريت وسمي الكوكب شهاباً لبريقه شبه النار، والمبين: الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم. قال القرطبي: واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل، وقال الحسن وطائفة: يقتل. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن، قال ذكره الماوردي، ثم قال: والقول الأول أصح. قال: واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث، فقال الأكثرون نعم، وقيل لا وإنما ذلك بعد المبعث. قال الزجاج: والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم. قال كثير من أهل العلم: نحن نرى انقضاض الكواكب، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى، ثم يصير ناراً إذا أدرك الشيطان، ويجوز أن يقال يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يسري.

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ

19- "والأرض مددناها" أي بسطناها وفرشناها كما في قوله: "والأرض بعد ذلك دحاها" وفي قوله: "والأرض فرشناها فنعم الماهدون" وفيه رد على من زعم أنها كالكرة "وألقينا فيها رواسي" أي جبال ثابتة لئلا تحرك بأهلها، وقد تقدم بيان ذلك في سورة الرعد "وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" أي أنبتنا في الأرض من كل شيء مقدر معلوم، فعبر عن ذلك بالوزن لأنه مقدار تعرف به الأشياء ومنه قول الشاعر: قد كنت قبل لقائكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه وقيل معنى موزون مقسوم، وقيل معدود، والمقصود من الإثبات الإنشاء والإيجاد، وقيل الضمير راجع إلى الجبال: أي أنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك، وقيل موزون بميزان الحكمة، ومقدر بقدر الحاجة، وقيل الموزون هو المحكوم بحسنه كما يقال كلام موزون. أي حسن.

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ

20- "وجعلنا لكم فيها معايش" تعيشون بها من المطاعم والمشارب جمع معيشة، وقيل هي الملابس، وقيل هي التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة. قال الماوردي: وهو الظاهر. قلت: بل القول الأول أظهر، ومنه قول جرير: تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالمرقق والضباب "ومن لستم له برازقين" معطوف على معايش: أي وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين: وهم المماليك والخدم والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله، وإن ظن بعض العباد أنه الرازق لهم باعتبار استقلاله بالكسب، ويجوز أن يكون معطوفاً على محل لكم: أي جعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش، وهم من تقدم ذكره، ويدخل في ذلك الدواب على اختلاف أجناسها، ولا يجوز العطف على الضمير المجرور في لكم لأنه لا يجوز عند الأكثر إلا بإعادة الجار، وقيل أراد الوحش.

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ

21- "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه" إن هي النافية ومن مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من، ومع لفظ شيء المتناول لكل الموجودات الصادق على كل فرد منها، فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء: والخزائن جمع خزانة. وهي المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور، والمعنى: أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجوب بمقدار كيف شاء. وقال جمهور المفسرين: إن المراد بما في هذه الآية هو المطر، لأنه سبب الأرزاق والمعايش، وقيل الخزائن المفاتيح: أي ما من شيء إلا عندنا في السماء مفاتيحه، والأولى ما ذكرناه من العموم لكل موجود، بل قد يصدق الشيء على المعدوم على الخلاف المعروف في ذلك "وما ننزله إلا بقدر معلوم" أي ما ننزله من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد إلا بقدر معلوم، والقدر المقدار، والمعنى: أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئاً من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبساً ذلك الإيجاد بمقدار معين حسبما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال سبحانه: "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء" وقد فسر الإنزال بالإعطاء وفسر بالإنشاء، وفسر بالإيجاد، والمعنى متقارب، وجملة وما ننزله معطوفة على مقدر: أي وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ننزله وما ننزله، أو في محل نصب على الحال.

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ

22- "وأرسلنا الرياح لواقح" معطوف على "وجعلنا لكم فيها معايش" وما بينهما اعتراض. قرأ حمزة "الريح" بالتوحيد. وقرأ من عداه "الرياح" بالجمع، وعلى قراءة حمزة فتكون اللام في الريح للجنس. قال الأزهري وجعل الرياح لواقح لأنها تحمل السحاب: أي تقله وتصرفه، ثم تمر به فتنزله. قال الله سبحانه: "حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً": أي حملت. وناقة لاقح: إذا حملت الجنين في بطنها، وبه قال الفراء وابن قتيبة، وقيل لواقح بمعنى ملقحة. قال ابن الأنباري: تقول العرب: أبقل النبت فهو باقل: أي مبقل، والمعنى: أنها تلقح الشجر: أي بقوتها، وقيل معنى لواقح: ذوات لقح. قال الزجاج: معناه وذات لقحة، لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة، يقال رامح: أي ذو رمح، ولابن: أي ذو لبن، وتامر: أي ذو تمر. قال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح، ذهب إلى أنها جمع ملقحة. وفي هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل، ولقاح الشجر بلقاح الحمل "وأنزلنا من السماء ماء" أي من الحساب وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وقيل من جهة السماء، والمراد بالماء هنا ماء المطر "فأسقيناكموه" أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. قال أبو علي: يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروى، وأسقيته نهراً: أي جعلته شرباً له، وعلى هذا فأسقيناكموه أبلغ من سقيناكموه، وقيل سقى وأسقى بمعنى واحد "وما أنتم له بخازنين" أي ليست خزائنه عندكم، بل خزائنه عندنا، ونحن الخازنون له، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه" وقيل المعنى: إن ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم: أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه.

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ

23- "وإنا لنحن نحيي ونميت" أي نوجد الحياة في المخلوقات ونسلبها عنها متى شئنا، والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته عز وجل، وأنه القادر على البعث والنشور والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه وتقتضيه مشيئته، ولهذا قال: "ونحن الوارثون" أي للأرض ومن عليها، لأنه سبحانه الباقي بعد فناء خلقه، الحي الذي لا يموت، الدائم الذي لا ينقطع وجوده، "ولله ميراث السموات والأرض".

وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ

24- "ولقد علمنا المستقدمين منكم" هذه اللام هي الموطئة للقسم، وهكذا اللام في "ولقد علمنا المستأخرين"، والمراد من تقدم ولادة وموتاً، ومن تأخر فيهما، وقيل من تقدم طاعة ومن تأخر فيها، وقيل من تقدم في صف القتال ومن تأخر، وقيل المراد بالمستقدمين الأموات، وبالمستأخرين الأحياء، وقيل المستقدمين هم الأمم المتقدمون على أمة محمد، والمستأخرون هم أمة محمد، وقيل المستقدمون من قتل في الجهاد، والمستأخرون من لم يقتل.

وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

25- "وإن ربك هو يحشرهم" أي هو المتولي لذلك القادر عليه دون غيره كما يفيده ضمير الفصل من الحصر. وفيه أنه سبحانه يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لأنه الأمر المقصود من الحشر "إنه حكيم" يجري الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة "عليم" أحاط علمه بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء منها، ومن كان كذلك فله القدرة البالغة على كل شيء مما وسعه وعلمه، وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله:"ولقد جعلنا في السماء بروجاً" قال: كواكب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: الكواكب العظام. وأخرج أيضاً عن عطية قال: قصوراً في السماء فيها الحرس. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة الرجيم: الملعون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا من استرق السمع" أراد أن يخطف السمع كقوله: "إلا من خطف الخطفة". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: كان ابن عباس يقول إن الشهب لا تقتل، ولكن تحرق وتخبل وتجرح من غير أن تقتل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: "وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" قال: معلوم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "من كل شيء موزون" قال: بقدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال الأشياء التي توزن. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: ما أنبتت الجبال مثل الكحل وشبهه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ومن لستم له برازقين" قال: الدواب والأنعام. وأخرج هؤلاء عن منصور قال: الوحش. وأخرج البزار وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خزائن الله الكلام، فإذا أراد شيئاً قال له كن فكان". وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في قوله: "إلا عندنا خزائنه" قال: المطر خاصة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما نقص المطر منذ أنزله الله، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى ثم قرأ وما ننزله إلا بقدر معلوم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، ثم قرأ: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم". وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله: "وأرسلنا الرياح لواقح" قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً. ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفاً ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاماً، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فتمطر. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ريح الجنوب من الجنة، وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه". وأخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: "كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن النساء، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله: "ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين"" وهذا الحديث هو من رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس. وقد رواه عبد الرزاق وابن المنذر من قول أبي الجوزاء قال الترمذي: وهذا أشبه أن يكون أصح. وقال ابن كثير: في هذا الحديث نكارة شديدة. وأخرج الحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: المستقدمين الصفوف المتقدمة، والمستأخرين: الصفوف المؤخرة. وقد وردت أحاديث كثيرة في أن خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء ومقاتل بن حبان أن الآية في صفوف القتال. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: المستقدمين في طاعة الله، والمستأخرين في معصية الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: يعني بالمستقدمين من مات، وبالمستأخرين من هو حي لم يمت. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال: المستقدمين آدم ومن مضى من ذريته، والمستأخرين في أصلاب الرجال. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة نحوه.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ

المراد بالإنسان في قوله: 26- "ولقد خلقنا الإنسان" هو آدم لأنه أصل هذا النوع، والصلصال قال أبو عبيدة: هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرك، فإذا طبخ في النار فهو الفخار. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال الكسائي: هو الطين المنتن، مأخوذ من قول العرب صل اللحم وأصل، إذا أنتن، مطبوخاً كان أو نيئاً. قال الحطيئة: ذاك فتى يبذل ذا قدرة لا يفسد اللحم لديه الصلول والحمأ: الطين الأسود المتغير. أو الطين الأسود من غير تقييد بالمتغير. قال ابن السكيت: تقول منه حمأت البئر حمأ بالتسكين: إذا نزعت حمأتها، وحمئت البئر حمأ بالتحريك: كثرت حمأتها، وأحميتها إحماء: ألقيت فيها الحمأة. قال أبو عبيدة: الحمأة بسكون الميم مثل الحمأة يعني بالتحريك، والجمع حمء مثل تمرة وتمر، والحمأ المصدر مثل الهلع والجزع، ثم سمي به. والمسنون قال الفراء: هو المتغير، وأصله من سننت الحجر على الحجر: إذا حككته، وما يخرج بين الحجرين يقال له السنانة والسنين، ومنه قول عبد الرحمن بن حسان: ثم حاصرتها إلى القبة الحمرا تمشي في مرمر وسنون أي محكوك، ويقال: أسن الماء إذا تغير، ومنه قوله: "لم يتسنه" وقوله: "ماء غير آسن" وكلا الاشتقاقين يدل على التغير، لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلا منتناً. وقال أبو عبيدة: المسنون المصوب، وهو من قول العرب سنننت الماء على الوجه: إذا صببته، والسن الصب. وقال سيبويه: المسنون المصور، مأخوذ من سنة الوجه، وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب وقال الأخفش: المسنون المنصوب القائم، من قولهم وجه مسنون: إذا كان فيه طول. والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بل صار طيناً، فلما أنتن صار حمأ مسنوناً، فلما يئس صار صلصالاً. فأصل الصلصال: هو الحمأ المسنون، ولهذا وصف بهما.

وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ

27- " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " الجان أبو الجن عند جمهور المفسرين. وقال عطاء والحسن وقتادة ومقاتل: هو إبليس. وسمي جاناً لتواريه عن الأعين. يقال: جن الشيء إذا ستره. فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم، ومعنى من قبل: من قبل خلق آدم، والسموم: الريح الحادة النافذة في المسام، تكون بالنهار وقد تكون بالليل، كذا قال أبو عبيدة، وذكر خلق الإنسان والجان في هذا الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية، وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ

28- "وإذ قال ربك للملائكة" الظرف منصوب بفعل مقدر: أي اذكر، بين سبحانه بعد ذكره لخلق الإنسان ما وقع عند خلقه له وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة، والبشر مأخوذ من البشرة، وهي ظاهر الجلد، وقد تقدم تفسير الصلصال والحمأ المسنون قريباً مستوفى.

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ

29- "فإذا سويته" أي سويت خلقه وعدلت صورته الإنسانية وكملت أجزاءه "ونفخت فيه من روحي" النفخ: إجراء الريح في تجاويف جسم آخر، فمن قال إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر، ومن قال: إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز. فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لتعلق النفس الناطقة به. قال النيسابوري: ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم، مثل ناقة الله، وبيت الله. قال القرطبي: والروح: جسم لطيف أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، قال: ومثله "وروح منه". وقد تقدم في النساء، "فقعوا له ساجدين" الفاء تدل على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير تراخ، وهو أمر بالوقوع من وقع يقع. وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود لا مجرد الانحناء كما قيل، وهذا السجود هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء، وقيل كان السجود لله تعالى وكان آدم قبلة لهم.

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ

30- "فسجد الملائكة كلهم أجمعون" أخبر سبحانه بأن الملائكة سجدوا جميعاً عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير تراخ، قال المبرد: قوله كلهم أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد، وقوله أجمعون توكيد بعد توكيد، ورجح هذا الزجاج. قال النيسابوري: وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالاً ولو صح أن يكون حالاً لكان منتصباً.

إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ

ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال: 31- "إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين" قيل هذا الاستثناء متصل لكونه كان من جنس الملائكة ولكنه أبى ذلك استكباراً واستعظاماً لنفسه وحسداً لآدم فحقت عليه كلمة الله، وقيل إنه لم يكن من الملائكة ولكنه كان معهم فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به، فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلاً، وقيل إن الاستثناء منفصل بناء على عدم كونه منهم، وعدم تغليبهم عليه: أي ولكن إبليس أبى أن يكون مع الساجدين وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة، وجملة "أبى أن يكون مع الساجدين" استئناف مبين لكيفية ما فيه من الاستثناء من عدم السجود، لأن عدم السجود قد يكون مع التردد فبين سبحانه أنه كان على وجه الإباء.

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ

وجلمة 32- " قال يا إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين " مستأنفة أيضاً جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله سبحانه لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم، بل للتقريع والتوبيخ، والمعنى: أي غرض لك في الامتناع، وأي سبب حملك عليه على أن لا تكون مع الساجدين لآدم مع الملائكة وهم في الشرف وعلو المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها.

قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ

وجملة 33- " قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون " مستأنفة كالتي قبلها، جعل العلة لترك سجوده كون آدم بشراً مخلوقاً من صلصال من حمأ مسنون زعماً منه أنه مخلوق من عنصر أشرف من عنصر آدم، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيراً منه. وقد صرح بذلك في موضع آخر. فقال: "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" وقال في موضع آخر "أأسجد لمن خلقت طيناً" واللام في لأسجد لتأكيد النفي: أي لا يصح ذلك مني.

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ

فأجاب الله سبحانه عليه بقوله: 34- "قال فاخرج منها فإنك رجيم" والضمير في منها، قيل عائد إلى الجنة. وقيل إلى السماء، وقيل إلى زمرة الملائكة: أي فاخرج من زمرة الملائكة فإنك رجيم أي مرجوم بالشهب. وقيل معنى رجيم ملعون: أي مطرود لأن من يطرد يرجم بالحجارة.

وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ

" وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " أي عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمراً عليك لازماً لك إلى يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، وجعل يوم الدين غاية للعنة لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت، لأن المراد دوامها من غير انقطاع، وذكر يوم الدين للمبالغة كما في قوله تعالى: "ما دامت السموات والأرض" أو أن المراد أنه في يوم الدين وما بعده يعذب بما هو أشد من اللعن من أنواع العذاب، فكأنه لا يجد له ما كان يجده قبل أن يمسه العذاب.

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

36- " قال رب فأنظرني " أي أخرني وأمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون: أي آدم وذريته. طلب أن يبقى حياً إلى هذا اليوم لما سمع ذلك علم أن الله قد أخر عذابه إلى الدار الآخرة وكأنه طلب أن لا يموت أبداً، لأنه إذا أخر موته إلى ذلك اليوم فهو يوم لا موت فيه، وقيل إنه لم يطلب أن لا يموت، بل طلب أن يؤخر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذب في الدنيا.

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ

37- "قال فإنك من المنظرين" لما سأل الإنظار أجابه الله سبحانه إلى ما طلبه وأخبره بأنه من جملة ما أنظره ممن أخر آجالهم من مخلوقاته، أو من جملة من أخر عقوبتهم بما اقترفوا.

إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ

ثم بين سبحانه الغاية التي أمهله إليها. فقال: 38- "إلى يوم الوقت المعلوم" وهو يوم القيامة فإن يوم الدين ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم كلها عبارات عن يوم القيامة، وقيل المراد بالوقت المعلوم هو الوقت القريب من البعث، فعند ذلك يموت.

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ

39- "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض" الباء للقسم، وما مصدرية، وجواب القسم لأزينن لهم: أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض: أي ما داموا في الدنيا، والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها، أو يشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها. وإقسامه ها هنا بإغواء الله له لا ينافي إقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره، لأن الإغراء له هو من جملة ما تصدق عليه العزة "ولأغوينهم أجمعين" أي لأضلنهم عن طريق الهدى وأوقعهم في طريق الغواية وأحملهم عليها.

إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ

40- "إلا عبادك منهم المخلصين" قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام: أي الذين استخلصتهم من العباد. وقرأ الباقون بكسر اللام: أي الذين أخلصوا لك العبادة فلم يقصدوا بها غيرك.

قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ

41- " قال هذا صراط علي مستقيم " أي حق علي أن أراعيه، وهو أن لا يكون لك على عبادي سلطان. قال الكسائي: هذا على الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده طريقك علي ومصيرك إلي، وكقوله: "إن ربك لبالمرصاد" فكأن معنى هذا الكلام هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلاً بعمله وقيل على هنا بمعنى إلى، وقيل المعنى على أن الصراط المستقيم بالبيان والحجة، وقيل بالتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيرين وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب "هذا صراط علي" على أنه صفة مشبهة، ومعناه رفيع.

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ

42- "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" المراد بالعباد هنا هم المخلصون، والمراد أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه "إلا من اتبعك من الغاوين" استثنى سبحانه من عباده هؤلاء، وهم المتبعون لإبليس من الغاوين عن طريق الحق الواقعين في الضلال، وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين، ويمكن أن يقال: إن بين الكلامين فرقاً، فكلام الله سبحانه فيه نفي سلطان إبليس على جميع عباده إلا من اتبعه من الغاوين، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس من الغاوين، وكلام إبليس اللعين يتضمن إغواء الجميع إلا المخلصين، فدخل فيهم من لم يكن مخلصاً ولا تابعاً لإبليس غاوياً. والحاصل أن بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس، وقد قيل إن الغاوين المتبعين لإبليس هم المشركون، ويدل على ذلك قوله تعالى: "إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون".

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ

ثم قال الله سبحانه متوعداً لأتباع إبليس 43- "وإن جهنم لموعدهم أجمعين". أي موعد المتبعين الغاوين، وأجمعين تأكيد للضمير أو حال.

لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ

44- "لها سبعة أبواب" يدخل أهل النار منها وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها "لكل باب منهم" أي من الأتباع الغواة "جزء مقسوم" أي قدر معلوم متميز عن غيره، وقيل المراد بالأبواب الأطباق طبق فوق طبق، وهي: جهنم، ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير، ثم سقر ثم الجحيم، ثم الهاوية، فأعلاها للموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطباق، ثم ما بعدها تحتها، ثم كذلك، كذا قيل. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: خلق الإنسان من ثلاث من طين لازب وصلصال وحمأ مسنون، فالطين اللازب: اللازم الجيد، والصلصال: المدقق الذي يصنع منه الفخار، والحمأ المسنون: الطين الذي فيه الحمأة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال: الصلصال الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الصلصال هو التراب اليابس الذي يبل بعد يبسه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: قال الصلصال طين خلط برمل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً. قال: الصلصال الذي إذا ضربته صلصل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً. قال: الصلصال الطين تعصر بيدك فيخرج الماء من بين أصابعك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: " من حمإ مسنون " قال: من طين رطب: وأخرج هؤلاء عنه أيضاً "من حمإ مسنون" قال: من طين منتن. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الجان مسيخ الجن كالقردة والخنازير مسيخ الإنس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: الجان. هو إبليس خلق من قبل آدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والجان خلقناه من قبل من نار السموم" قال: من أحسن النار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: نار السموم الحارة التي تقتل. وأخرج الطيالسي والفريابي وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: السموم. التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ثم قرأ "والجان خلقناه من قبل من نار السموم"، وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون " قال: أراد إبليس أن لا يذوق الموت فقيل إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، قال: النفخة الأولى يموت فيها إبليس، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين " هذا صراط علي مستقيم " أي رفيع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لها سبعة أبواب" بعدد أطباق جهنم، كما قدمنا. وأخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وهناد وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث من طرق عن علي قال: أطباق جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيملأ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث حتى: تملأ كلها، وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بجهنم سبعة أبواب: باب منها لمن سل السيف على أمتي". وقد ورد في صفة النار أحاديث وآثار. وأخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في قوله تعالى: "لكل باب منهم جزء مقسوم" قال: جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله".

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ

قوله: 45- "إن المتقين في جنات وعيون" أي المتقين للشرك بالله كما قاله جمهور الصحابة والتابعين، وقيل هم الذين اتقوا جميع المعاصي في جنات وهي البساتين، وعيون وهي الأنهار. قرئ بضم العين من عيون على الأصل، وبالكسر مراعاة للياء، والتركيب يحتمل أن يكون لجميع المتقين جنات وعيون، أو لكل واحد منهم جنات وعيون، أو لكل واحد منهم جنة وعين.

ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ

46- "ادخلوها" قرأ الجمهور بلفظ الأمر على تقدير القول: أي قيل لهم أدخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية وروي عن يعقوب بضم الهمزة مقطوعة، وفتح الخاء على أنه فعل مبني للمفعول أي أدخلهم الله إياها. وقد قيل إنهم إذا كانوا في جنات وعيون، فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة الجمهور؟ فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها. وأجيب بأن المعنى أنهم لما صاروا في الجنات، فإذا انتقلوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الانتقال إليها ادخلوها، ومعنى "بسلام آمنين" بسلامة من الآفات، وأمن من المخافات، أو مسلمين على بعضهم بعضاً، أو مسلماً عليهم من الملائكة، أو من الله عز وجل.

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ

47- "ونزعنا ما في صدورهم من غل" الغل: الحقد والعداوة، وقد مر تفسيره في الأعراف، وانتصاب "إخواناً" على الحال: أي إخوة في الدين والتعاطف "على سرر متقابلين" أي حال كونهم على سرر، وعلى صورة مخصوصة وهي التقابل، ينظر بعضهم إلى وجه بعض، والسرر جمع سرير -وقيل هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور، ومنه قولهم: سر الوادي لأفضل موضع منه.

لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ

48- "لا يمسهم فيها نصب" أي تعب وإعياء لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة، لأنها نعيم خالص، ولذة محضة تحصل لهم بسهولة، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفواً عفواً "وما هم منها بمخرجين" أبداً، وفي هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم، فإن علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعيمه وتكدر لذته.

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

ثم قال سبحانه بعد أن قص علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل 49- "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم" أي أخبرهم يا محمد أني أنا الكثير المغفرة لذنوبهم، الكثير الرحمة لهم، كما حكمت به على نفسي إن رحمتي سبقت غضبي اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة، وأدخلتهم تحت واسع الرحمة.

وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ

ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة، أمره بأن يذكر لهم شيئاً مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف، ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال: 50- "وأن عذابي هو العذاب الأليم" أي الكثير الإيلام، وعند أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير صاروا في حالة وسطاً بين اليأس والرجاء، وخير الأمور أوساطها، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف، وبين حالتي الأنس والهيبة.

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ

وجملة 51- "ونبئهم عن ضيف إبراهيم" معطوفة على جملة نبئ عبادي: أي أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف، والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنة الله سبحانه في عباده. وأيضاً لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين كان في ذلك تقريراً لكونه الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم، وقد مر تفسير هذه القصة في سورة هود.

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ

وانتصاب 52- "إذ دخلوا عليه" بفعل مضمر معطوف على "نبئ عبادي" أي واذكر لهم دخولهم عليه، أو في محل نصب على الحال، والضيف في الأصل مصدر، ولذلك وحد وإن كانوا جماعة، وسمي ضيفاً لإضافته إلى المضيف "فقالوا سلاماً" أي سلمنا سلاماً "قال إنا منكم وجلون" أي فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرب إليهم العجل فرآهم لا يأكلون منه كما تقدم في سورة هود "فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة" وقيل أنكر السلام منهم لأنه لم يكن في بلادهم، وقيل أنكر دخولهم عليه بغير استئذان.

قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ

53- "قالوا لا توجل" أي قالت الملائكة لا تخف، وقرئ لا تاجل ولا توجل من أوجله: أي أخافه، وجملة "إنا نبشرك بغلام عليم" مستأنفة لتعليل النهي عن الوجل، والعليم: كثير العلم، وقيل هو الحليم كما وقع في موضع آخر من القرآن، وهذا الغلام: هو إسحاق كما تقدم في هود، ولم يسمه هنا ولا ذكر التبشير بيعقوب اكتفاء بما سلف.

قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ

54- "قال أبشرتموني" قرأ الجمهور بألف الاستفهام. وقرأ الأعمش "بشرتموني" بغير الألف "على أن مسني الكبر" في محل نصب على الحال: أي مع حالة الكبر والهرم " فبم تبشرون " استفهام تعجب، كأنه عجب من حصول الولد له مع ما قد صار إليه من الهرم الذي جرت العادة بأنه لا يولد لمن بلغ إليه، والمعنى: فبأي شيء تبشرون، فإن البشارة بما لا يكون عادة لا تصح. وقرأ نافع تبشرون بكسر النون والتخفيف وإبقاء الكسرة لتدل على الياء المحذوفة. وقرأ ابن كثير وابن محيصن بكسر النون مشددة على إدغام النون في النون، وأصله تبشرونني. وقرأ الباقون تبشرون بفتح النون.

قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ

55- "قالوا بشرناك بالحق" أي باليقين الذي لا خلف فيه، فإن ذلك وعد الله وهو لا يخلف الميعاد ولا يستحيل عليه شيء، فإنه القادر على كل شيء "فلا تكن من القانطين" هكذا قرأ الجمهور بإثبات الألف. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب من القنطين بغير ألف، وروي ذلك عن أبي عمرو: أي من الآيسين من ذلك الذي بشرناك به.

قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ

56- "قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون" قرئ بفتح النون من يقنط وبكسرها وهما لغتان. وحكي فيه ضم النون: والضالون المكذبون، أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب: أي إنما استبعدت الولد لكبر سني لا لقنوطي من رحمة ربي.

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ

ثم سألهم عما لأجله أرسلهم الله سبحانه 57- "قال فما خطبكم أيها المرسلون" الخطب: الأمر الخطير والشأن العظيم: أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به، وكأنه قد فهم أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا.

قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ

58- "قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" أي إلى قوم لهم إجرام، فيدخل تحت ذلك الشرك وما هو دونه، وهؤلاء القوم: هم قوم لوط.

إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ

ثم استثنى منهم من ليسوا مجرمين فقال: 59- "إلا آل لوط" وهو استثناء متصل، لأنه من الضمير في مجرمين، ولو كان من قوم لكان منقطعاً لكونهم قد وصفوا بكونهم مجرمين، وليس آل لوط مجرمين، ثم ذكر ما سيختص به آل لوط من الكرامة لعدم دخولهم مع القوم في إجرامهم فقال: "إنا لمنجوهم أجمعين" أي آل لوط، وهم أتباعه وأهل دينه، وهذه الجملة مستأنفة على تقدير كون الاستثناء منقطعاً فهي خبر: أي لكن آل لوط ناجون من عذابنا. وقرأ حمزة والكسائي "لمنجوهم" بالتخفيف من أنجا. وقرأ الباقون بالتشديد نجى. واختار هذه القراءة الأخيرة أبو عبيدة وأبو حاتم، والتنجية والإنجاء التخليص مما وقع فيه غيرهم.

إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ

60- "إلا امرأته" هذا الاستثناء من الضمير في منجوهم إخراجاً لها من التنجية: أي إلا امرأته فليست ممن ننجيه بل ممن نهلكه، وقيل إن الاستثناء من آل لوط باعتبار ما حكم لهم به من التنجية، والمعنى: قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم إلا آل لوط إنا لمنجوهم إلا امرأته فإنها من الهالكين، ومعنى " قدرنا إنها لمن الغابرين " قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب مع الكفرة، والغابر الباقي، قال الشاعر: لا تكسح الشول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج والإغبار: بقايا اللبن. قال الزجاج: معنى قدرنا دبرنا وهو قريب من معنى قضينا وأصل التقدير: جعل الشيء على مقدار الكفاية. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر والمفضل "قدرنا" بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد. قال الهروي: هما بمعنى، وإنما أسند التقدير إلى الملائكة مع كونه من فعل الله سبحانه لما لهم من القرب عند الله.

فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ

61- "فلما جاء آل لوط المرسلون" هذه الجملة مستأنفة لبيان وإهلاك من يستحق الهلاك وتنجية من يستحق النجاة.

قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ

62- "قال إنكم قوم منكرون" أي قال لوط مخاطباً لهم إنكم قوم منكرون: أي لا أعرفكم بل أنكركم.

قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ

63- "قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون" أي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه، فالإضراب هو عن مجيئهم بما ينكره، كأنهم قالوا: ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه، بل جئناك بما فيه سرورك، وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك.

وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

64- "وأتيناك بالحق" أي باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردد، وهو العذاب النازل بهم لا محالة "وإنا لصادقون" في ذلك الخبر الذي أخبرناك.

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ

وقد تقدم تفسير قوله: 65- " فأسر بأهلك بقطع من الليل " في سورة هود "واتبع أدبارهم" أي كن من ورائهم تذودهم لئلا يختلف منهم أحد فيناله العذاب "ولا يلتفت منكم أحد" أي لا تلتفت أنت ولا يلتفت أحد منهم فيرى ما نزل بهم من العذاب، فيشتغل بالنظر في ذلك ويتباطأ عن سرعة السير والبعد عن ديار الظالمين، وقيل معنى لا يلتفت: لا يتخلف "وامضوا حيث تؤمرون" أي إلى الجهة التي أمركم الله سبحانه بالمضي إليها، وهي جهة الشام، وقيل مصر، وقيل قرية من قرى لوط، وقيل أرض الخليل.

وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ

66- "وقضينا إليه" أي أوحينا إلى لوط "ذلك الأمر" وهو إهلاك قومه، ثم فسره بقوله: "أن دابر هؤلاء مقطوع" قال الزجاج: موضع أن نصب، وهو بدل من ذلك الأمر: والدابر هو الآخر: أي أن آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح، وانتصاب "مصبحين" على الحال: أي حال كونهم داخلين في وقت الصبح، ومثله "فقطع دابر القوم الذين ظلموا". وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "آمنين" قال: آمنوا الموت فلا يموتون ولا يكبرون ولا يسقمون ولا يعرون ولا يجوعون. وأخرج ابن جرير عن علي "ونزعنا ما في صدورهم من غل" قال: العداوة. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن الحسن البصري قال: قال علي بن أبي طالب: فينا والله أهل الجنة نزلت "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين". وأخرج ابن عساكر وابن مردويه عنه في الآية قال: نزلت في ثلاثة أحياء من العرب: في بني هاشم، وبني تيم، وبني عدي، في وفي أبي بكر وعمر. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن كثير النواء. قال: قلت لأبي جعفر إن فلاناً حدثني عن علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي "ونزعنا ما في صدورهم من غل" قال: والله إنها لفيهم أنزلت، وفيمن تنزل إلا فيهم؟ قلت: وأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية، إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن علي من طرق أنه قال لابن طلحة: إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله فيهم "ونزعنا ما في صدورهم" الآية، فقال رجل من همدان: الله أعدل من ذلك، فصاح علي عليه صيحة تداعى لها القصر وقال: فيمن إذن إن لم نكن نحن أولئك. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن علي قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان والزبير وطلحة فيمن قال الله: "ونزعنا ما في صدورهم من غل". وأخرج ابن مردويه وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية قال: نزلت في عشرة: أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وسعد وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح موقوفاً عليه. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "على سرر متقابلين" قال: لا يرى بعضهم قفا بعض. وأخرجه ابن المنذر وابن مردويه عن مجاهد عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو القاسم البغوي وابن مردويه وابن عساكر عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: "إخواناً على سرر متقابلين" قال: المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "لا يمسهم فيها نصب" قال: المشقة والأذى. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال: ألا أراكم تضحكون، ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقرى فقال: إني لما خرجت جاء جبريل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: لم تقنط عبادي"؟ " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم ". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال: اذكروا الجنة واذكروا النار، فنزلت "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم"". وأخرج الطبراني والبزار وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عند الله من رحمته لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار". وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة: "قالوا لا توجل" لا تخف. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي "من القانطين" قال: الآيسين. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة "إنها لمن الغابرين" يعني الباقين في عذاب الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إنكم قوم منكرون" قال: أنكرهم لوط، وفي قوله: "بما كانوا فيه يمترون" قال: بعذاب قوم لوط. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة "بما كانوا فيه يمترون" قال: يشكون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "واتبع أدبارهم" قال: أمر أن يكون خلف أهله يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي "وامضوا حيث تؤمرون" قال: أخرجهم الله إلى الشام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد "وقضينا إليه ذلك الأمر" قال: أوحيناه إليه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "أن دابر هؤلاء مقطوع" يعني استئصال هلاكهم.

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ

ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال: 67- "وجاء أهل المدينة يستبشرون" أي أهل مدينة قوم لوط، وهي سلوم كما سبق، وجملة يستبشرون في محل نصب على الحال: أي مستبشرون بأضياف لوط طمعاً في ارتكاب الفاحشة منهم.

قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ

فـ 68- "قال" لهم لوط "إن هؤلاء ضيفي" وحد الضيف لأنه مصدر كما تقدم، والمراد أضيافي، وسماهم ضيفاً لأنه رآهم على هيئة الأضياف، وقومه رأوهم مرداً حسان الوجوه، فلذلك طمعوا فيهم "فلا تفضحون" يقال: فضحه يفضحه فضيحة وفضحاً إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بإظهاره، والمعنى: لا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فيعلمون أني عاجز عن حماية من نزل بي، أو لا تفضحون بفضيحة ضيفي، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل ما يفضح المضيف.

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ

69- "واتقوا الله" في أمرهم "ولا تخزون" يجوز أن تكون من الخزي: وهو الذل والهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية وهي الحياء والخجل، وقد تقدم تفسير ذلك في هود.

قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ

70- "قالوا" أي قوم لوط مجيبين له " أولم ننهك عن العالمين " الاستفهام للإنكار، والواو للعطف على مقدر: أي ألم نتقدم إليك وننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وقيل نهوه عن ضيافة الناس، ويجوز حمل ما في الآية على ما هو أعم من هذين الأمرين.

قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ

71- "قال هؤلاء بناتي" فتزوجوهن "إن كنتم فاعلين" ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي فهؤلاء بناتي تزوجوهن حلالاً ولا تركبوا الحرام، وقيل أراد ببناته نساء قومه، لكون النبي بمنزلة الأب لقومه، وقد تقدم تفسير هذا في هود.

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ

72- "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون" العمر والعمر بالفتح والضم واحد، لكنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم، ذكر ذلك الزجاج. قال القاضي عياض: اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً له. قال ابن الجوزاء: ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي: ما الذي يمتنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتي من ضعفه من شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم على الله منه أولا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكلم، وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد أرفع. قال القرطبي: ما قاله حسن فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاماً معترضاً في قصة لوط فإن قيل قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين، ونحو ذلك فما فيهما من فضل. وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلا وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه، وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا هو من الملائكة على إرادة القول: أي قالت الملائكة للوط لعمرك، ثم قال: وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقسم بحياة أحد قط كرامة له انتهى. وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره، وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"، وقيل الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور سنين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به: أي وخالق التين وكذلك ما بعده، وفي قوله: "لعمرك" أي وخالق عمرك، ومعنى " إنهم لفي سكرتهم يعمهون ": لفي غوايتهم يتحيرون، جعل الغواية لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة والضمير لقريش على أن القسم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو لقوم لوط على أن القسم للرسول عليه السلام.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ

73- " فأخذتهم الصيحة " العظيمة أو صيحة جبريل حال كونهم "مشرقين" أي داخلين في وقت الشروق، يقال أشرقت الشمس: أي أضاءت وشرقت إذا شلعت وقيل هما لغتان بمعنى واحد وأشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، وقيل أراد شروق الفجر، وقيل أول العذاب كان عند شروق الفجر وامتد إلى طلوع الشمس. والصيحة: العذاب.

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ

74- "فجعلنا عاليها سافلها" أي عالي المدينة سافلها "وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل" من طين متحجر، وقد تقدم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ

75- "إن في ذلك" أي في المذكور من قصتهم وبيان ما أصابهم "لآيات" لعلامات يستدل بها "للمتوسمين" للمتفكرين الناظرين في الأمر ومنه قول زهير: وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم وقال الآخر: أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلي عريفهم يتوسم وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، وقال الثعلب: الواسم الناظر إليك من قرنك إلى قدمك، والمعنى متقارب، وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير.

وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ

76- "وإنها لبسبيل مقيم" يعني قرى قوم لوط أو مدينتهم على طريق ثابت وهي الطريق من المدينة إلى الشام فإن السالك في هذه الطريق يمر بتلك القرى.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ

77- " إن في ذلك " المذكور من المدينة أو القرى "لآية للمؤمنين" يعتبرون بها فإن المؤمنين من العباد هم الذين يعتبرون بما يشاهدونه من الآثار. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجاء أهل المدينة يستبشرون" قال: استبشروا بأضياف نبي الله لوط حين نزلوا به لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: " أولم ننهك عن العالمين " قال: يقولون أو لم ننهك أن تضيف أحداً أو تؤويه. "قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين" أمرهم لوط بتزويج النساء وأراد أن يبقي أضيافه ببناته. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحيات أحد غيره قال: "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون" يقول: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "لعمرك" قال: لعيشك. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد قال "لعمرك" الآية. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل لعمري يرونه كقوله وحياتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة "إنهم لفي سكرتهم يعمهون" أي في ضلالهم يلعبون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الأعمش في الآية لفي غفلتهم يترددون. وأخرج ابن جرير عن ابن جريح فأخذتهم الصيحة مثل الصاعقة، وكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة. وأخرج ابن جرير عنه "مشرقين" قال: حين أشرقت الشمس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: "إن في ذلك لآية" قال: علامة أما ترى الرجل يرسل خاتمه إلى أهله، فيقول هاتوا كذا وكذا، فإذا رأوه عرفوا أنه حق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "للمتوسمين" قال: للناظرين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة قال: للمعتبرين. وأخرج ابن جريح وابن المنذر عن مجاهد قال: للمتفرسين، وأخرج البخاري في التاريخ والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: "إن في ذلك لآيات للمتوسمين"". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "وإنها لبسبيل مقيم" يقول لبهلاك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لبطريق مقيم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لبطريق واضح.

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ

قوله: 78- "وإن كان أصحاب الأيكة" إن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف: أي وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. والأيكة الغيضة، وهي جماع الشجر، والجمع الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوماً، وهو المقل، فالمعنى: وإن كان أصحاب الشجر المجتمع، وقيل الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها. قال أبو عبيدة الأيكة: وليكة مدينتهم كمكة وبكة، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب، وقد تقدم خبرهم، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق.

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ

والضمير في 79- "وإنهما لبإمام مبين" يرجع إلى مدينة قوم لوط، ومكان أصحاب الأيكة: أي وإن المكانين لبطريق واضح، والإمام اسم لما يؤتم به، ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك. قال الفراء والزجاج: سمي الطريق إماماً لأنه يؤتم ويتبع. وقال ابن قتيبة لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده، وقيل الضمير للأيكة ومدين لأن شعيباً كان ينسب إليهما.

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ

ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال: 80- "ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين" الحجر اسم لديار ثمود. قاله الأزهري، وهي ما بين مكة وتبوك. وقال ابن جرير: هي أرض بين الحجاز والشام. وقال المرسلين ولم يرسل إليهم إلا صالح، لأن من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الباقين لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله، وقيل كذبوا صالحاً ومن تقدمه من الأنبياء، وقيل كذبوا صالحاً ومن معه من المؤمنين.

وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ

81- "وآتيناهم آياتنا" أي الآيات المنزلة على نبيهم، ومن جملتها الناقة فإن فيها آيات جمة كخروجها من الصخرة ودنو نتاجها عند خروجها وعظهما وكثرة لبنها "فكانوا عنها معرضين" أي غير معتبرين، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيهم.

وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ

82- "وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً" النحت في كلام العرب: البري والنجر، نحته ينحته بالكسر نحتاً: أي براه، وفي التنزيل "أتعبدون ما تنحتون" أي تنجرون، وكانوا يتخذون لأنفسهم من الجبال بيوتاً: أي يخرقونها في الجبال، وانتصاب "آمنين" على الحال قال الفراء: آمنين من أن يقع عليهم، وقيل آمنين من الموت، وقيل من العذاب ركوناً منهم على قوتها ووثاقتها.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ

83- "فأخذتهم الصيحة مصبحين" أي داخلين في وقت الصبح، وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف وفي هود، وتقدم أيضاً قريباً.

فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

84- "فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون" أي لم يدفع عنهم شيئاً من عذاب الله ما كانوا يكسبون من الأموال والحصون في الجبال.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ

85- "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق" أي متلبسة بالحق، وهو ما فيهما من الفوائد والمصالح، وقيل المراد بالحق مجازة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما في قوله سبحانه: " ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " وقيل المراد بالحق الزوال لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائل "وإن الساعة لآتية" وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، وفيه وعيد للعصاة وتهديد، ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصفح عن قومه، فقال: "فاصفح الصفح الجميل" أي تجاوز عنهم واعف عفواً حسناً، وقيل فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً ولا تعجل عليهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. قيل وهذا منسوخ بآية السيف.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ

86- "إن ربك هو الخلاق العليم" أي الخالق للخلق جميعاً العليم بأحوالهم وبالصالح والطالح منهم. وقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: أصحاب الأيكة هم قوم شعيب، والأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأيكة الغيضة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: أصحاب الأيكة أهل مدين، والأيكة الملتفة من الشجر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الأيكة مجمع الشيء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال في قوله: "وإنهما لبإمام مبين" طريق ظاهر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في أصحاب الحجر قال: أصحاب الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كان أصحاب الحجر ثمود وقوم صالح. وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر:لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم". وأخرج ابن مردويه عنه قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم بإهراق القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، فقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم فلا تدخلوا عليهم. وأخرج ابن مردويه عن سبرة بن معبد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بالحجر لأصحابه من عمل من هذا الماء شيئاً فليلقه قال: ومنهم من عجن العجين، ومنهم من حاس الحيس". وأخرج ابن مردويه وابن النجار عن علي في قوله: "فاصفح الصفح الجميل" قال: الرضا بغير عتاب. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: هذه الآية قبل القتال. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله.

وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ

اختلف أهل العلم في السبع المثاني ماذا هي؟ فقال جمهور المفسرين: إنها الفاتحة. قال الواحدي وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والربيع والكلبي. وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا عالية، وزاد النيسابوري الضحاك وسعيد بن جبير. وقد روي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيانه فتعين المصير إليه. وقيل هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة الأنفال والتوبة، لأنها كسورة واحدة إذ ليس بينهما تسمية روي هذا القول عن ابن عباس. وقيل المراد بالمثاني السبعة الأحزاب فإنها سبع صحائف، والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية. وقال الزجاج: تثنى بما يقرأ بعدها معها. فعلى القول الأول يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني أنها تثنى: أي تكرر في كل صلاة، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية إن العبر والأحكام والحدود كررت فيها. وعلى القول بأنها السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني القرآن كله الضحاك وطاوس وأبو مالك، وهو رواية عن ابن عباس واستدلوا بقوله تعالى: "كتاباً متشابهاً مثاني" وقيل المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن: وهي الأمر، والنهي، والتبشير، والإنذار، وضرب الأمثال، وتعريف النعم، وأنباء قرون ماضية. قاله زياد بن أبي مريم، ولا يخفى عليك أن تسمية الفاتحة مثاني لا تستلزم نفي تسمية غيرها بهذا الاسم، وقد تقرر أنها المرادة بهذه الآية، فلا يقدح في ذلك صدق وصف المثاني على غيرها "والقرآن العظيم" معطوف على "سبعاً من المثاني"، ويكون من عطف العام على الخاص لأن الفاتحة بعض من القرآن، وكذلك إن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال لأنها بعض من القرآن، وأما إذا أريد بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه، فيكون من باب عطف أحد الوصفين على الآخر، كما قيل في قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام ومما يقوي كون السبع المثاني هي الفاتحة أن هذه السورة مكية، وأكثر السبع الطوال مدنية، وكذلك أكثر القرآن وأكثر أقسامه، وظاهر قوله: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" أنه قد تقدم إيتاء السبع على نزول هذه الآية، و "من" في من المثاني للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إذا أردت الإشباع.

لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ

ثم لما بين لرسوله صلى الله عليه وسلم ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره عن اللذات العاجلة الزائلة فقال: 88- "لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم" أي لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمن لها، والأزواج الأصناف، قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري: الأزواج القرناء. قال الواحدي: إنما يكون ماداً عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال بعضهم: معنى الآية لا تحسدن أحداً على ما أوتي من الدنيا، ورد بأن الحسد منهي عنه مطلقاً، وإنما قال في هذه السورة لا تمدن بغير واو، لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه، ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم فقال: "ولا تحزن عليهم" حيث لم يؤمنوا وصمموا على الكفر والعناد، وقيل المعنى: لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك الآخرة. والأول أولى، ثم لما نهاه عن أن يمد عينيه إلى أموال الكفار ولا يحزن عليهم. وكان ذلك يستلزم التهاون بهم وبما معهم أمره أن يتواضع للمؤمنين، فقال: "واخفض جناحك للمؤمنين" وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب، ومنه قوله سبحانه "واخفض لهما جناح الذل" وقول الكميت: خفضت لهم مني جناحي مودة إلى كنف عطفاه أهل ومرحب وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه، ثم قبضه على الفرخ فجعل ذلك وصفاً لتواضع الإنسان لأتباعه، ويقال فلان خافض الجناح: أي وقور ساكن، والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه "واضمم يدك إلى جناحك"، ومنه قول الشاعر: وحسبك فتنة لزعيم قوم يمد على أخي سقم جناحا

وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ

89- "وقل إني أنا النذير المبين" أي المنذر المظهر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله.

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ

90- " كما أنزلنا على المقتسمين " قيل المفعول محذوف: أي مفعول أنزلنا، والتقدير: كما أنزلنا على المقتسمين عذاباً، فيكون المعنى: إني أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين الذي أنزلناه عليهم كقوله تعالى: "أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود"، وقيل إن الكاف زائدة، والتقدير: إني أنا النذير المبين أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين من العذاب، وقيل هو متعلق بقوله: "ولقد آتيناك" أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون، والأولى أن يتعلق بقوله: "إني أنا النذير المبين" لأنه في قوة الأمر بالإنذار. وقد اختلف في المقتسمين من هم؟ فقال الفراء: هم ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا أنقاب مكة وفجاجها يقولون لمن دخلها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر وربما قالوا شاعر وربما قالوا كاهن، فقيل لهم مقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، وقيل إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله، فجعلوا بعضه شعراً، وبعضه سحراً، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين. قاله قتادة، وقيل هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا يقتسمون القرآن استهزاء، فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك، روي هذا عن ابن عباس. وقيل إنهم قسموا كتابهم وفرقوه وبددوه وحرفوه، وقيل المراد قوم صالح تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين كما قال تعالى: "تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله" وقيل تقاسموا أيماناً تحالفوا عليها، قاله الأخفش، وقيل إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ذكره الماوردي.

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ

91- "الذين جعلوا القرآن عضين" جمع عضة، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء، فيكون المعنى على هذا: الذين جعلوا القرآن أجزاء متفرقة، بعضه شعر، وبعضه سحر، وبعضه كهانة ونحو ذلك، وقيل هو مأخوذ من عضته إذا بهته، فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء لما لحقها من الحذف فجعلوا ذلك عوضاً عما لحقها من الحذف، وقيل معنى عضين إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، ومما يؤيد، أن معنى عضين التفريق، قول رؤية: وليس دين الله بالعضين أي بالمفرق، وقيل العضة والعضين في لغة قريش السحر: وهم يقولون للساحر عاضه، وللساحرة عاضهة، ومنه قول الشاعر: أعوذ بربي من النافثات في عقد العاضهة والعضه وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة، وفسر بالساحرة والمستسحرة والمعنى: أنهم أكثروا البهت على القرآن، وسموه سحراً وكذباً وأساطير الأولين، ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة، وكذلك سنة، والأصل سنهة. قال الكسائي: العضة: الكذب والبهتان: وجمعها عضون. وقال الفراء: إنه مأخوذ من العضاه، وهي شجر يؤذي ويجرح كالشوك، ويجوز أن يراد بالقرآن التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ، ويراد بالمقتسمين هم اليهود والنصارى: أي جعلوهما أجزاء متفرقة، وهو أحد الأقوال المتقدمة.

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ

92- "فوربك لنسألنهم أجمعين" أي لنسألن هؤلاء الكفرة أجمعين يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال التي يحاسبون عليها ويسألون عنها، وقيل إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد.

عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

والعموم في 93- "عما كانوا يعملون"، يفيد ما هو أوسع من ذلك، وقيل إن المسؤولين ها هنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار، ويدل عليه قوله: "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" وقوله: "وقفوهم إنهم مسؤولون"، وقوله: " إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم "، ويمكن أن يقال: إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم.

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ

94- "فاصدع بما تؤمر" قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به، أخذ من الصديع وهو الصبح انتهى. وأصل الصدع الفرق والشق يقال صدعته فانصدع: أي انشق، وتصدع القوم: أي تفرقوا ومنه "يومئذ يصدعون" أي يتفرقون. قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر: أي أظهر دينك فما مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر، وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر: أي اقصد، وقيل فاصدع بما تؤمر: أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون، والأولى أن الصدع الإظهار، كما قاله الزجاج والفراء وغيرهم. قال النحويون: المعنى بما تؤمر به من الشرائع، وجوزوا أن تكون مصدرية: أي بأمرك وشأنك. قال الواحدي: قال المفسرون: أي اجهر بالأمر: أي بأمرك بعد إظهار الدعوة، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية. ثم أمره سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين، فقال: "وأعرض عن المشركين" أي لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك على إظهار الدعوة.

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ

ثم أكد هذا الأمر وثبت قلب رسوله بقوله: 95- "إنا كفيناك المستهزئين" مع كونهم كانوا من أكابر الكفار، وأهل الشوكة فيهم فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر من هو دونهم بالأولى، وهؤلاء المستهزئون كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل والأسود بن المطلب بن الحرث بن زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن الطلاطلة. كذا قال القرطبي ووافقه غيره من المفسرين. وقد أهلكهم الله جميعاً وكفاهم أمرهم في يوم واحد.

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال: 96- "الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر" فلم يكن ذنبهم مجرد الاستهزاء، بل لهم ذنب آخر وهو الشرك بالله سبحانه، ثم توعدهم فقال: "فسوف يعلمون" كيف عاقبتهم في الآخرة وما يصيبهم من عقوبة الله سبحانه.

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ

ثم ذكر تسلية أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التسلية الأولى بكفايته شرهم ودفعه لمكرهم فقال: 97- "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون" من الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والكهانة والكذب، وقد كان يحصل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج الإنساني.

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ

ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال: 98- "فسبح بحمد ربك" أي متلبساً بحمده: أي افعل التسبيح المتلبس بالحمد "وكن من الساجدين" أي المصلين فإنك إذا فعلت ذلك كشف الله همك وأذهب غمك وشرح صدرك.

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ

ثم أمره بعبادة ربه: أي بالدوام عليها إلى غاية هي قوله: "حتى يأتيك اليقين" أي الموت. قال الواحدي، قال جماعة المفسرين: يعني الموت لأنه موقن به. قال الزجاج المعنى أعبد ربك أبداً، لأنه لو قيل اعبد ربك بغير توقيت لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعاً، فإذا قال حتى يأتيك اليقين، فقد أمره بالإقامة على العبادة أبداً ما دام حياً. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر في قوله: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. وأخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني وابن مردويه والبيهقي من طرق عن علي بمثله. وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود مثله وزاد: والقرآن العظيم سائر القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: فاتحة الكتاب استثناها الله لأمة محمد، فرفعها في أم الكتاب فادخرها لهم حتى أخرجها ولم يعط أحد قبل، قيل فأين الآية السابعة؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وروي عنه نحو هذا من طرق. وأخرج ابن الضريس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب قال: السبع المثاني الحمد لله رب العالمين. وروي نحو قول هؤلاء الصحابة عن جماعة من التابعين. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم "ألا أعلمك أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت، فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم". وأخرج البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم" فوجب بهذا المصير إلى القوم بأنها فاتحة الكتاب، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدمنا. وأخرج ابن مردويه عن عمر قال في الآية: هي السبع الطوال. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله. وأخرج الفريابي وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال في الآية: هي السبع الطوال. وأخرج الدارمي وابن مردويه عن أبي بن كعب مثله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي فاتحة الكتاب والسبع الطوال. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: ماثني من القرآن، ألم تسمع لقول الله "الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني". وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: المثاني القرآن يذكر الله القصة الواحدة مراراً. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن زياد بن أبي مريم في الآية قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مر، وآنه، وشر، وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واتل نبأ القرآن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تمدن عينيك" قال: نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أزواجاً منهم" قال: الأغنياء الأمثال والأشباه. وأخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة قال: من أعطي القرآن فمد عينه إلى شيء مما صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم يستمع إلى قوله: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" وإلى قوله: "ورزق ربك خير وأبقى" وقد فسر ابن عيينة أيضاً الحديث الصحيح "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" فقال: إن المعنى يستغني به. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "واخفض جناحك" قال: اخضع. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: "كما أنزلنا على المقتسمين" الآية قال: هم أهل الكتاب جزأوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه قال: عضين فرقاً. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس أنها نزلت في نفر من قريش كانوا يصدون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة. وأخرج الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون " قال: عن قول لا إله إلا الله. وأخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن أنس موقوفاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فاصدع بما تؤمر" فامضه، وفي علي بن أبي طلحة مقال معروف. وأخرج ابن جرير عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزل "فاصدع بما تؤمر" فخرج هو وأصحابه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هذا أمر من الله لنبيه بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه. وأخرج ابن المنذر عنه "فاصدع بما تؤمر" قال: أعلن بما تؤمر. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وأعرض عن المشركين" قال: نسخه قوله تعالى: "فاقتلوا المشركين". وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه وأبو نعيم والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: "إنا كفيناك المستهزئين" قال: المستهزئون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عيطل السهمي والعاص بن وائل، وذكر قصة هلاكهم. وقد روي هذا عن جماعة من الصحابة مع زيادة في عددهم ونقص، على طول في ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكن من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء مرفوعاً نحوه. وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق من طريق عبيد الله بن أبان بن عثمان بن حذيفة ابن أوس الطائفي قال: حدثني أبان بن عثمان عن أبيه عن جده يرفعه مثل حديث أبي مسلم الخولاني. وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله بن عمر "حتى يأتيك اليقين" قال الموت. وأخرج ابن المبارك عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس