islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
14559

25-الفرقان

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا

هي سبع وسبعون آية وهي مكية كلها في قول الجمهور، وكذا أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه من طرق عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عن ابن الزبير. قال القرطبي: وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الآيات. وأخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن حبان والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال: " سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمتعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، أقرئنا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، ثم قال: أقرئنا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه". تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهم، ثم في النبوة لأنها الواسطة، ثم في المعاد لأنه الخاتمة. وأصل تبارك مأخوذ من البركة، وهي النماء والزيادة، حسية كانت أو عقلية. قال الزجاج: تبارك تفاعل، من البركة. قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقال الفراء: إن تبارك وتقدس في العربية واحد، ومعناهما العظمة. وقيل المعنى: تبارك عطاؤه: أي زاد وكثر، وقيل المعنى: دام وثبت. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل: أي دام وثبت. واعترض ما قاله الفراء بأن التقديس غنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شيء. قال العلماء: هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي، والفرقان القرآن، وسمي فرقاناً لأنه يفرق بين الحق والباطل بأحكامه، أو بين المحق والمبطل، والمراد بعبده نبينا صلى الله عليه وسلم. ثم علل التنزيل "ليكون للعالمين نذيراً" فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم أو الفرقان، والمراد بالعالمين هنا الإنس والجن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهما، ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلاً إلى الثقلين، والنذير: المنذر: أي ليكون محمد منذراً أو ليكون إنزال القرآن منذراً، ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة: أي ليكون إنزاله إنذاراً، أو ليكون محمد إنذاراً، وجعل الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم أولى، لأن صدور الإنذار منه حقيقة ومن القرآن مجاز، والحمل على الحقيقة أولى ولكونه أقرب مذكور. وقيل إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" ثم إنه سبحانه وصف نفسه بصفات أربع.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا

الأولى 2- "له ملك السموات والأرض" دون غيره فهو المتصرف فيهما، ويحتمل أن يكون الموصول الآخر بدلاً أو بيانا للموصوف الأول، والوصف أولى، وفي تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وتوابعه من البهاء وغيره. والصفة الثانية "ولم يتخذ ولداً" وفيه رد على النصارى واليهود. والصفة الثالثة "ولم يكن له شريك في الملك" وفيه رد على طوائف المشركين من الوثنية والثنوية وأهل الشرك الخفي. والصفة الرابعة "وخلق كل شيء" من الموجودات "فقدره تقديراً" أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد وهيأه لما يصلح له. قال الواحدي قال المفسرون: قدر كل شيء من الأجل والرزق، فجرت المقادير على ما خلق. وقيل أريد بالخلق هنا مجرد الإحداث والإيجاد من غير ملاحظة معنى التقدير وإن لم يخل عنه في نفس الأمر، فيكون المعنى: أوجد كل شيء فقدره لئلا يلزم التكرار، ثم صرح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان.

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا

فقال: 3- "واتخذوا من دونه آلهة" والضمير في اتخذوا للمشركين وإن لم يتقدم لهم ذكر، لدلالة نفي الشريك عليهم: أي اتخذ المشركون لأنفسهم متجاوزين الله آلهة "لا يخلقون شيئاً" والجملة في محل نصب صفة لآلهة: أي لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء وغلب العقلاء على غيرهم، لأن في معبودات الكفار الملائكة وعزير والمسيح "وهم يخلقون" أي يخلقهم الله سبحانه. وقيل عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جرياً على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع. وقيل معنى "وهم يخلقون" أن عبدتهم يصورونهم. ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ فقال "ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً" أي لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً ولا يدفعوا عنها ضرراً، وقدم ذكر الضر لأن دفعه أهم من جلب النفع وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم. ثم زاد في بيان عجزهم فنصص على هذه الأمور فقال: "ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً" أي لا يقدرون على إماتة الأحياء ولا إحياء الموتى ولا بعثهم من القبور، لأن النشور الإحياء بعد الموت، يقال أنشر الله الموتى فنشروا، ومنه قول الأعشى: حتى يقول الناس مما رأوا يا عجباً للميت الناشر ولما فرغ من بيان التوحيد وتزييف مذاهب المشركين شرع في ذكر شبه منكري النبوة.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا

فالشبهة الأولى ما حكاه عنهم بقوله: 4- "وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك" أي كذب "افتراه" أي اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم، والإشارة بقوله هذا إلى القرآن "وأعانه عليه" أي على الاختلاق "قوم آخرون" يعنون من اليهود. قيل وهم: أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى ابن عامر وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود، وقد مر الكلام على مثل هذا في النحل. ثم رد الله سبحانه عليهم فقال: " فقد جاؤوا ظلما وزورا " أي فقد قالوا ظلماً هائلاً عظيماً وكذباً ظاهراً، وانتصاب ظلماً بجاءوا، فإن جاء قد يستعمل استعمال أتى ويعدى تعديته. وقال الزجاج: إنه منصوب بنزع الخافض، والأصل جاءوا بظلم. وقيل هو منتصب على الحال، وإنما كان ذلك منهم ظلماً لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبراً منه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وهذا هو الظلم، وأما كون ذلك منهم زوراً فظاهر لأنهم قد كذبوا هذه المقالة.

وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا

ثم ذكر الشبهة الثانية فقال: 5- "وقالوا أساطير الأولين" أي أحاديث الأولين وما سطروه من الأخبار. قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة، وقال غيره: أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال "اكتتبها" أي استكتبها أو كتبها لنفسه، ومحل اكتتبها خبره، ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب، وهو الجمع، لا من الكتابة بالقلم. والأولى أولى. وقرأ طلحة "اكتتبها" مبنياً للمفعول، والمعنى: اكتتبها له كاتب لأنه كان أمياً لا يكتب، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، كذا قال في الكشاف، واعرضه أبو حيان "فهي تملى عليه" أي تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أمياً لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه، ويجوز أن يكون المعنى اكتتبها أراد اكتتابها "فهي تملى عليه" لأنه يقال أمليت عليه فهو يكتب "بكرةً وأصيلاً" غدوةً وعشياً كأنهم قالوا: إن هؤلاء يعلمون محمداً طرفي النهار، وقيل معنى بكرةً وأصيلاً: دائماً في جميع الأوقات.

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا

فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة بقوله: 5- "قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض" أي ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأولين، بل هو أمر سماوي أنزله الذي يعلم كل شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء، فلهذا عجزتم عن معارضته ولم تأتوا بسورة منه، وخص السر للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر، والسر: الغيب أي يعلم الغيب الكائن فيهما، وجملة "إنه كان غفوراً رحيماً" تعليل لتأخير العقوبة: أي إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة لما تفعلونه من الكذب على رسوله والظلم له، فإنه لا يجعل عليكم بذلك لأنه كثير المغفرة والرحمة. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "تبارك" تفاعل من البركة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وأعانه عليه قوم آخرون" قال يهود: " فقد جاؤوا ظلما وزورا " قال: كذباً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده" هو القرآن فيه حلاله وحرامه وشرائعه ودينه، وفرق الله بين الحق والباطل "ليكون للعالمين نذيراً" قال: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً من الله لينذر الناس بأس الله ووقائعه بمن خلا قبلكم "وخلق كل شيء فقدره تقديراً" قال: بين لكل شيء من خلقه صلاحه وجعل ذلك بقدر معلوم "واتخذوا من دونه آلهة" قال: هي الأوثان التي تعبد من دون الله "لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون" وهو الله الخالق الرازق، وهذه الأوثان تخلق ولا تخلق شيئاً ولا تضر ولا تنفع ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً: يعني بعثاً "وقال الذين كفروا" هذا قول مشركي العرب "إن هذا إلا إفك" هو الكذب " افتراه وأعانه عليه " أي على حديثه هذا وأمره " قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين " كذب الأولين وأحاديثهم.

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا

لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، 7- "وقالوا مال هذا الرسول" وفي الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسموه استهزاء وسخرية "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" أي ما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد، وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الطعام والكسب، وما الاستفهامية في محل رفع على الابتداء، والاستفهام للاستنكار، وخبر المبتدأ لهذا الرسول، وجملة يأكل في محل نصب على الحال، وبها تتم فائدة الإخبار كقوله: "فما لهم عن التذكرة معرضين" والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقق المسبب، وهو الأكل والمشي، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكماً واستهزاءً. والمعنى: أنه إن صح ما يدعيه من النبوة فما باله لم يخالف حاله حالنا " لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " طلبوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مصحوباً بملك يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ويشهد له بالرسالة. قرأ الجمهور "فيكون" بالنصب على كونه جواب التحضيض. وقرئ فيكون بالرفع على أنه معطوف على أنزل، وجاز عطفه على الماضي لأن المراد به المستقبل.

أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا

8- "أو يلقى إليه كنز" معطوف على أنزل، ولا يجوز عطفه على يكون معه كنز يلقى إليه من السماء ليستغني به عن طلب الرزق "أو تكون له جنة يأكل منها" قرأ الجمهور "تكون" بالمثناة الفوقية، وقرأ الأعمش وقتادة يكون بالتحتية، لأن تأنيث الجنة غير حقيقي. وقرأ "نأكل" بالنون حمزة وعلي وخلف، وقرأ الباقون "يأكل" بالمثناة التحتية: أي بستان نأكل نحن من ثماره، أو يأكل هو وحده منه ليكون له بذلك مزية علينا حيث يكون أكله من جنته. قال النحاس: والقراءتان حسنتان وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فعود الضمير إليه بين "وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً" المراد بالظالمون هنا هم القائلون بالمقالات الأولى، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به: أي ما تتبعون إلا رجلا مغلوبا على عقله بالسحر، وقيل ذا سحر، وهي الرئة: أي بشراً له رئة لا ملكاً، وقد تقدم بيان مثل هذا في سبحان.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا

9- "انظر كيف ضربوا لك الأمثال" ليتوصلوا بها إلى تكذيبك، والأمثال هي الأقوال النادرة والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه هاهنا "فضلوا" عن الصواب فلا يجدون طريقاً إليه ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاءوا بهذه المقالات الزائفة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء وأقلهم تمييزاً ولهذا قال: "فلا يستطيعون سبيلاً" أي لا يجدون إلى القدح في نبوة هذا النبي طريقاً من الطرق.

تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا

10- "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك" أي تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلاً خيراً من ذلك الذي اقترحوه. ثم فسر الخير فقال: "جنات تجري من تحتها الأنهار" فجنات بدل من خيراً "ويجعل لك قصوراً" معطوف على موضع جعل، وهو الجزم، وبالجزم قرأ الجمهور. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع "يجعل" على أنه مستأنف، وقد تقرر في علم الإعراب أن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع فجاز أن يكون جعل هاهنا في محل جزم ورفع فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع. وقرئ بالنصب. وقرئ بإدغام لام لك في لام يجعل لاجتماع المثلين. وقرئ بترك الإدغام لأن الكلمتين منفصلتان، والقصر البيت من الحجارة، لأن الساكن به مقصور عن أن يوصل إليه، وقيل هو بيت الطين وبيوت الصوف والشعر. ثم أضرب سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء.

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا

11- "بل كذبوا بالساعة" أي بل أتوا بأعجب من ذلك كله. وهو تكذيبهم بالساعة، فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها. ثم ذكر سبحانه ما أعده لمن كذب بالساعة فقال: "وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً" أي ناراً مشتعلة متسعرة، والجملة في محل نصب على الحال: أي بل كذبوا بالساعة، والحال أنا أعتدنا. قال أبو مسلم: أعتدنا: أي جعلناه عتيداً ومعداً لهم.

إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا

12- "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً" هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيراً لأنه مؤنث بمعنى النار، قيل معنى إذا رأتهم: إذا ظهرت لهم فكانت بمرأى الناظر في البعد، وقيل المعنى: إذا رأتهم خزنتها، وقيل إن الرؤية منها حقيقية وكذلك التغيظ والزفير، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك. ومعنى "من مكان بعيد" أنها رأتهم وهي بعيدة عنهم، قيل بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام. ومعنى التغيظ: أن الصوت الذي يسمع من الجوف. قال الزجاج: المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت: أي سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ. وقال قطرب: أراد عملوا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً كما قال الشاعر: متقلداً سيفاً ورمحاً أي وحاملاً رمحاً، وقيل المعنى: سمعوا فيها تغيظاً وزفيراً للمعذبين كما قال: "لهم فيها زفير وشهيق" وفي اللام متقاربان، تقول: افعل هذا في الله ولله.

وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا

13- "وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً" وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدة وتناهي البلاء عليهم، وانتصاب "مقرنين" على الحال: أي إذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد، وقيل مكتفين، وقيل قرنوا مع الشياطين: أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم "دعوا هنالك" أي في ذلك المكان الضيق "ثبوراً" أي هلاكاً. قال الزجاج: وانتصابه على المصدرية: أي ثبرنا ثبورا، وقيل منتصب على أنه مفعول له، والمعنى: أنهم يتمنون هنالك الهلاك وينادونه لما حل بهم من البلاء.

لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا

فأجيب عليهم بقوله: 14- "لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً" أي فيقال لهم هذه المقالة، والقائل لهم هم الملائكة: أي اتركوا دعاء ثبور واحد، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك وأعظم، كذا قال الزجاج "وادعوا ثبوراً كثيراً" والثبور مصدر يقع على القليل والكثير فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضرباً كثيراً، وقعد قعوداً طويلاً، فالكثرة هاهنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نسبه، فإنه شيء واحد. والمعنى: لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاءً واحداً وادعوه أدعية كثيرة، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشد من ذلك لطول مدته وعدم تناهيه، وقيل هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول، وقيل إن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه، ثم وبخهم الله سبحانه توبيخاً بالغاً على لسان رسوله.

قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا

فقال: 15- "قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون" والإشارة بقوله ذلك إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة: أي أتلك السعير خير أم جنة الخلد، وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها وعدم انقطاعه، ومعنى "التي وعد المتقون" التي وعدها المتقون، والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلاص، لأن العرب قد تقول ذلك، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم أنهم يقولون: السعادة أحب إليك أم الشقاوة؟ وقيل: ليس هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن كما قال: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء ثم قال سبحانه: "كانت لهم جزاءً ومصيراً" أي كانت تلك الجنة للمتقين جزاءً على أعمالهم ومصيراً يصيرون إليه.

لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا

16- " لهم فيها ما يشاؤون " أي ما يشاءونه من النعيم وضروب الملاذ كما في قوله: "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم" وانتصاب خالدين على الحال، وقد تقدم تحقيق معنى الخلود "كان على ربك وعداً مسؤولاً" أي كان ما يشاءونه، وقيل كان الخلود، وقيل كان الوعد المدلول عليه بقوله: وعد المتقون، ومعنى الوعد المسؤول: الوعد المحقق بأن يسأل ويطلب كما في قوله: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " وقيل إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله: "وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم" وقيل المراد به الوعد الواجب وإن لم يسأل. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسودك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي مما تقولون، ما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك، أو قالوا: فإذا لم تفعل هذا فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ،حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بغثني بشيراً ونذيراً، فأنزل الله في ذلك " وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام " "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً""أي جعلت بعضكم لبعض بلاءً لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ولا نعطها أحداً بعدك ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئاً وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله سبحانه: "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً". وأخرج نحوه عنه ابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يقل علي ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً، قيل يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم، أما سمعتم الله يقول: "إذا رأتهم من مكان بعيد"". وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله: "إذا رأتهم من مكان بعيد" قال: من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتي بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر "سمعوا لها تغيظاً وزفيراً" تزفر زفرة لا تبقي قطرة من دمع إلا بدت، ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها وتبلغ القلوب الحناجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله: "وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين" قال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "دعوا هنالك ثبوراً" قال: ويلاً "لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً" يقول: لا تدعوا اليوم ويلاً واحداً. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث. قال السيوطي بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من يكسى حلته من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه، ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على الناس فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم، فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً". وإسناد أحمد فذكره. وفي علي بن زيد بن جدعان مقال معروف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "كان على ربك وعداً مسؤولاً" يقول: سلموا الذي وعدكم تنجزوه.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ

قوله: 17- "يوم نحشرهم" الظرف منصوب بفعل مضمر: أي واذكر، وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد كما مر مراراً. قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في الآية الدوري "يحشرهم" بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله في أول الكلام "كان على ربك" والباقون بالنون على التعظيم ما عدا الأعرج فإنه قرأ نحشرهم بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضمها، ورده أبو حبان باستواء المضموم والمكسور إلا أن يشتهر أحدهما اتبع "وما يعبدون من دون الله" معطوف على مفعول نحشر، وغلب غير العقلاء من الأصنام والأوثان ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيهاً على أنها جميعاً مشتركة في كونها غير صالحة لكونها آلهة، أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر ممن يعبد من يعقل منها، فغلبت اعتباراً بكثرة من يعبدها وقال مجاهد وابن جريج: المراد الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير بدليل خطابهم وجوابهم فيما بعد. وقال الضحاك وعكرمة والكلبي: المراد الأصنام خاصة، وإنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم فإن الله سبحانه يجعلها يوم القيامة سامعة ناطقة، " فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل " قرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن كثير وحفص فنقول بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد كما اختار القراءة بها في نحشرهم، وكذا أبو حاتم. والاستفهام في قوله: ءأنتم أضللتم للتوبيخ والتقريع. والمعنى: أكان ضلالهم بسببكم وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب.

قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا

وجملة 18- "قالوا سبحانك" مستأنفة جواب سؤال مقدر، ومعنى سبحانك: التعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل: أي تنزيهاً لك "ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء" أي ما صح ولا استقام لنا أن نتخذ من دونك أولياء فنعبدهم، فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك، والولي يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور نتخذ مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر "نتخذ" مبنياً للمفعول: أي ما كان ينبغي لنا أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك. قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا تجوز هذه القراءة ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية. قال أبو عبيدة: لا تجوز هذه القراءة لأن الله سبحانه ذكر من مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل إن من الثانية زائدة. ثم حكى عنهم سبحانه بانهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان فقال: "ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر" وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل، ولم يضلهم غيرهم، والمعنى: ما أضللناهم، ولكنك يا رب متعتهم ومتعت آباءهم بالنعم ووسعت عليهم الرزق وأطلت لهم العمر حتى غفلوا عن ذكرك ونسوا موعظتك والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك وغرائب مخلوقاتك. وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ ينبغي مبنياً للمفعول. قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنها لغة. وقيل المراد بنسيان الذكر هنا هو ترك الشكر "وكانوا قوماً بوراً" أي وكان هؤلاء الذين أشركوا بك وعبدوا غيرك في قضائك الأزلي قوماً بوراً: أي هلكى، مأخوذ من البوار وهو الهلاك: يقال: رجل بائر وقوم بور، يستوي فيه الواحد والجماعة لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير ويجوز أن يكون جمع بائر. وقيل البوار الفساد. يقال بارت بضاعته: أي فسدت، وأمر بائر: أي فاسد وهي لغة الأزد. وقيل المعنى: لا خير فيهم، مأخوذ من بوار الأرض وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير، وقيل إن البوار الكساد، ومنه بارت السلعة إذا كسدت.

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا

19- "فقد كذبوكم بما تقولون" في الكلام حذف، والتقدير: فقال الله عند تبري المعبودين مخاطباً للمشركين العابدين لغير الله فقد كذبوكم: أي فقد كذبكم المعبودون بما تقولون: أي في قولكم إنهم آلهة " فلا يستطيعون " أي الآلهة "صرفاً" أي دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه، وقيل حيلة "ولا نصراً" أي ولا يستطيعون نصركم، وقيل المعنى فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفاً للعذاب الذي عذبهم الله به ولا نصراً من الله، وهذا الوجه مستقيم على قراءة من قرأ "تستطيعون" بالفوقية وهي قراءة حفص، وقرأ الباقون بالتحتية. وقال ابن زيد: المعنى: فقد كذبوكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فمعنى بما تقولون: ما تقولونه من الحق. وقال أبو عبيد: المعنى فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إلأيه ولا نصراً لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقرأ الجمهور "بما تقولون" بالتاء الفوقية على الخطاب. وحكى الفراء أنه يجوز أن يقرأ فقد كذبوكم مخففاً بما يقولون: أي كذبوكم في قولهم وكذا قرأ بالياء التحتية مجاهد والبزي "ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً" هذا وعيد لكل ظالم ويدخل تحته الذين فيهم السياق دخولاً أولياً، والعذاب الكبير عذاب النار، وقرئ يذقه بالتحتية، وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة. ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحاً لبطلان ما تقدم من قوله: يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا

فقال: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" قال الزجاج: الجملة اواقعة بعد إلا صفة لموصوف محذوف، والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا أكلين وماشين، وإنما حذ الموصوف لأن في قوله من المرسلين دليلاً عليه، نظيره "وما منا إلا له مقام معلوم" أي وما منا أحد. وقال الفراء لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول، والتقدير: إلا من أنهم فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى المقدرة، ومثله قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها" أي إلا من يردها، وبه قرأ االكسائي. قال الزجاج: هذا خطأ لأن من الموصولة لا يجوز حذفها. وقال ابن الأنباري: إنها في محل نصب على الحال، والتقدير: إلا وإنهم، فالمحذوف عنده الواو. قرأ الجمهور "إلا إنهم" بكسر إن لوجود اللام في خبرها كما تقرر في علم النحو، وهو مجمع عليه عندهم. قال النحاس: إلا أن علي بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجوز في إن هذه الفتح وإن كان بعدها اللام وأحسبه وهما. وقرأ الجمهور. "يمشون" بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهي بمعنى القراءة الأولى، قال الشاعر: أمشي بأعطان المياه وأتقي قلائص منها صعبة وركوب وقال كعب بن زهير: منه تظل سباع الحي ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيل "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" هذا الخطاب عام للناس، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير، وقيل المراد بالبعض الأول كفار الأمم، وبالبعض الثاني المرسل، ومعنى الفتنة الابتلاء والمحنة. والأول لأولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به، فالمريض يقول لم لم أجعل كالصحيح؟ وكذا كل صاحب آفة، والصحيح مبتلى بالمريض فلا يضجر منه ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغني يحسده، ونحو هذا مثله. وقلي المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف وقال لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة "أتصبرون" هذا الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره أم لا تصبرون: أي أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة والابتلاء العظيم. قيل موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله: "أيكم أحسن عملاً" في قوله: "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" ثم وعد الصابرين بقوله: "وكان ربك بصيرا" أي بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه. وقيل معنى أتصبرون: اصبروا مثل قوله: "فهل أنتم منتهون" أي انتهوا.

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا

21-"وقال الذين لا يرجون لقاءنا" هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، والجملة معطوفة على " وقالوا مال هذا " أي وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر: لعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي أي لا أبالي، وقيل المعنى لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرجو لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل أي لم يخف، وهي لغة تهامة. قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف، وقيل لا يأملون، ومنه قول الشاعر: أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحساب الحمل على المعنى الحقيقي أولى، فالمعنى: لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب، ومعلوم أن من لا يرجوا الثواب لا يخاف العقاب "لولا أنزل علينا الملائكة" أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا أن محمداً صادق، أو هلا أنزلوا علينا رسلاً يرسلهم الله "أو نرى ربنا" عياناً فيخبرنا بأن محمداً رسول. ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه فقال: " لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " أي أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله: "إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه"، والعتو مجاوزة الحد في الطغيان والبلوغ إلى أقصى غاياته، ووصفة بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم،بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغاً هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعد من المستعدين له، وهكذا من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حده، ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لم يرى.

يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا

وانتصاب 22- "يوم يرون الملائكة" بفعل محذوف: أي واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت أو عند الحشر، ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدل عليه قوله: "لا بشرى يومئذ للمجرمين" أي يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة، وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى. قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله " ويقولون حجرا محجورا " أي ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة حجرا محجورا ، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة، يقال للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجراً محجوراً: أي حراماً عليك التعرض لي. وقيل إن هذا من قول الملائكة: أي يقولون للكفار حراماً محرماً أن يدخل أحدكم الجنة، ومن ذلك قول الشاعر: ألا أصبحت أسماء حجراً محرماً وأصبحت من أدنى حمومتها حماء أي أصبحت أسماء محرماً، وقال آخر: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام إلا تلك الدهاريس وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة وجعلها من جملتها.

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا

23- "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً" هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعلمون أعملالاً لها صورة الخير: من صلة الرحم، وإغاثة الملهوف وإطعام الطعام وأمثالها، ولم يمنع من الإثابة عليها إلا الكفر الذي هم عليه، فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى ما معهم من المتاع فأفسده ولم يترك منها شيئاً، وإلا فلا قدوم ها هنا. قال الواحدي: معنى قدمنا عمدنا وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده، ومنه قول الشاعر: وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم فقالوا إن دماءكم لنا حلال وقيل هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى، والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل: الهباء التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل في الكوة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، وكذا قال الأزهري: والمنثور المفرق، والمعنى: أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرق متبدد، وقيل إن الهباء ما أذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، وقيل هو الماء المهراق، وقيل الرماد. والأول هو الذي ثبت في لغة العرب ونقله العارفون بها. ثم مير سبحانه حال الأبرار من حال الفجار.

أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا

فقال: 24- "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً" أي أفضل منزلاً في الجنة "وأحسن مقيلاً" أ] موضع قائلة، وانتصاب مستقراً على التمييز. قال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك يوم. قال النحاس: والكوفيون يجيزون: العسل أحلى من الخل. وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "يوم نحشرهم" الآية قال: عيسى وعزير والملائكة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "قوماً بوراً" قال: هلكى. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله: "ومن يظلم منكم" قال: هو الشرك. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: يشرك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " يقول: إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" قال: بلاءً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" قال: يقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، ويقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وعتوا عتواً كبيراً" قال: شدة الكفر. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "يوم يرون الملائكة" قال: يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية العوفي نحوه. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "ويقولون حجراً محجوراً" قال: عوذاً معاذاً، الملائكة تقوله. وفي لفظ قال: حراماً محرماً أن تكون البشرى في اليوم إلا للمؤمنين. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في قوله: "ويقولون حجراً محجوراً" قال: حراماً محرماً أن نبشركم بما نبشر به المتقين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة "ويقولون حجراً محجوراً" قالا: هي كلمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزلت به شدة قال: حجراً محجوراً حراماً محرماً. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل" قال: عمدنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله: "هباءً منثوراً" قال: الهباء شعاع الشمس الذي يخرج من الكوة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: هو ما تسفي الريح وتبثه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو الماء المهراق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "خير مستقراً وأحسن مقيلاً" قال: في الغرف من الجنة. وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: لا ينصرف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً".

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا

قوله: 25- "ويوم تشقق السماء بالغمام" وصف سبحانه ها هنا بعض حوادث يوم القيامة، والتشقق التفتح، قرأ عاصم والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وأبو عمرو "تشقق" بتخفيف الشين، وأصله تتشقق، وقرأ الباقون بتشديد الشين على الإدغام واختار القراءة الأولى أبو عبيد، واختار الثانية أبو حاتم، ومعنى تشققها بالغمام: أنها تتشقق عن الغمام. قال أبو علي الفارسي: تشقق السماء وعليها غمام كما تقول: ركب الأمير بسلاحه: أي وعليه سلاحه وخرج بثيابه: أي وعليه ثيابه. ووجه ما قاله أن الباء وعن يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس. وعن القوس وروي أن السماء تتشقق عن سحاب رقيق أبيض، وقيل إن السماء تتشقق بالغمام الذي بينها وبين الناس. والمعنى: أنه يتشقق السحاب بتشقق السماء، وقيل إنها تشقق لنزول الملائكة كما قال سبحانه بعد هذا "ونزل الملائكة تنزيلاً" وقيل إن الباء في بالغمام سببية: أي بسبب الغمام، يعني بسبب طلوعه منها كأنه الذي تتشقق به السماء، وقيل إن الباء متعلقة بمحذوف: أي متلبسة بالغمام. قرأ ابن كثير "ننزل الملائكة" مخففاً، من الإنزال بنون بعدها نون ساكنة وزاي مخففة بكسرة مضارع أنزل، والملائكة منصوبة على المفعولية. وقرأ الباقون من السبعة "ونزل" بضم النون وكسر الزاي المشددة ماضياً مبنياً للمفعول، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء نزل بالتشديد ماضياً مبنياً للفاعل وفاعله الله سبحانه، وقرأ أبي بن كعب أنزل الملائكة وروي عنه أنه قرأ تنزلت الملائكة وقد قرئ في الشواذ بغير هذه، وتأكيد هذا الفعل بقوله تنزيلاً يدل على أن هذا التنزيل على نوع غريب ونمط عجيب. قال أهل العلم: إن هذا تنزيل رضاً ورحمة لا تنزيل سخط وعذاب.

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا

26- "الملك يومئذ الحق للرحمن" الملك مبتدأ، والحق صفة له وللرحمن الخبر كذا قال الزجاج: أي الملك الثابت الذي لا يزول للرحمن يومئذ، لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك في الحقيقة، وفائدة التقييد بالظرف أن ثبوت الملك المذكور له سبحانه خاصة في هذا اليوم، وأما فيما عداه من أيام الدنيا فلغيره ملك في الصورة وإن لم يكن حقيقياً. وقيل إن خبر المبتدأ هو الظرف، والحق نعت للملك. والمعنى: الملك الثابت للرحمن خاص في هذا اليوم "وكان يوماً على الكافرين عسيراً" أي وكان هذا اليوم مع كون الملك فيه لله وحده شديداً على الكفار لما يصابون به فيه، وينالهم من العقاب بعد تحقيق الحساب، وأما على المؤمنين فهو يسير غير عسير، لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة.

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا

26- "ويوم يعض الظالم على يديه" الظرف منصوب بمحذوف: أي واذكر كما انتصب بهذا المحذوف الظرف الأول، أعني يوم تشقق، ويوم يعض الظالم على يديه الظاهر أن العض هنا حقيقة، ولا مانع من ذلك ولا موجب لتأويله. وقيل هو كناية عن الغيظ والحسرة، والمراد بالظالم كل ظالم يرد ذلك المكان وينزل ذلك المنزل، ولا ينافيه ورود الآية على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب "يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً" يقول في محل نصب على الحال ومقول القول هو: يا ليتني إلخ، والمنادى محذوف: أي يا قوم ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً طريقاً وهو طريق الحق ومشيت فيه حتى أخلص من هذه الأمور المضلة، والمراد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.

يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا

28- " يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا " دعاء على نفسه بالويل والثبور على مخاللة الكافر الذي أضله في الدنيا، وفلان كناية عن الأعلام. قال النيسابوري: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية، لا يقال جاءني فلان، ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان، لأنه اسم اللفظ الذي هو علم الاسم، وكذلك جاء في كلام الله. وقيل فلان كناية عن علم ذكور من يعقل، وفلانة عن علم إناثهم. وقيل كناية عن نكرة من يعقل من الذكور، وفلانة عمن يعقل من الإناث، وأما الفلان والفلانة فكناية عن غير العقلاء، وفل يختص بالنداء إلا في ضرورة كقول الشاعر: في لجة أمسك فلانا عن فل وقوله: حدثاني عن فلان وفل وليس فل مرخماً من فلان خلافاً للفراء. وزعم أبو حيان أن ابن عصفور وابن مالك وهما في جعل فلان كناية علم من يعقل. وقرأ الحسن يا ويلتي بالياء الصريحة، وقرأ الدوري بالإمالة. قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن، لأن أصل هذه اللفظة الياء فأبدلت الكسرة فتحة، والياء تاءً فراراً من الياء، فمن أمال رجع إلى الذي فر منه.

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا

29- "لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني" أي والله لقد أضلني هذا الذي اتخذته خليلاً عن القرآن أو عن الموعظة أو كلمة الشهادة أو مجموع ذلك، بعد إذ جاءني وتمكنت منه وقدرت عليه "وكان الشيطان للإنسان خذولاً" الخذل ترك الإغاثة، ومنه خذلان إبليس للمشركين حيث يوالونه، ثم يتركهم عند استغاثتهم به، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو من تمام كلام الظالم، وأنه سمى خليله شيطاناً بعد أن جعله مضلاً، أو أراد بالشيطان إبليس لكونه الذي حلمه على مخاللة المضلين.

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا

30- "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" معطوف على "وقال الذين لا يرجون لقاءنا" والمعنى إن قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به إليهم وأمرتني بإبلاغه وأرسلتني به مهجوراً متروكاً لم يؤمنوا به، ولا قبلوه بوجه من الوجوه، وقيل هو من هجر إذا هدي. والمعنى: أنهم اتخذوه هجراً وهذياناً. وقيل معنى مهجوراً مهجوراً فيه، ثم حذف الجار، وهجرهم فيه قولهم: إنه سحر وشعر وأساطير الأولين، وهذا القول يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وقيل إنه حكاية لقوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا

31- "وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين" هذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله سبحانه جعل لكل نبي من الأنبياء الداعين إلى الله عدواً يعاديه من مجرمي قومه، فلا تجزع يا محمد، فإن هذا دأب الأنبياء قبلك واصبر كما صبروا "وكفى بربك هادياً ونصيراً" قال المفسرون: الباء زائدة: أي كفى ربك، وانتصاب نصيراً وهادياً على الحال، أو التمييز: أي يهدي عباده إلى مصالح الدين والدنيا وينصرهم على الأعداء.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا

32- "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة" هذا من جملة اقتراحاتهم وتعنتاتهم: أي هلا نزل الله علينا هذا القرآن دفعة واحدة غير منجم. واختلف في قائل هذه المقالة، فقيل كفار قريش، وقيل اليهود، قالوا: هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور؟ وهذا زعم باطل ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت مفرقة كما نزل القرآن ولكنهم معاندون، أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه، ثم رد الله سبحانه عليهم فقال: "كذلك لنثبت به فؤادك" أي نزلنا القرآن كذلك مفرقاً، والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف، وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم: أي مثل ذلك التنزيل المفرق الذي قدحوا فيه، واقترحوا خلافه نزلناه لنقوي بهذا التنزيل على هذه الصفة فؤادك، فإن إنزاله مفرقا منجماً على حسب الحوادث أقرب إلى حفظك له وفهمك لمعانيه، وذلك من أعظم أسباب التثبيت، واللام متعلقة بالفعل المحذوف الذي قدرناه. وقال أبو حاتم: إن الأخفش قال: إنها جواب قسم محذوف. قال: وهذا قول مرجوح وقرأ عبد الله ليثبت بالتحتية: أي الله سبحانه، وقيل إن هذه الكلمة: أعني كذلك، ثم يبتدأ بقوله: "لنثبت به فؤادك" على معنى أنزلناه عليك متفرقاً لهذا الغرض. قال ابن الأنباري: وهذا أجود وأحسن. قال النحاس: وكان ذلك: أي إنزال القرآن منجماً من أعلام النبوة لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتاً لفؤاده، وأفئدتهم "ورتلناه ترتيلاً" هذا معطوف على الفعل المقدر: أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلاً، ومعنى الترتيل: أن يكون آية بعد آية، قال النخعي والحسن وقتادة. وقيل: إن المعنى بيناه تبييناً، حكي هذا عن ابن عباس. وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض. وقال السدي: فصلناه تفصيلاً. قال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين. ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كل أوان مدفوع قولهم بكل وجه وعلى كل حالة.

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا

فقال: 33- "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً" أي لا يأتيك يا محمد المشركون بمثل من أمثالهم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة إلا جئناك في مقابلة مثلهم بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاءوا به من المثل ويدمغه ويدفعه. فالمراد بالمثل هنا: السؤال والاقتراح، وبالحق جوابه الذي يقطع ذريعته ويبطل شبهته ويحسم مادته. ومعنى "أحسن تفسيراً" جئناك بأحسن تفسير، فأحسن تفسيراً معطوف على الحق، والاستثناء بقوله: "إلا جئناك" مفرغ، والجملة في محل نصب على الحال: أي لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك ذلك. ثم أوعد هؤلاء الجهلة وذمهم.

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا

فقال: 34- "الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم" أي يحشرون كائنين على وجوههم، والموصول مبتدأ وخبره: أولئك، أو هو خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين، ويجوز نصبه على الذم. ومعنى يحشرون على وجوههم: يسحبون عليها إلى جهنم "أولئك شر مكاناً" أي تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان، وقد قيل إن هذا متصل بقوله: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً". وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: "ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً" قال: يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد: الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق، فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون لا ثم تنشق السماء الثانية وذكر مثل ذلك، ثم كذلك في كل سماء إلى السماء السابعة، وفي كل سماء أكثر من السماء التي قبلها، ثم ينزل ربنا في ظل من الغمام وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السموات السبع والإنس والجن وجميع الخلق، لهم قرون ككعوب القثاء، وهم تحت العرش، لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى، ما بين إخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن ركبته إلى فخذه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام. وإسناده عند ابن جرير هكذا: قال حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج بن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس فذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد هكذا: قال حدثنا محمد بن عمار بن الحرث مأمول، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد به. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بسند، قال السيوطي: صحيح من طريق سعيد بن جبر عن ابن عباس: أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلاً حليماً، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أو معيط، وقدم خليله من الشام ليلاً فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد ما كان أمراً، فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه، فلم يرد عليه التحية، فقال: مالك لا ترد علي تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقي صبراً، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحمل به جمله في جدود من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيراً في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم بما بزقت في وجهي، فأنزل الله في أبي معيط "ويوم يعض الظالم على يديه" إلى قوله: "وكان الشيطان للإنسان خذولاً". وأخرج أبو نعيم هذه القصة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وذكر أن خليل أبي معيط: هو أبي بن خلف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً في قوله: "ويوم يعض الظالم على يديه" قال: أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وهما الخليلان في جهنم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين" قال: كان عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: لو كان محمد كما يزعم نبياً فلم يعذبه ربه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين، فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة" إلى "وأضل سبيلاً". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "لنثبت به فؤادك" قال: لنشدد به فؤادك ونربط على قلبك "ورتلناه ترتيلاً" قال: رسلناه ترسيلاً، يقول شيئاً بعد شيء "ولا يأتونك بمثل" يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة، ثم سألوك لم يكن عنده ما يجيب، ولكن نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت.

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا

اللام في قوله: 35- "ولقد آتينا موسى الكتاب" جواب قسم محذوف: أي والله لقد آتينا موسى التوراة، ذكر سبحانه صرفاً من قصص الأولين تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين بالله، وليس ذلك بخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم و "هارون" عطف بيان، ويجوز أن ينصب على القطع و "وزيراً" المفعول الثاني، وقيل حال، والمفعول الثاني معه، والأول أولى. قال الزجاج: الوزير في اللغة الذي يرجع غليه ويعمل برأيه، والوزر ما يعتصم به، ومنه "كلا لا وزر". وقد تقدم تفسير الوزير في طه، والوزارة لا تنافي النبوة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضاً. وقد كان هارون في أول الأمر وزيراً لموسى.

فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا

ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما 36- "اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا" وهم فرعون وقومه، والآيات هي التسع التي تقدم ذكرها، وإن لم يكونوا قد كذبوا بها عند أمر الله لموسى وهارون بالذهاب بل كان التكذيب بعد ذلك، لكن هذا الماضي بمعنى المستقبل على عادة إخبار الله: أي اذهبا إلى القوم الذين يكذبون بآياتنا. وقيل إنما وصفوا بالتكذيب عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لعلة استحقاقهم للعذاب. وقيل يجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا. وقيل إن المراد بوصفهم بالتكذيب عند الإرسال أنهم كانوا مكذبين للآيات الإلهية وليس المراد آيات الرسالة. قال القشيري: وقوله تعالى في موضع آخر "اذهب إلى فرعون إنه طغى" لا ينافي هذا لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور. ويمكن أن يقال إن تخصيص موسى بالخطاب في بعض المواطن لكونه الأصل في الرسالة، والجمع بينهما في الخطاب لكونهما مرسلين جميعاً "فدمرناهم تدميراً" في الكلام حذف: أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم: أي أهلكناهم إثر ذلك التكذيب إهلاكاً عظيماً. وقيل إن المراد بالتدمير هنا: الحكم به، لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده بمدة.

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا

37- "وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم" في نصب قوم أقوال: العطف على الهاء، والميم في دمرناهم، أو النصب بفعل محذوف، أي اذكر، أو بفعل مضمر يفسره ما بعده، وهو أغرقناهم: أي أغرقنا قوم نوح أغرقناهم، وقال الفراء: هو منصوب بأغرقناهم المذكور بعده من دون تقدير مضمر يفسره ما بعده. ورده النحاس بأن أغرقنا لا يتعدى إلى مفعولين حتى يعمل في الضمير المتصل به، وفي قوم نوح. ومعنى "لما كذبوا الرسل" أنهم كذبوا نوحاً وكذبوا من قبله من رسل الله. وقال الزجاج: من كذب نبياً فقد كذب جميع الأنبياء، وكان إغراقهم بالطوفان كما تقدم في هود "وجعلناهم للناس آية" أي جعلنا إغراقهم، أو قصتهم للناس آية: أي عبرة لكل الناس على العموم يتعظ بها كل مشاهد لها وسامع لخبرها "وأعتدنا للظالمين" المراد بالظالمين قوم نوح على الخصوص. ويجوز أن يكون المراد كل من سلك مسلكهم في التكذيب، والعذاب الأليم: هو عذاب الآخرة.

وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا

وانتصاب 38- "عاداً" بالعطف على قوم نوح، وقيل على محل الظالمين، وقيل على مفعول جعلناهم "وثمود" معطوف على عاداً، وقصة عاد وثمود قد ذكرت فيما سبق "وأصحاب الرس" الرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رساس كذا قال أبو عبيدة، ومنه قول الشاعر: وهم سائرون إلى أرضهم تنابلة يخفرون الرساسا قال السدي: هي بئر بإنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار فنسبوا إليها، وهو صاحب يس الذي قال "قال يا قوم اتبعوا المرسلين" وكذا قال مقاتل وعكرمة وغيرهما. وقيل هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياءهم فجفت أشجارهم وزروعهم، فماتوا جوعاً وعطشاً. وقيل كانوا يعبدون الشجر، وقيل كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله عليهم شعيباً فكذبوه وآذوه. وقيل هم قوم أرسل الله إليهم نبياً فأكلوه، وقيل هم أصحاب الأخدود. وقيل إن الرس: هي البئر المعطلة التي تقدم ذكرها، وأصحابها أهلها. وقال في الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية ثمود، وقيل الرس: ماء ونخل لبني أسد، وقيل الثلج المتراكم في الجبال. والرس: اسم واد، ومنه قول زهير: بكرن بكوراً واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم والرس أيضاً: الإصلاح بين الناس والإفساد بينهم، فهو من الأضداد. وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان، وهم الذين ابتلاهم الله بالطائر المعروف بالعنقاء "وقروناً بين ذلك كثيراً" معطوف على ما قبله، والقرون جمع قرن: أي أهل قرون، والقرن: مائة سنة، وقيل مائة وعشرون، وقيل القرن أربعون سنة، والإشارة بقوله: "بين ذلك" إلى ما تقدم ذكره من الأمم. وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك.

وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا

39- "وكلا ضربنا له الأمثال" قال الزجاج: أي وأنذرنا كلا ضربنا لهم الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة، فجعله منصوباً بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأن حذرنا وذكرنا وأنذرنا في معنى ضربنا، ويجوز أن يكون معطوفاً على ما قبله، والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف، وهو الأمم: أي كل الأمم ضربنا لهم الأمثال "و" أما "كلا" الأخرى: فهي منصوبة بالفعل الذي بعدها، والتتبير: الإهلاك بالعذاب. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته. وقال المؤرج والأخفش: معنى "تبرنا تتبيراً" دمرنا تدميراً أبدلت التاء والباء من الدال والميم.

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا

40- "ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء" هذه جملة مستأنفة مبينة لمشاهدتهم لآثار هلاك بعض الأمم. والمعنى: ولقد أتوا: أي مشركو مكة على قرية قوم لوط التي أمطرت مطر السوء. وهو الحجارة: أي هلكت بالحجارة التي أمطروا بها، وانتصاب مطر على المصدرية، أو على أنه مفعول ثان: إذ المعنى أعطيتها وأوليتها مطر السوء، أو على أنه نعت مصدر محذوف: أي إمطار مثل مطر السوء، وقرأ أبو السمال السوء بضم السين، وقد تقدم تفسير السوء في براءة "أفلم يكونوا يرونها" الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي يرون القرية المذكورة عند سفرهم إلى الشام للتجارة، فإنهم يمرون بها، والفاء للعطف على مقدر: أي لم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها "بل كانوا لا يرجون نشوراً" أضرب سبحانه عما سبق من عدم رؤيتهم لتلك الآثار إلى عدم رجاء البعث منهم المستلزم لعدم رجائهم للجزاء، ويجوز أن يكون معنى يرجون يخافون.

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا

41- " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا " أي ما يتخذونك إلا هزؤاً: أي مهزوءاً بك، قصر معاملتهم له على اتخاذهم إياه هزواً، فجواب إذا هو إن يتخذونك وقيل الجواب محذوف، وهو قالوا "أهذا الذي" وعلى هذا فتكون جملة إن يتخذونك إلا هزؤاً معترضة، والأول أولى. وتكون جملة "أهذا الذي بعث الله رسولاً" في محل نصب على الحال بتقدير القول: أي قائلين أهذا إلخ، وفي اسم الإشارة دلالة على استحقارهم له وتهكمهم به، والعائد محذوف: أي بعثه الله وانتصاب رسولاً على الحال: أي مرسلاً، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره الموصول.

إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا

وصلته 42- "إن كاد ليضلنا عن آلهتنا" أي قالوا: إن كاد هذا الرسول ليضلنا: ليصرفنا عن آلهتنا فنترك عبادتها، وإن هنا هي المخففة، وضمير الشأن محذوف: أي إنه كاد أن يصرفنا عنها "لولا أن صبرنا عليها" أي حسبنا أنفسنا على عبادتها، ثم إنه سبحانه أجاب عليهم فقال: "وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً" أي حين يرون عذاب يوم القيامة الذي يستحقونه ويستوجبونه بسبب كفرهم من هو أضل سبيلاً: أي أبعد طريقاً عن الحق والهدى، أهم أم المؤمنون؟ ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع الهوى.

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا

فقال معجباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم 43- "أرأيت من اتخذ إلهه هواه" قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول علمت منطلقاً زيداً: أي أطاع هواه طاعة كطاعة الإله: أي انظر إليه يا محمد وتعجب منه. قال الحسن: معنى الآية لا يهوى شيئاً إلا اتبعه "أفأنت تكون عليه وكيلاً" الاستفهام للإنكار والاستبعاد: أي أفأنت تكون عليه حفيظاً وكفيلاً حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من الكفر، ولست تقدر على ذلك ولا تطيقه، فليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، وإنما عليك البلاغ. وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بآية القتال. ثم انتقل سبحانه من الإنكار الأول إلى إنكار آخر.

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا

فقال: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون" أي أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من آيات القرآن ومن المواعظ، أو يعقلون معاني ذلك ويفهمونه حتى تعتني بشأنهم وتطمع في إيمانهم، وليسوا كذلك، بل هم بمنزلة من لا يسمع ولا يعقل. ثم بين سبحانه حالهم وقطع مادة الطمع فيهم فقال: "إن هم إلا كالأنعام" أي ما هم في الانتفاع بما يسمعونه إلا كالبهائم التي هي مسلوبة الفهم والعقل فلا تطمع فيهم، فإن فائدة السمع والعقل مفقودة، وإن كانوا يسمعون ما يقال لهم ويعقلون ما يتلى عليهم، ولكنهم لما لم ينتفعوا بذلك كانوا كالفاقد له. ثم أضرب سبحانه عن الحكم عليهم بأنهم كالأنعام إلى ما هو فوق ذلك فقال: "بل هم أضل سبيلاً" أي أضل من الأنعام طريقاً. قال ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل إنما كانوا أضل من الأنعام، لأنه لا حساب عليها ولا عقاب لها، وقيل إنما كانوا أضل لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عناداً ومكابرةً وتعصباً وغمطاً للحق. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً" قال: عوناً وعضداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فدمرناهم تدميراً" قال: أهلكناهم بالعذاب. وأخرج ابن جرير عنه قال: الرس قوية من ثمود. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الرس بئر بأذربيجان، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس أنه سأل كعباً عن أصحاب الرس قال: صاحب يس الذي "قال يا قوم اتبعوا المرسلين" فرسه قومه في بئر بالأحجار. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود، وذلك أن الله بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا ذلك الأسود، ثم إن أهل القرية غدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم، فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه فيشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي به إلى تلك البئر، فيرفع تلك الصخرة فيعينه الله عليها، فيدلي طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت، فكان كذلك ما شاء الله أن يكون، ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب على أذنه سنين نائماً، ثم إنه ذهب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه ذهب فاحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع، ثم ذهب إلى الحفرة في موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه فيه بد فاستخرجوه فآمنوا به وصدقوه، وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون ما ندري حتى قبض ذلك النبي، فأهب الله الأسود من نومته بعد ذلك، إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة". قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراجه: وفيه غرابة ونكارة، ولعل فيه إدراجاً انتهى. الحديث أيضاً مرسل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زرارة بن أوفى قال: القرن مائة وعشرون عاماً. وأخرج هؤلاء عن قتادة قال: القرن سبعون سنة. وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة قال: القرن مائة سنة. وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القرن مائة سنة، وقال خمسون سنة، وقال القرن أربعون سنة". وما أظنه يصح شيء من ذلك وقد سمى الجماعة من الناس قرناً كما في الحديث الصحيح "خير القرون قرني". وأخرج الحاكم في الكنى عن ابن عباس قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك، ثم يقول: كذب النسابون. قال الله: "وقروناً بين ذلك كثيراً" ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "ولقد أتوا على القرية" قال: هي سدوم قرية لوط "التي أمطرت مطر السوء" قال: الحجارة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه" قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه رمى به وعبد الآخر، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال: ذلك الكافر لا يهوى شيئاً إلا اتبعه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا

لما فرغ سبحانه من ذكر جهالة الجاهلين وضلالتهم أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الإنعام، فأولها الاستدلال بأحوا الظل فقال: 45- "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل" هذه الرؤية إما بصرية، والمراد بها ألم تبصر إلى صنع ربك، أو ألم تبصر إلى الظل كيف مده ربك، وإما قلبية بمعنى العلم، فإن الظل متغير، وكل متغير حادث، ولكل حادث موجد. قال الزجاج "ألم تر" ألم تعلم، وهذا من رؤية القلب. قال: وهذا الكلام على القلب، والتقدير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك: يعني الظل من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس وهو ظل لا شمس معه، وبه قال الحسن وقتادة. وقيل هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها. قال أبو عبيدة: الظل بالغداة الفيء بالعشي، لأنه يرجع بعد زوال الشمس، سمي فيئاً لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل انتهى. وحقيقة الظل أنه أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهذا المتوسط هو أعدل من الطرفين، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس، والضوء الكامل لقوته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين، ولذلك وصفت الجنة به بقوله "وظل ممدود" وجملة "ولو شاء لجعله ساكناً" معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه: أي شاء لمنع الشمس الطلوع، والأول أولى. والتعبير بالسكون عن الإقامة والاستقرار سائغ، ومنه قولهم: سكن فلان بلد كذا: إذا أقام به واستقر فيه. وقوله: "ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً" معطوف على قوله: مد الظل داخل في حكمه: أي جعلناها علامة يستدل بها بأحوالها ويمتد ويتقلص.

ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا

وقوله: "ثم قبضناه" معطوف أيضاً على مد داخل في حكمه. والمعنى: ثم قبضنا ذلك الظل الممدود ومحوناه عند إيقاع شعاع الشمس موقعه بالتدريج حتى انتهى ذلك الإظلال إلى العدم والاضمحلال. وقيل المراد في الآية قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه. وهي الأجرام النيرة، والأول أولى. والمعنى: أن الظل يبقى في هذا الجو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضاً وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس، فأشرقت على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما فيه بقية نور النهار، وقال قوم: قبضه بغروب الشمس، لأنها إذا لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل المعنى: ثم قبضنا ضياء الشمس بالفيء "قبضاً يسيراً" ومعنى إلينا: أن مرجعه إليه سبحانه كما أن حدوثه منه قبضاً يسيراً: أي على تدريج قليلاً قليلاً بقدر ارتفاع الشمس، وقيل يسيراً سريعاً، وقيل المعنى يسيراً علينا: أي يسيراً قبضه علينا ليس بعسير.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا

47- "وهو الذي جعل لكم الليل لباساً" شبه سبحانه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. قال ابن جرير: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث أنه يستر الأشياء ويغشاها، واللام متعلقة بجعل "والنوم سباتاً" أي وجعل النوم سباتاً: أي راحة لكم لأنكم تنقطعون عن الاشتغال، وأصل السبات التمدد: يقال سبتت المرأة شعرها: أي نقضته وأرسلته، ورجل مسبوت: أي ممدود الخلقة. وقيل للنوم ثبات، لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل السبت القطع، فالنوم انقطاع عن الاشتغال، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الاشتغال. قال الزجاج: السبات النوم، وهو أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه: أي جعلنا نومكم راحة لكم. وقال الخليل: السبات نوم ثقيل: أي جعلنا نومكم ثقيلاً ليكمل الإجمام والراحة ‌"وجعل النهار نشوراً" أي زمان بعث من ذلك السبات، شبه اليقظة بالحياة كما شبه النوم بالسبات الشبيه بالممات. وقال في الكشاف: إن السبات الموت، واستدل على ذلك بكون النشور في مقابلته.

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا

48- " وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " قرئ "الريح" وقرئ "بشراً" بالباء الموحدة وبالنون، وقدم تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في الأعراف "وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً" أي يتطهر به كما يقال وضوء للماء الذي يتوضأ به. قال الأزهري: الطهور في اللغة الطاهر المطهر، والطهور ما يتطهر به. قال ابن الأنباري: الطهور بفتح الطاء الاسم، وكذلك الوضوء والوقود، وبالضم المصدر، هذا هو المعروف في اللغة، وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر، ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: الطهور هو الطاهر، واستدل لذلك بقوله تعالى: "وسقاهم ربهم شراباً طهوراً" يعني طاهراً، ومنه قول الشاعر: خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها قلبي علي فجور‌‌‌ إلى رجح الأكفال غيد من الظبى عذاب الثنايا ريقهن طهور فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر، ورجح القول الأول ثعلب. وهو راجح لما تقدم من حكاية الأزهري لذلك عن أهل اللغة. وأما وصف الشاعر للريق بأنه طهور، فهو على طريق المبالغة، وعلى كل حال فقد ورد الشرع بأن الماء طاهر في نفسه مطهر لغيره، قال الله تعالى: "وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلق الماء طهوراً"أولثم ذكر سبحانه علة الإنزال.

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا

فقال: 49- "لنحيي به" أي بالماء المنزل من السماء "بلدة ميتاً" وصف البلدة بميتاً، وهي صفة للمذكر لأنه بمعنى البلد. وقال الزجاج: أراد بالبلد المكان، والمراد بالأحياء هنا إخراج النبات من المكان الذي لا نبات فيه "ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً" أي نسقي ذلك الماء، قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيان وابن أبي عبلة بفتح النونو من نسقيه وقرأ الباقون بضمها، و من في مما خلقنا للابتداء، وهي متعلقة بنسقيه، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال، والأنعام قد تقدم الكلام عليها، والأناسي جمع إنسان على ما ذهب إليه سيبويه. وقال الفراء والمبرد والزجاج: إنه جمع إنسي، وللفراء قول آخر: إنه جمع إنسان، والأصل أناسين مثل سرحان وسراحين وبستان وبساتين، فجعلوا الباء عوضاً من النون.

وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا

50- "ولقد صرفناه بينهم ليذكروا" ضمير صرفناه ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من الدلائل: أي كررنا أحوال الإظلال، وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا "فأبى أكثر الناس" هم إلا كفران النعمة وجحدها. وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر: أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة، فنزيد في بعض البلدان وننقص في بعض آخر منها، وقيل الضمير راجع إلى القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة حيث قال: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده". وقوله: "لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني" وقوله " اتخذوا هذا القرآن مهجورا " والمعنى : ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به ويعتبروا بما فيه، فأبى أكثرهم "إلا كفوراً" به، وقيل هو راجع إلى الريح، وعلى رجوع الضمير إلى المطر، فقد اختلف في معناه، فقيل ما ذكرناه. وقيل صرفناه بينهم وابلاً وطشاً وطلاً ورذاذاً، وقيل تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات. قال عكرمة: إن المراد بقوله: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " هو قولهم: في الأنواء مطرنا بنوء كذا. وقرأ عكرمة صرفناه مخففاً، وقرأ الباقون بالتثقيل. وقرأ حمزة والكسائي "ليذكروا" مخففة الذال من الذكر، وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر.

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا

51- "ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً" أي رسولاً ينذرهم كما قسمنا المطر بينهم، ولكنا لم نفعل ذلك بل جعلنا نذيراً واحداً، وهو أنت يا محمد، فقابل ذلك بشكر النعمة.

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا

52- "فلا تطع الكافرين" فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم، بل اجتهد في الدعوة واثبت فيها والضمير في قوله: "وجاهدهم به جهاداً كبيراً" راجع إلى القرآن: أي جاهدهم بالقرآن واتل عليهم ما فيه من القوارع والزواجر والأوامر والنواهي. وقيل الضمير يرجع إلى الإسلام، وقيل بالسيف، والأول أولى. وهذه السورة مكية، والأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة. وقيل الضمير راجع إلى ترك الطاعة المفهوم من قوله: "فلا تطع الكافرين" وقيل الضمير يرجع إلى ما دل عليه قوله: "ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً" لأنه سبحانه لو بعث في كل قرية نذيراً لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة القرية التي أرسل إليها، وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلى الله عليه وسلم فلا جرم اجتمع عليه كل المجاهدات، فكبر جهاده، وعظم وصار جامعاً لكل مجاهدة، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البعد. ثم ذكر سبحانه دليلاً رابعاً على التوحيد.

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا

فقال: 53- "وهو الذي مرج البحرين" مرج خلى وخلط وأرسل، يقال مرجت الدابة وأمرجتها: إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما إلى الآخر. وقال ابن عرفة: خلطهما فهما يلتقيان، يقال مرجته: إذا خلطته، ومرج الدين والأمر: اختلط واضطرب، ومنه قوله: "في أمر مريج" وقال الأزهري "مرج البحرين" خل بينهما، يقال مرجت الدابة: إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب: المرج الإجراء، فقوله: "مرج البحرين" أي أجراهما. قال الأخفش: ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج، فعل وأفعل بمعنى "هذا عذب فرات" الفرات البليغ العذوبة، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف مرجهما؟ فقيل هذا عذب وهذا ملح، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال. قيل سمي الماء الحلو فراتاً لأنه يفرت العطش: أي يقطعه ويكسره "وهذا ملح أجاج" أي بليغ الملوحة هذا معنى الأجاج، وقيل الأجاج البليغ في الحرارة وقيل البليغ في المرارة، وقرأ طلحة ملح بفتح الميم وكسر اللام "وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً" البرزخ الحاجز والحائل الذي جعله الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمارج، ومعنى "حجراً محجوراً" ستراً مستوراً يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ الحاجز، والحجز المانع. وقيل معنى "حجراً محجوراً" هو ما تقدم من أنها كلمة يقولها المتعوذ كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه، ويقول له هذا القول، وقيل حداً محدوداً. وقيل المراد من البحر العذب الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون، ومن البحر الأجاج البحار المشهورة، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض. وقيل معنى "حجراً محجوراً" حراماً محرماً أن يعذب هذا المالح بالعذب، أو يملح هذا العذب بالمالح، ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن " مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان " ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان والماء.

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا

فقال: 54- "وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً" والمراد بالماء هنا ماء النطفة: أي خلق من ماء النطفة إنساناً فجعله نسباً وصهراً وقيل المراد بالماء الماء المطلق الذي يراد في قوله: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" والمراد بالنسب هو الذي لا يحل نكاحه. قال الفراء والزجاج: واشتقاق الصهر من صهرت الشيء: إذا خلطته، وسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها. وقيل الصهر قرابة النكاح، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار تعمهما، قاله الأصمعي. قال الواحدي. قال المفسرون: النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله: "حرمت عليكم أمهاتكم" إلى قوله: "وأمهات نسائكم" ومن هنا إلى قوله: "وأن تجمعوا بين الأختين" تحريم بالصهر، وهو الخلطة التي تشبه القرابة، حرم الله سبعة أصناف من النسب، سبعة من جهة الصهر، قد اشتملت الآية المذكورة على ستة منها، والسابعة قوله: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" وقد جعل ابن عطية والزجاج وغيرهما الرضاع من جملة النسب، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" "وكان ربك قديراً" أي بليغ القدرة عظيمها، ومن جملة قدرته الباهرة خلق الإنسان وتقسيمه إلى القسمين المذكورين. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل" قال: بعد الفجر قبل أن تطلع الشمس. وأخرج ابن أبي حاتم عنه بلفظ: ألم تر أنك إذا صليت الفجر كان بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً فقبض الظل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: مد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس " ولو شاء لجعله ساكنا "قال : دائما " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " يقول : طلوع الشمس "ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً" قال: سريعاً. وأخرج أهل السنن وأحمد وغيرهم من حديث أبي سعيد قال: "قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء". وفي إسناد هذا الحديث كلام طويل قد استوفيناه في شرحنا على المنتقى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: ما من عام بأقل مطراً من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، ثم قرأ هذه الآية "ولقد صرفناه بينهم ليذكروا" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وجاهدهم به" قال: بالقرآن. وأخرج ابن جرير عنه "هو الذي مرج البحرين" يعني خلط أحدهما على الآخر فليس يفسد العذب المالح وليس يفسد المالح العذب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وحجراً محجوراً" يقول: حجر أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن المغيرة قال: سئل عمر بن الخطاب عن نسباً وصهراً فقال: ما أراكم إلا وقد عرفتم النسب، وأما الصهر: فالأختان والصحابة.

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا

لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار وفضائح سيرتهم فقال 55- " ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم " إن عبدوه "ولا يضرهم" إن تركوه "وكان الكافر على ربه ظهيراً" الظهر المظاهر: أي المعاون على ربه بالشرك والعداوة، والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه. قال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله، لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان. وقال أبو عبيدة: المعنى وكان الكافر على ربه هيناً ذليلاً، من قول العرب ظهرت به: أي جعلته خلف ظهرك لم تلتفت إليه، ومنه قوله: "واتخذتموه وراءكم ظهرياً" أي هيناً، ومنه أيضاً قول الفرزدق: تميم بن بدر لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها وقيل إن المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قوياً غالباً يعمل به ما يشاء، لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع، ويجوز أن يكون الظهير جمعاً كقوله: "والملائكة بعد ذلك ظهير" والمعنى: أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله أو على دين، والمراد بالكافر هنا الجنس، ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافر معين كما قيل إنه أبو جهل.

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا

56- "وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً" أي مبشراً للمؤمنين بالجنة ومنذراً للكافرين بالنار.

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا

57- "قل ما أسألكم عليه من أجر" أي قل لهم يا محمد: ما أسألكم على القرآن من أجر، أو على تبليغ الرسالة المدلول عليه بالإرسال، والاستثناء في قوله: "إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً" منقطع: أي لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً فليفعل، وقيل هو متصل. والمعنى: إلا من شاء أن يتقرب إليه سبحانه بالطاعة وصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الحصول. ولما بين سبحانه أن الكفار متظاهرون على رسول الله، وأمره أن لا يطلب منهم أجراً ألبتة، أمره أن يتوكل عليه في دفع المضار وجلب المنافع.

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا

فقال: 58- "وتوكل على الحي الذي لا يموت" وخص صفة الحياة إشارة إلى أن الحي هو الذي يوثق به في المصالح، ولا حياة على الدوام إلا لله سبحانه دون الأحياء المنقطعة حياتهم فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم، والتوكل اعتماد العبد على الله في كل الأمور "وسبح بحمده" أي نزهه عن صفات النقصان، وقيل معنى سبح صل، والصلاة تسمى تسبيحاً "وكفى به بذنوب عباده خبيراً" أي حسبك، وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك: كفى بالله رباً، والخبير المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء، ثم زاد في المبالغة.

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا

فقال: 59- "الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش" قد تقدم تفسير هذا في الأعراف، والموصول في محل جر على أنه صفة للحي، وقال بينهما ولم يقل بينهن لأنه أراد النوعين، كما قال القطامي: ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباتتا انقطاعا فإن قيل يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات والأرض كما تفيده ثم، فيقال إن كلمة ثم لم تدخل على خلق العرش بل على رفعه على السموات والأرض، و الرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو صفة أخرى للحي، وقد قرأ الجمهور بالرفع، وقيل يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في ساتوى، أو يكون مبتدأ وخبره الجملة: أي فاسأل، على رأي الأخفش، كما في قول الشاعر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم وقرأ زيد بن علي الرحمن بالجر على أنه نعت للحي أو للموصول "فاسأل به خبيراً" الضمير في به يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش. والمعنى: فاسأل بتفاصيل ما ذكر إجمالاً من هذه الأمور. وقال الزجاج والأخفش: الباء بمعنى عن: أي فاسأل عنه، كقوله: "سأل سائل بعذاب واقع"، وقول امرئ القيس: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلم وقال امرؤ القيس: فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب والمراد بالخبير الله سبحانه لأنه يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، ومن هذا قول العرب: لو لقيت فلاناً للقيك به الأسد: أي للقيك بلقائك أياه الأسد، فخبيراً منتصب على المفعولية، أو على الحال المؤكدة، واستضعف الحالية أبو البقاء فقال: يضعف أن يكون خبيراً حالاً من فاعل اسأل، لأن الخبير لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله: "وهو الحق مصدقاً" قال: ويجوز أن يكون حالاً من الرحمن إذا رفعته باستوى. وقال ابن جرير: يجوز أن تكون الباء في به زائدة. والمعنى: فاسأله حال كونه خبيراً. وقيل قوله به يجري مجرى القسم كقوله: "واتقوا الله الذي تساءلون به" والوجه الأول أقرب هذه الوجوه، ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم جهلوا معنى الرحمن.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا

فقال: 60- "وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن" قال المفسرون: إنهم قالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسلمة. قال الزجاج: الرحمن اسم من أسماء الله، فلما سمعوه أنكروا فقالوا وما الرحمن "أنسجد لما تأمرنا" والاستفهام للإنكار: أي لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له، ومن قرأ بالتحتية فالمعنى: أنسجد لما يأمرنا محمد بالسجود له. وقد قرأ المدنيون والبصريون "لما تأمرنا" بالفوقية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بالتحتية. قال أبو عبيد: يعنون الرحمن. قال النحاس: وليس يجب أن يتأول على الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم اسجدوا لما يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فتصبح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين "وزادهم نفوراً" أي زادهم الأمر بالسجود نفوراً على الدين وبعد عنه، وقيل زادهم ذكر الرحمن تباعداً من الإيمان، كذا قال مقاتل، والأول أولى. ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن.

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا

فقال: 61- "تبارك الذي جعل في السماء بروجاً" المراد بالبروج بروج النجوم: أي منازلها الإثنا عشر، وقيل هي النجوم الكبار، والأول أولى. وسميت بروجاً، وهي القصور العالية لأنها للكواكب كالمنازل الرفيعة لمن يسكنها، واشتقاق البرج من التبرج، وهو الظهور "وجعل فيها سراجاً" أي شمساً، ومثله قوله تعالى: " وجعل الشمس سراجا " وقرأ الجمهور "سراجاً" بالإفراد. وقرأ حمزة والكسائي " سراجا " بالجمع: أي النجوم العظام الوقادة، ورجح القراءة الأولى أبو عبيد. قال الزجاج: في تأويل قراءة حمزة والكسائي اراد الشمس والكواكب "وقمراً منيراً" أي ينير الأرض إذا طلع، وقرأ الأعمش قمراً بضم القاف وإسكان الميم، وهي قراءة ضعيفة شاذة.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا

62- "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة" قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء: الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة لليل، لأن أحدهما يخلف الآخر ويأتي بعده، ومنه خلفة النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم قال الفراء في تفسير الآية: يقول يذهب هذا ويجيء هذا، وقال مجاهد: خلفة من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود. وقيل يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان. وقيل هو من باب حذف المضاف: أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة: أي اختلاف "لمن أراد أن يذكر" قال حمزة مخففاً، وقرأ الجمهور بالتشديد، فالقراءة الأولى من الذكر لله، والقراءة الثانية من التذكر له. وقرأ أبي بن كعب يتذكر ومعنى الآية: أن المتذكر المعتبر إذا نظر في اختلاف الليل والنهار علم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال من ناقل "أو أراد شكوراً" أي اراد أن يشكر الله على ما أودعه في الليل والنهار من النعم العظيمة والألطاف الكثيرة. قال الفراء: ويذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد. قال الله تعالى "واذكروا ما فيه" وفي حرف عبد الله ويذكروا ما فيه.

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا

63- "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً" هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه، وعباد الرحمن مبتدأ وخبره الموصول مع صلته، والهون مصدر، وهو السكينة والوقار. وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق بيمشون: أي يمشون على الأرض مشياً هوناً. قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هوناً مناسبة لمشيه، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لأنه رب ماش هوناً رويداً وهو ذئب أطلس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه فلا يجهلون مع من يجهل ولا يسافهون أهل السفه. قال النحاس: ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم تقول العرب سلاماً: أي تسلماً منك: أي براءة منك، منصوب على أحد أمرين: إما على أنه مصدر لفعل محذوف: أي قالوا سلمنا سلاماً، وهذا على قول سيبويه، أو على أنه مفعول به: أي قالوا هذا اللفظ، ورجحه ابن عطية. وقال مجاهد: معنى سلاماً سداداً: أي يقول للجاهل كلاماً يدفعه برفق ولين. قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على قوله تسليماً منكم ولا خير ولا شر بيننا وبينكم. قال المبرد: كان ينبغي أن يقال لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم، ثم أمروا بحربهم. وقال محمد بن يزيد: أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، لأنه قال في آخر كلامه فنسختها آية السيف. وأقول: هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه ومشى في غير طريقته، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين ولا نهوا عنه، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، فلا حاجة إلى دعوى النسخ. قال النضر بن شميل: حدثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله "ثم استوى إلى السماء" قال: فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن هجير؟ فقلنا الساعة فارقناه، فقال: سلاماً، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر. قال الخليل: هو من قول الله "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً".

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا

64- "والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً" البيتوتة: هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم. قال الزجاج: من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم، كما يقال: بات فلان قلقاً، والمعنى: يبيتون لربهم سجداً على وجوههم، وقياماً على أقدامهم، ومنه قوله امرئ القيس: فبتنا قياماً عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا

"والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً" أي هم مع طاعتهم مشفقون وجلون خائفون من عذابه، والغرام اللازم الدائم، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا: أي ملازم له مولع به، هذا معناه في كلام العرب، كما ذكره ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما، ومنه قول الأعشى: إن يعاقب يكن غراماً وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال أبو عبيدة: هو الهلاك. وقال ابن زيد: الشر.

إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا

وجملة 66- "إنها ساءت مستقراً ومقاماً" تعليل لما قبلها، والمخصوص محذوف: أي هي، وانتصاب مستقراً على الحال أو التمييز، وكذا مقاماً، قيل هما مترادفان، وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما، وقيل بل هما مختلفان معنى: فالمستقر للعصاة فإنهم يخرجون، والمقام للكفار فإنهم يخلدون، وساءت من أفعال الذم كبئست، ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه، ويجوز أن يكون حكاية لكلامهم. ثم وصف سبحانه بالتوسط في الإنفاق.

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا

فقال: 67- "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب "يقتروا" بفتح التحتية وضم الفوقية، من قتر يقتر كقعد يقعد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية، وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية وكسر الفوقية. قال أبو عبيدة: يقال قتر الرجل على عياله يقتر ويقتر قتراً، وأقتر يقتر إقتاراً، معنى الجميع: التضييق في الإنفاق. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى الآية: إن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. وقال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعري، ولا ينفق نفقة، يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: أولئك أصحاب محمد كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة الله، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد. وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا كقوله: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" قرأ حسان بن عبد الرحمن "وكان بين ذلك قواماً" بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها، فقيل هما بمعنى، وقيل القوام بالكسر: ما يدوم عليه الشيء ويستقر، وبالفتح: العدل والاستقامة، قاله ثعلب. وقيل بالفتح: العدل بين الشيئين، وبالكسر: ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص. وقيل بالكسر: السداد والمبلغ، واسم كان مقدر فيها: أي كان إنفاقهم بين ذلك وتبنى بين على الفتح لأنها من الظروف المفتوحة. وقال النحاس: ما أدري ما وجه هذا، لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " وكان الكافر على ربه ظهيرا " يعني أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "قل ما أسألكم عليه من أجر" قال: قل لهم يا محمد: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر، يقول عرض من عرض الدنيا. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عنه أيضاً في قوله: "تبارك الذي جعل في السماء بروجاً" قال: هي هذه الإثنا عشر برجاً: أولها: الحمل، ثم الثور، ثم الجوزاء، ثم السرطان، ثم الأسد، ثم السنبلة، ثم الميزان، ثم العقرب، ثم القوس، ثم الجدي، ثم الدلو، ثم الحوت. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة" قال: أبيض وأسود. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً يقول: ما فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار: ومن النهار أدركه بالليل. وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن الحسن أن عمر أطال صلاة الضحى، فقيل له صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، فقال: إنه بقي علي من وردي شيء فأحببت أن أتمه، أو قال أقضيه، وتلا هذه الآية "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعباد الرحمن" قال: هم المؤمنون "الذين يمشون على الأرض هوناً" قال: بالطاعة والعفاف والتواضع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال "هوناً" علماً وحلماً. وأخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن عذابها كان غراماً" قال: الدائم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله.

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا

قوله: 68-"والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي فقال: والذين لا يدعون مع الله سبحانه رباً من الأرباب. والمعنى: لا يشركون به شيئاً، بل يوحدونه ويخلصون له العبادة والدعوة "ولا يقتلون النفس التي حرم الله" أي حرم قتلها "إلا بالحق" أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس "ولا يزنون" أي يستحلون الفروج المحرمة بغير نكاح، ولا ملك يمين "ومن يفعل ذلك" أي شيئاً مما ذكر "يلق" في الآخرة "أثاماً" والأثام في كلام العرب العقاب. قال الفراء: آثمه الله يؤثمه أثاماً وآثاماً: أي جازاه جزاء الإثم. وقال عكرمة ومجاهد: إن أثاماً واد في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة. وقال السدي: جبل فيها. وقرىء يليق بضم الياء وتشديد القاف. قال أبو مسلم: والأثام والإثم واحد، والمراد هنا جزاء الآثام فأطلق اسم الشيء على جزائه.

يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا

وقرأ الحسن يلق أياماً جمع يوم: يعني شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام، وما أظن هذه القراءة تصح عنه 69-"يضاعف له العذاب" قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي "يضاعف" "ويخلد" بالجزم، وقرأ ابن كثير " يضاعف " بتشديد العين وطرح الألف والجزم، وقرأ طلحة بن سليمان نضعف بضم النون وكسر العين المشددة والجزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بالفوقية خطاباً للكافر. وروي عن أبي عمر أنه قرأ ويخلد بضم الياء التحتية وفتح اللام. قال أبو علي الفارسي وهي غلط من جهة الرواية، ووجه الجزم في يضاعف أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى، ومثله قول الشاعر: إن علي الله أن تبايعا تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعا والضمير في قوله: "يخلد فيه" راجع إلى العذاب المضاعف: أي يخلد في العذاب المضاعف "مهاناً" ذليلاً حقيراً.

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

70-"إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً" قيل هو استثناء متصل، وقيل منقطع. قال أبو حيان: لا يظهر الاتصال لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير: إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف. قال: والأولى عندي أن تكون منقطعاً: أي لكن من تاب. قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين. وقد تقدم بيانه في النساء والمائدة، والإشارة بقوله: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" إلى المذكورين سابقاً، ومعنى تبديل السيئات حسنات أنه يمحو عنهم المعاصي ويثبت لهم مكانها طاعات. قال النحاس: من أحسن ما قيل في ذلك أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدل الله لهم إيماناً مكان الشرك، وإخلاصاً من الشك، وإحصاناً من الفجور. قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة. وقيل إن السيئات تبدل بحسنات، وبه قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم. وقيل التبديل عبارة عن الغفران: أي يغفر الله لهم تلك السبئات، لا أن يبدلها حسنات، وقيل المراد بالتبديل: أن يوفقه لأضداد ما سلف منه "وكان الله غفوراً رحيماً" هذه الجملة مقررة لما قبلها من التبديل .

وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا

71-"ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً" أي من تاب عما اقترف وعمل عملاً صالحاً بعد ذلك، فإنه يتوب بذلك إلى الله متاباً: أي يرجع إليه رجوعاً صحيحاً قوياً. قال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: "إلا من تاب وآمن" ثم عطف عليه من تاب من المسلمين وأتبع توبته عملاً صالحاً، فله حكم التائبين أيضاً. وقيل أي من تاب بلسانه ولم يحقق التوبة بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحاً فحقق توبته بالأعمال الصالحة، فهو الذي تاب إلى الله متاباً: أي تاب حق التوبة، وهي النصوح، ولذلك أكد بالمصدر، ومعنى الآية: من أراد التوبة وعزم عليها فليتب إلى الله، فالخبر في معنى الأمر كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء فإنه لا يقال ممن تاب فإنه يتوب ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات.

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا

فقال: 72- "والذين لا يشهدون الزور" أي لا يشهدون الشهادة الكاذبة، أو لا يحضرون الزور والزور، هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين. قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب ولا كذب فوق الشرك بالله. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الزور هاهنا بمعنى الشرك. والحاصل أن يشهدون إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف: أي لا يشهدون شهادة الزور وإن كان من الشهود الحضور كما ذهب إليه الجمهور فقد اختلفوا في معناه، فقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم وقال محمد بن الحنفية لا يحضرون اللهو والغناء وقال ابن جريح: الكذب. وروي عن مجاهد أيضاً والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور، بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائناً من كان " وإذا مروا باللغو مروا كراما " أي معرضين عنه غير ملتفتين إليه، واللغوا كل ساقط من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها، وقيل المراد مروا بذوي اللغو، يقال: فلان يكرم عما يشينه: أي يتنزه ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله.

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا

73- "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم" أي بالقرآن، أو بما فيه موعظة وعبرة "لم يخروا عليها صماً وعمياناً" أي لم يقعوا عليها حال كونهم صماً وعمياناً، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين وانتفعوا بها. قال ابن قتيبة: المعنى لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يبصروها. قال ابن جرير: ليس ثم خرور، بل كما يقال قعد يبكي، وإن كان غير قاعد. قال ابن عطية: كأن المستمع للذكر قائم، فإذا أعرض عنه كان ذلك خروراً، وهو السقوط على غير نظام. قيل المعنى: إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، فخروا سجداً وبكياً، ولم يخروا عليها صماً وعمياناً. قال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا. قال في الكشاف: ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد.

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا

74- "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" من ابتدائية، أو بيانية. قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن "وذرياتنا" بالجمع وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى " وذرياتنا " بالإفراد، والذرية تقع على الجمع، كما في قوله: "ذرية ضعافاً" وتقع على الفرد كما في قوله: ذرية طيبة، وانتصاب قرة أعين على المفعولية، يقال قرت عينه قرة. قال الزجاج: يقال أقر الله عينك: أي صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال: أحدها برد دمعها، لأنه دليل السرور والضحك كما أن حرة دليل الحزن والغم. والثاني نومها، لأنه يكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن. والثالث حصول الرضى "واجعلنا للمتقين إماماً" أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وإنما قال: إماماً، ولم يقل أئمة، لأنه أريد به الجنس: كقوله: "ثم نخرجكم طفلاً" قال الفراء: قال إماماً، ولم يقل أئمة، كما قال للاثنين "إنا رسول رب العالمين" يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع. وقال الأخفش: الإمام جمع أم من أم يأم، جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام. وقيل إن إماماً مصدر، يقال أم فلان فلاناً إماماً، مثل الصيام والقيام. وقيل أرادوا: اجعل كل واحد منا إماماً، وقيل أرادوا: اجعلنا إماماً واحداً لاتحاد كلمتنا، وقيل إنه من الكالم المقلوب، وأن المعنى: واجعل المتقين لنا إماماً، وبه قال مجاهد. وقيل إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد، وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماماً، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" وفي هذا إبقاء إماماً على حاله، ومثل ما في الآية قول الشاعر: يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي إن العواذل ليس لي بأمين أي أمناء. قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل: اجعلنا حجة للمتقين، ومثله البينة: يقال هؤلاء بينة فلان. قال النيسابوري: قيل في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب ويرغب فيها، والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم.

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا

والإشارة بقوله: 75- "أولئك يجزون الغرفة بما صبروا" إلى المتصفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجمل مستأنفة. وقيل إن أولئك وما بعده خبر لقوله: "وعباد الرحمن" كذا قال الزجاج، والغرفة: الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، وهي في الأصل لكل بناء مرتفع، والجمع غرف. وقال الضحاك: الغرفة الجنة، والباء في بما صبروا سببية، وما مصدرية: أي يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف "ويلقون فيها تحية وسلاماً" قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "يلقون" بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختار هذه القراءة الفراء، قال: لأن العرب تقول: فلان يلقي بالسلام والتحية والخير، وقل ما يقولون يلقي. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: "ولقاهم نضرة وسروراً" والمعنى: أنه يحيي بعضهم بعضاً ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام، قيل التحية البقاء الدائم والملك العظيم، وقيل هي بمعنى السلام، وقيل إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم، والظاهر أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم، ومن ذلك قوله سبحانه: "تحيتهم يوم يلقونه سلام" وقيل معنى التحية: الدعاء لهم بطول الحياة. ومعنى السلام: الدعاء لهم بالسلامة من الآفات.

خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا

وانتصاب 76- "خالدين فيها" على الحال: أي مقيمين فيها من غير موت "حسنت مستقراً ومقاماً" أي حسنت الغرفة مستقراً يستقرون فيه، ومقاماً يقيمون به، وهذا في مقابل ما تقدم من قوله: "ساءت مستقراً ومقاماً".

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا

77- "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم" بين سبحانه أنه غني عن طاعة الكل، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف، يقال ما عبأت بفلان: أي ما باليت به ولا له عندي قدر، وأصل يعبأ من العبء، وهو الثقل. قال الخليل: ما أعبأ بفلان: أي ما أصنع به، كأنه يستقله ويستحقره، ويدعي أن وجوده وعدمه سواء، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: ما يعبأ بكم ربي يريد: أي وزن يكون لكم عنده. والعبء: الثقل عندي أن موضع ما نصب والتقدير: أي: عبء يعبأبكم أي: أي مبالاة يبالي بكم "لولا دعاؤكم": أي لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه، وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار الفراء، وفاعله محذوف، وجواب لولا محذوف: تقديره لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم، ويؤيد هذا قوله: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" والخطاب لجميع الناس، ثم خص الكفار منهم فقال "فقد كذبتم" وقرأ ابن الزبير فقد كذب الكافرون وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس. وقيل إن المصدر مضاف إلى الفاعل: أي لولا استغاثتكم إليه في الشدائد. وقيل المعنى: ما يعبأ بكم: أي بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي والفارسي قالا: والأصل لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال بأن الدعاء محذوف تقديره على هذا الوجه: لولا دعاؤكم لم يعذبكم، ويكون معنى فقد كذبتم على الوجه الأول فقد كذبتم بما دعيتم إليه، وعلى الوجه الثاني: فقد كذبتم بالتوحيد. ثم قال سبحانه "فسوف يكون لزاماً" أي فسوف يكون جزاء التكذيب لازماً لكم، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا: ما لزم المشركين يوم بدر، وقالت طائفة: هو عذاب الآخرة. قال أبو عبيدة: لزاماً فيصلاً: أي فسوف فيصلاً بينكم وبين المؤمنين. قال الزجاج: فسوف يكون تكذيبكم لزاماً يلزمكم فلا تعطون التوبة، وجمهور القراء على كسر اللام من لزاماً، وأنشد أبو عبيدة لصخر: فاما ينجوا من خسف أرض فقد لقيا حتوفهما لزاما قال ابن جرير لزاماً: عذاباً دائماً وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم ببعض، كقول أبي ذؤيب: ففاجأه بعادية لزام كما يتفجر الحوض اللفيف يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضاً، وباللفيف المتساقط من الحجارة المنهدمة. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال: سمعت أبا السماك يقرأ لزاماً بفتح اللام. قال أبو جعفر يكون مصدر لزم، والكسر أولى. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك"، فأنزل الله تصديق ذلك "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون". وأخرجا وغيرهما أيضاً عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت "والذين لا يدعون" الآية، ونزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله: "يلق أثاماً" قال: واد في جهنم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الآية اشتد ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك، ثم نزلت هذه الآية " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً" ثم نزلت "إلا من تاب وآمن" فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها، وفرحه بـ "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" قال: هم المؤمنون الذين كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وأخرج أحمد وهناد وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى الرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا كذا، وهو يقر، ليس ينكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فيقال: أعطوه بكل سيئة عملها حسنة" والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها بالحسنات كثيرة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين لا يشهدون الزور" قال: إن الزور كان صنماً بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مروا به مروا كراماً لا ينظرون إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" قال: يعنون من يعمل بالطاعة فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة "واجعلنا للمتقين إماماً" قال: أئمة هدىً يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة، لأنه قال لأهل السعادة "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا" ولأهل الشقاوة "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار". وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أولئك يجزون الغرفة" قال: الغرفة من ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء، أو درة بيضاء، ليس فيها فصم ولا وصم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم" يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذا لم يخلقهم مؤمنين. ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين "فسوف يكون لزاماً" قال: موتاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه أنه كان يقرأ -فقد كذب الكافرون، فسوف يكون لزاماً- وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه "فسوف يكون لزاماً" قال: القتل يوم بدر، وفي الصحيحين عنه قال: خمس قد مضين: الدخان والقمر واللزوم والبطشة واللزام.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس