islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
14253

22-الحج

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ

وهي ثمان وسبعون آية. اختلف أهل العلم، هل هي مكية أو مدينة؟ فأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحج بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال: نزل بالمدينة من القرآن الحج غير أربع آيات مكيات " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " إلى "عذاب يوم عقيم" وحكى القرطبي عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات وقيل أربع آيات إلى قوله "عذاب الحريق". وحكي عن النقاش أنه نزل بالمدينة منها عشر آيات. قال القرطبي وقال الجمهور: إن السورة مختلطة، منها مكي، ومنها مدني. قال: وهذا هو الصحيح. قال العزيزي: وهي من أعاجيب السور نزلت ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، مكياً ومدنياً، سلمياً وحربياً، ناسخاً ومنسوخاً، محكماً ومتشابهاً. وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر قال "قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما". قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بالقوي. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي عن خالد بن معدان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيهقي عن عمر أنه كان يسجد سجدتين في الحج وقال: إن هذه السورة فضلت على سائر القرآن بسجدتين. وقد روي عن كثير من الصحابة أن فيها سجدتين، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم: إن فيها سجدة واحدة، وهو قول سفيان الثوري، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وإبراهيم النخعي. لما انجر الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها، بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثاً على التقوى التي هي أنفع زاد فقال: 1- "يا أيها الناس اتقوا ربكم" أي احذروا عقابه بفعل ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات، ولفظ الناس يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن سيوجد على ما تقرر في موضعه، وقد قدمنا طرفاً من تحقيق ذلك في سورة البقرة، وجملة "إن زلزلة الساعة شيء عظيم" تعليل لما قبلها من الأمر بالتقوى، والزلزلة شدة الحركة، وأصلها من زل عن الموضع: أي زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه: أي حركها، وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، وهي على هذا: الزلزلة التي هي أحد أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور، وقيل إنها تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، وقيل إن المصدر هنا مضاف إلى الظرف، وهو الساعة إجراءً له مجرى المفعول، أو بتقدير في كما في قوله: "بل مكر الليل والنهار" وهي المذكورة في قوله: "إذا زلزلت الأرض زلزالها" قيل وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها.

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ

2- "يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت" انتصاب الظرف بما بعده، والضمير يرجع إلى الزلزلة: أي وقت رؤيتكم لها تذهل كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه. قال قطرب: تذهل تشتغل، وأنشد قول الشاعر: ضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله وقيل تنسى، وقيل تلهو، وقيل تسلو، وهذه معانيها متقاربة. قال المبرد: إن ما فيما أرضعت بمعنى المصدر: أي تذهل عن الإرضاع، قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع، إلا أن يقال: من ماتت حاملاً فتضع حملها للهول، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ويقال هذا مثل كما يقال: "يوماً يجعل الولدان شيباً" وقيل يكون من النفخة الأولى، قال: ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة، كما في قوله "مستهم البأساء والضراء وزلزلوا" ومعنى "وتضع كل ذات حمل حملها" أنها تلقي جنينها لغير تمام من شدة الهول، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك "وترى الناس سكارى" قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاب لكل واحد: أي يراهم الرائي كأنهم سكارى "وما هم بسكارى" حقيقة، قرأ حمزة والكسائي " سكارى " بغير ألف، وقرأ الباقون بإثباتها وهما لغتان يجمع بهما سكران، مثل كسلى وكسالى، ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال: "ولكن عذاب الله شديد" فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم، واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك وقرئ وترى بضم التاء وفتح الراء مسنداً إلى المخاطب من أرأيتك: أي تظنهم سكارى. قال الفراء ولهذه القراءة وجه جيد في العربية.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ

ثم لما أراد سبحانه أن يحتج على على منكري البعث قدم قبل ذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال: 3- "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم" وقد تقدم إعراب مثل هذا التركيب في قوله: "ومن الناس من يقول" ومعنى في الله في شأن الله وقدرته، ومحل بغير علم النصب على الحال. والمعنى: أنه يخاصم في قدرة الله فيزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم يعلمه، ولا حجة يدلي بها "ويتبع" فيما يقوله ويتعاطاه ويحتج به ويجادل عنه "كل شيطان مريد" أي متمرد على الله وهو العاتي، سمي بذلك لخلوه عن كل خير، والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. وقال الواحدي: قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث وكان كثير الجدال، وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.

كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ

4- " كتب عليه أنه من تولاه " أي كتب على الشيطان، وفاعل كتب أنه من تولاه، والضمير للشأن: أي من اتخذ ولياً " فأنه يضله " أي فشأن الشيطان أن يضله عن طريق الحق، فقوله أنه يضله جواب الشرط إن جعلت من شرطية أو خبر الموصول إن جعلت موصولة، فقد وصف الشيطان بوصفين: الأول أنه مريد، والثاني ما أفاده جملة كتب عليه إلخ. وجملة "ويهديه إلى عذاب السعير" معطوفة على جملة يضله: أي يحمله على مباشرة ما يصير به في عذاب السعير.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى

ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة، فقال: 5- "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث" قرأ الحسن البعث بفتح العين وهي لغة، وقرأ الجمهور بالسكون، وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه. والمعنى: إن كنتم في شك من الإعادة فانظروا في مبدإ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة "فإنا خلقناكم من تراب" في ضمن خلق أبيكم آدم "ثم" خلقناكم "من نطفة" أي من مني، سمي نطفة لقلته، والنطفة: القليل من الماء. وقد يقع على الكثير منه، والنطفة: القطرة، يقال نطف ينطف: أي قطر، وليلة نطوف: أي دائمة القطر "ثم من علقة" والعلقة: الدم الجامد، والعلق: الدم العبيط: أي الطري أو المتجمد، وقيل الشديد الحمرة والمراد الدم الجامد المتكون من المني "ثم من مضغة" وهي القطعة من الحم قدر ما يمضغ الماضغ تتكون من العلقة "مخلقة" بالجر صفة لمضغة: أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير "وغير مخلقة" أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها. قال ابن الأعرابي: مخلقة يريد قد بدأ خلقه، وغير مخلقة لم تصور. قال الأكثر: ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح. قال الفراء: مخلقة تام الخلق، وغير مخلقة: السقط، ومنه قول الشاعر: أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء واللام في "لنبين لكم" متعلق بخلقنا: أي خلقناكم على هذا النمط لنبين لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم "ونقر في الأرحام ما نشاء" روى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم أنه قرأ بنصب تقر عطفاً على نبين، وقرأ الجمهور "نقر" بالرفع على الاستئناف: أي ونحن نقر. قال الزجاج: نقر بالرفع لا غير، لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، ومعنى الآية: ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطاً "إلى أجل مسمى" وهو وقت الولادة، وقال ما نشاء ولم يقل من نشاء، لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح، وقرئ ليبين -ويقر- ويخرجكم بالتحتية في الأفعال الثلاثة، وقرأ ابن أبي وثاب ما نشاء بكسر النون "ثم نخرجكم طفلاً" أي نخرجكم من بطون أمهاتكم طفلاً: أي أطفالاً، وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد. قال الزجاج طفلاً في معنى أطفالاً، ودل عليه ذكر الجماعة: يعني في نخرجكم، والعرب كثيراً ما تطلق اسم الواحد على الجماعة، ومنه قول الشاعر: يليحنني من حبها ويلمنني إن العواذل لسن لي بأمير وقال المبرد: هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع، قال الله سبحانه: "أو الطفل الذين لم يظهروا". قال ابن جرير: هو منصوب على التمييز كقوله: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً" وفيه بعد، والظاهر انتصابه على الحال بالتأويل المذكور، والطفل يطلق على الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ " ثم لتبلغوا أشدكم " قيل هو علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة له، كأنه قيل: نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا إلى الأشد، وقيل إن ثم زائدة، والتقدير لتبلغوا، وقيل إنه معطوف على نبين، والأشد هو كمال العقل وكمال القوة والتمييز، فيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في الأنعام "ومنكم من يتوفى" يعني قبل بلوغ الأشد، وقرئ يتوفى مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور "يتوفى" مبنياً للمفعول "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر" أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل، ولهذا قال سبحانه: "لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً" أي شيئاً من الأشياء، أو شيئاً من العلم، والمعنى: أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها، لا علم له ولا فهم، ومثله قوله: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين " وقوله: "ومن نعمره ننكسه في الخلق"، "وترى الأرض هامدة" هذه حجة أخرى على البعث، فإنه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات، والهامدة اليابسة التي لا تنبت شيئاً. قال ابن قتيبة: أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت، وقيل دراسة، والهمود الدروس، ومنه قول الأعشى: قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً وأرى ثيابك باليات همودا وقيل هي التي ذهب عنها الندى، وقيل هالكة، ومعني هذه الأقوال متقاربة "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" المراد بالماء هنا المطر، ومعنى اهتزت تحركت، والاهتزاز شدة الحركة، يقال هززت الشيء فاهتز: أي حركته فتحرك: والمعنى: تحركت بالنبات، لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقة، فسماه اهتزازاً مجازاً. وقال المبرد: المعنى اهتز نباتها فحذف المضاف، واهتزازه شدة حركته، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض، ومعنى ربت ارتفعت، وقيل انتفخت. والمعنى واحد، وأصله الزيادة، يقال ربا الشيء يربوا ربواً إذا زاد ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف يقال له رابئ ورابئة وربيئة "وأنبتت" أي أخرجت "من كل زوج بهيج" أي من كل صنف حسن ولون مستحسن، والبهجة الحسن.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

وجملة 6- "ذلك بأن الله هو الحق" مستأنفة، لما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره. قال بعد ذلك هذه المقالات، وهي إثبات أنه سبحانه الحق، وأنه المتفرد بإحياء الموتى، وأنه قادر على كل شيء من الأشياء. والمعنى: أنه المتفرد بهذه الأمور وأنها من شأنه لا يدعى غيره أنه يقدر على شيء منها، فدل سبحانه بهذا على أنه الحق الحقيقي الغني المطلق، وأن وجود كل موجود مستفاد منه، والحق هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول، وقيل ذو الحق على عباده، وقيل الحق في أفعاله. قال الزجاج: ذلك في موضع رفع: أي الأمر ما وصفه لكم وبين بأن الله هو الحق. قال: ويجوز أن يكون ذلك نصباً.

وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ

ثم أخبر سبحانه بأن 7- "الساعة آتية" أي في مستقبل الزمان، قيل لا بد من إضمار فعل: أي ولتعلموا أن الساعة آتية "لا ريب فيها" أي لا شك فيها ولا تردد، وجملة "لا ريب فيها" خبر ثان للساعة، أو في محل نصب على الحال. ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال: " وأن الله يبعث من في القبور " فيجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وأن ذلك كائن لا محالة. وقد أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره عن عمران بن حصين قال:" لما نزلت "يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم" إلى قوله: "ولكن عذاب الله شديد" أنزلت عليه هذه وهو في سفر، فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسمعائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة، فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا وأبشروا، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية، فإن تمت وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا، قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا". وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر عن عمران بن حصين مرفوعاً نحوه، وقال في آخره: "اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانت مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، ومن مات من بني آدم ومن بني إبليس، فسري عن القوم بعض الذي يجدون قال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس مرفوعاً نحوه. وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وفي آخره فقال: "من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد، وهل أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "كتب عليه" قال: كتب على الشيطان. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله "أنه من تولاه" قال: اتبعه. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق والمصدوق "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسيق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً. وأخرج ابن أبي حاتم وصححه عن ابن عباس في قوله: "مخلقة وغير مخلقة" قال: المخلقة ما كان حياً، وغير المخلقة ما كان سقطاً. وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "من كل زوج بهيج" قال: حسن. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن معاذ بن جبل قال: من علم أن الله عز وجل حق، وأن الساعة آتيه لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ

8- قوله" ومن الناس من يجادل في الله" أي في شأن الله، كقول من قال: إن الملائكة بنات الله، والمسيح ابن الله، وعزير ابن الله. قيل نزلت في النضر بن الحارث، وقيل في أبي جهل، وقيل هي عامة لكل من يتصدى لإضلال الناس وإغوائهم، وعلى كل حال فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ وإن كان السبب خاصاً. ومعنى اللفظ: ومن الناس فريق يجادل في الله، فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله، أو صفاته أو شرائعه الواضحة، و"بغير علم" في محل نصب على الحال: أي كائناً بغير علم. قيل والمراد بالعلم هو العلم الضروري، وبالهدى هو العلم النظري الاستدلالي. والأولى حمل العمل على العموم، وحمل الهدى على معناه اللغوي، وهو الإرشاد. والمراد بالكتاب المنير هو القرآن، والمنير النير البين الحجة الواضح البرهان، وهو إن دخل تحت قوله: "بغير علم" فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر بعد ذكر الملائكة، وذلك لكونه الفرد الكامل الفائق على غيره من أفراد العلم. وأما من حمل العلم على الضروري والهدى على الاستدلالي، فقد حمل الكتاب هنا على الدليل السمعي، فتكون الآية متضمنة لنفي الدليل العقلي ضرورياً كان أو استدلالياً، ومتضمنة لنفي الدليل النقلي بأقسامه، وما ذكرناه أولى. قيل والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى، أعني قوله "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد"، وبذلك قال كثير من المفسرين، والتكرير للمبالغة في الذم كما تقول للرجل تذمه وتوبخه أنت فعلت هذا أنت فعلت هذا؟ ويجوز أن يكون التكرير لكونه وصفه في كل آية بزيادة على ما وصفه به في الآية الأخرى، فكأنه قال: ومن الناس من يجادل في الله ويتبع كل شيطان مريد بغير علم "ولا هدى ولا كتاب منير" ليضل عن سبيل الله اهـ، وقيل الآية الأولى في المقلدين اسم فاعل. والثانية في المقلدين اسم مفعول. والثانية عامة في كل إضلال وجدال، وانتصاب "ثاني عطفه" على الحال من فاعل يجادل، والعطف الجانب، وعطفا الرجل جانباه من يمين وشمال، وفي تفسيره وجهان: الأول أن المراد به من يلوي عنقه مرحاً وتكبراً، ذكر معناه الزجاج. قال وهذا يوصف به المتكبر. والمعنى: ومن الناس من يجادل في الله متكبراً. قال المبرد: العطف ما انثنى من العنق.

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ

والوجه الثاني أن المراد بقوله: 9- "ثاني عطفه" الإعراض: أي معرضاً عن الذكر، كذا قال الفراء والمفضل وغيرهما كقوله تعالى: "ولى مستكبراً كأن لم يسمعها" وقوله. "لووا رؤوسهم"، وقوله: "أعرض ونأى بجانبه"، واللام في "ليضل عن سبيل الله" متعلق بتجادل: أي إن غرضه هو الإضلال عن السبيل وإن لم يعترف بذلك، وقرئ ليضل بفتح الياء على أن تكون اللام هي لام العاقبة كأنه جعل ضلاله غاية لجداله، وجملة "له في الدنيا خزي" مستأنفة مبينة لما يحصل له بسبب جداله من العقوبة. والخزي الذل، وذلك بما يناله من العقوبة في الدنيا من العذاب المعجل وسوء الذكر على ألسن الناس. وقيل الخزي الدنيوي هو القتل كما وقع في يوم بدر "ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق" أي عذاب النار المحرقة.

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ

والإشارة بقوله: 10- "ذلك" إلى ما تقدم من العذاب الدنيوي والأخروي، وهو مبتدأ خبره "بما قدمت يداك". والباء للسببية: أي ذلك العذاب النازل بك بسبب ما قدمته يداك من الكفر والمعاصي، وعبر باليد عن جملة البدن لكون مباشرة المعاصي تكون بها في الغالب، ومحل أن وما بعدها في قوله: "وأن الله ليس بظلام للعبيد" الرفع على أنها خبر مبتدإ محذوف: أي والأمر أنه سبحانه لا يعذب عباده بغير ذنب. وقد مر الكلام على هذه الآية في آخر آل عمران فلا نعيده.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ

11- "ومن الناس من يعبد الله على حرف" هذا بيان لشقاق أهل الشقاق. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: الحرف الشك، وأصله من حرف الشيء وهو طرفه، مثل حرف الجبل والحائط، فإن القائم عليه غير مستقر والذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضطرب اضطراباً ويضعف قيامه، فقيل للشاك في دينه إنه يعبد الله على حرف، لأنه على غير يقين من وعده ووعيده، بخلاف المؤمن لأنه يعبده على يقين وبصيرة فلم يكن على حرف. وقيل الحرف الشرط: أي ومن الناس من يعبد الله على شرط، والشرط هو قوله: "فإن أصابه خير اطمأن به" أي خير دنيوي من رخاء وعافية وخصب وكثرة مال، ومعنى اطمأن به ثبت على دينه واستمر على عبادته، أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه "وإن أصابته فتنة" أي شيء يفتتن به من مكروه يصيبه في أهله أو ماله أو نفسه "انقلب على وجهه" أي ارتد ورجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر، ثم بين حاله بعد انقلابه على وجهه فقال "خسر الدنيا والآخرة" أي ذهبا منه وفقدهما، فلاحظ له في الدنيا من الغنيمة والثناء الحسن، ولا في الآخرة من الأجر وما أعده الله للصالحين من عباده. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق خاسراً الدنيا والآخرة على صيغة اسم الفاعل منصوباً على الحال. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف. والإشارة بقوله: ذلك إلى خسران الدنيا والآخرة وهو مبتدأ وخبره "ذلك هو الخسران المبين" أي الواضح الظاهر الذي لا خسران مثله.

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ

12- "يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه" أي هذا الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر يدعو من دون الله: أي يعبد متجاوزاً عبادة الله إلى عبادة الأصنام ما لا يضره إن ترك عبادته، ولا ينفعه إن عبده لكون ذلك المعبود جماداً لا يقدر على ضر ولا نفع، والإشارة بقول: "ذلك" إلى الدعاء المفهوم من الفعل وهو يدعو، واسم الإشارة مبتدأ وخبره "هو الضلال البعيد" أي عن الحق والرشد مستعار من ضلال من سلك غير الطريق فصار بضلاله بعيداً عنها. قال الفراء: البعيد الطويل.

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ

13- "يدعو لمن ضره أقرب من نفعه" يدعو بمعنى يقول، والجملة مقررة لما قبلها من كون ذلك الدعاء ضلالاً بعيداً. والأصنام لا نفع فيها بحال من الأحوال بل هي ضرر بحت لمن يعبدها، لأنه دخل النار بسبب عبادتها، وإيراد صيغة التفضيل مع عدم النفع بالمرة للمبالغة في تقبيح حال ذلك الداعي، أو ذلك من باب "وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين" واللام هي الموطئة للقسم، ومن موصولة أو موصوفة، وضره مبتدأ خبره أقرب، والجملة صلة الموصول. وجملة "لبئس المولى ولبئس العشير" جواب القسم، والمعنى: أنه يقول ذلك الكافر يوم القيامة لمعبوده الذي ضره أقرب من نفعه: لبئس المولى أنت ولبئس العشير. والمولى الناصر، والعشير الصاحب، ومثل ما في هذه الآية قول عنترة: يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم وقال الزجاج: يجوز أن يكون يدعو في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة: أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه وعلى هذا يوقف على يدعو، ويكون قوله "لمن ضره أقرب من نفعه" كلاماً مستأنفاً مرفوعاً بالابتداء، وخبره لبئس المولى. قال: وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. وقال الزجاج والفراء: يجوز أن يكون يدعو مكررة على ما قبلها على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء: أي يدعو ما لا يضره ولا ينفعه يدعو. مثل ضربت زيداً ضربت. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم، واللام مقدمة على موضعها، والتقدير: يدعو من لضره أقرب من نفعه، فمن في موضع نصب بيدعو، واللام جواب القسم وضره مبتدأ، وأقرب خبره، ومن التصرف في اللام بالتقديم والتأخير قول الشاعر: خالي لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا أي لخالي أنت. قال النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف، والمعنى: يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلهاً. قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطاً عن محمد بن يزيد، ولعل وجهه أن ما قبل اللام هذه لا يعمل فيما بعدها. وقال الفراء أيضاً والقفال اللام صلة: أي زائدة، والمعنى: يدعو من ضره أقرب من نفعه: أي يعبده، وهكذا في قراءة عبد الله بن مسعود بحذف اللام، وتكون اللام في لبئس المولى وفي لبئس العشير على هذا موطئة للقسم.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ

14- "إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار" لما فرغ من ذكر حال المشركين، ومن يعبد الله على حرف ذكر حال المؤمنين في الآخرة، وأخبر أنه يدخلهم هذه الجنات المتصفة بهذه الصفة، وقد تقدم الكلام في جري الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف: أي من تحت أشجارها "إن الله يفعل ما يريد" هذه الجملة تعليل لما قبلها: أي يفعل ما يريده من الأفعال "لا يسأل عما يفعل" فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء.

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ

15- "من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة" قال النحاس: من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه "فليمدد بسبب إلى السماء" أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء "ثم ليقطع" أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له "فلينظر هل يذهبن كيده" وحيلته "ما يغيظ" من نصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظاً، ثم فسره بقوله: "فليمدد بسبب إلى السماء" أي فليشدد حبلاً في سقف بيته "ثم ليقطع" أي ثم ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً، والمعنى: فليختنق غيظاً حتى يموت، فإن الله ناصره ومظهره، ولا ينفعه غيظه، ومعنى فلينظر هل يذهبن كيده: أي صنيعه وحيلته ما يغيظ: أي غيظه، وما مصدرية. وقيل إن الضمير في ينصره يعود إلى من، والمعنى: من كان يظن أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه، وبه قال أبو عبيدة. وقيل إن الضمير يعود إلى الدين: أي من كان يظن أن لن ينصر الله دينه. وقرأ الكوفيون بإسكان اللام في "ثم ليقطع" قال النحاس: وهذه القراءة بعيدة من العربية.

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ

16- "وكذلك أنزلناه آيات بينات" أي مثل ذلك الإنزال البديع أنزلناه آيات واضحات ظاهرة الدلالة على مدلولاتها "وأن الله يهدي من يريد" هدايته ابتداء أو زيادة فيها لمن كان مهدياً من قبل. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ثاني عطفه" قال: لاوي عنقه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس والسدي وابن زيد وابن جريج أنه المعرض. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "ثاني عطفه" قال: أنزلت في النضر بن الحارث. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : هو رجل من بني عبد الدار . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ومن الناس من يعبد الله على حرف" قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند صحيح قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند صحيح قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم، فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله "ومن الناس من يعبد الله على حرف". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً نحوه، وفي إسناده العوفي. وأخرج ابن مردويه أيضاً من طريقه أيضاً عن أبي سعيد قال: "أسلم رجل من اليهود فذهب بصره ماله وولده فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني أقلني، قال: إن الإسلام لا يقال، فقال: لم أصب من ديني هذا خيراً ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال: يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة، فنزلت "ومن الناس من يعبد الله على حرف"". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "من كان يظن أن لن ينصره الله" قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً في الدنيا والآخرة "فليمدد بسبب" قال: فليربط بحبل "إلى السماء" قال: إلى سماء بيته السقف "ثم ليقطع" قال: ثم ليختنق به حتى يموت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال " من كان يظن أن لن ينصره الله " يقول: أن لن يرزقه الله "فليمدد بسبب إلى السماء" فليأخذ حبلاً فليربطه في سماء بيته فليختنق به "فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ" قال: فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

قوله: 17- "إن الذين آمنوا" أي بالله ورسوله، أو بما ذكر من الآيات البينات "والذين هادوا" هم اليهود المنتسبون إلى ملة موسى "والصابئين" قوم يعبدون النجوم، وقيل هم من جنس النصارى وليس ذلك بصحيح بل هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء "والنصارى" هم المنتسبون إلى ملة عيسى "والمجوس" هم الذين يعبدون النار، ويقولون إن العالم أصلين: النور والظلمة. وقيل هم يعبدون الشمس والقمر، وقيل هم يستعملون النجاسات، وقيل هم قوم من النصارى اعتزلوهم ولبسوا المسوح، وقيل إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى "والذين أشركوا" الذين يعبدون الأصنام، وقد مضى تحقيق هذا في البقرة، ولكنه سبحانه قدم هنالك النصارى على الصابئين، وأخرهم عنهم هنا. فقيل وجه تقديم النصارى هنالك أنهم أهل كتاب دون الصابئين، ووجه تقديم الصابئين هنا أن زمنهم على زمن النصارى، وجملة "إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" في محل رفع على أنها خبر لإن المتقدمة، ومعنى الفصل أنه سبحانه يقضي بينهم فيدخل المؤمنين منهم الجنة والكافرين منهم النار. وقيل الفصل هو أن يميز المحق من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما، وجملة "إن الله على كل شيء شهيد" تعليل لما قبلها: أي أنه سبحانه على كل شيء من أفعال خلقه وأقوالهم شهيد لا يعزب عنه شيء منها. وأنكر الفراء أن تكون جملة "إن الله يفصل بينهم" خبراً لإن المتقدمة. وقال لا يجوز في الكلام: إن زيداً إن أخاه منطلق، ورد الزجاج ما قاله الفراء، وأنكره وأنكر ما جعله مماثلاً للآية، ولا شك في جواز قولك: إن زيداً الخير عنده، وإن زيداً إنه منطلق، ونحو ذلك.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِ

18- "ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض" الرؤية هنا هي القلبية لا البصرية: أي ألم تعلم، والخطاب لكل من يصلح له، وهو من تتأتى منه الرؤية، والمراد بالسجود هنا هو الانقياد الكامل، لا سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، سواء جعلت كلمة من خاصة بالعقلاء، أو عامة لهم ولغيرهم، ولهذا عطف "الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب" على من، فإن ذلك يفيد أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء، وإنما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت من، على تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعداً في العادة، وارتفاع "كثير من الناس" بفعل مضمر يدل عليه المذكور: أي ويسجد له كثير من الناس. وقيل مرتفع على الابتداء وخبره محذوف وتقديره: وكثير من الناس يستحق الثواب، والأول أظهر. وإنما لم يرتفع بالعطف على من، لأن سجود هؤلاء الكثير من الناس هو سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، والمراد بالسجود المتقدم هو الانقياد، فلو ارتفع بالعطف على من لكان في ذلك جمع بين معنيين مختلفين في لفظ واحد. وأنت خبير بأنه لا ملجئ. إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد، ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم لا نفس السجود الخاص، فارتفاعه على العطف لا بأس به، وإن أبى ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه، وأما قوله: "وكثير حق عليه العذاب" فقال الكسائي والفراء: إنه مرتفع بالابتداء وخبره ما بعده. وقيل هو معطوف على كثير الأول ويكون المعنى: وكثير من الناس يسجد منهم يأبى ذلك. وقيل المعنى: وكثير من الناس في الجنة، وكثير حق عليه العذاب، هكذا حكاه ابن الأنباري "ومن يهن الله فما له من مكرم" أي من أهانته الله بأن جعله كافراً شقياً، فما له من مكرم يكرمه فيصير سعيداً عزيزاً. وحكى الأخفش والكسائي والفراء أن المعنى: "ومن يهن الله فما له من مكرم": أي إكرام "إن الله يفعل ما يشاء" من الأشياء التي من جملتها ما تقدم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة.

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ

19- "هذان خصمان" الخصمان أحدهما أنجس الفرق اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا، والخصم الآخر المسلمون، فهما فريقان مختصمان. قاله الفراء وغيره. وقيل المراد بالخصمين الجنة والنار. قالت الجنة: خلقني لرحمته، وقالت النار: خلقني لعقوبته. وقيل المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر، فمن المؤمنين حمزة وعلي وعبيدة، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في الصحيح، وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة، وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول. وقد ثبت في الصحيح أيضاً هذا جماعة من الصحابة، وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول. وقد ثبت في الصحيح أيضاً عن علي أنه قال: فينا نزلت هذه الآية. وقرأ ابن كثير "هذان" بتشديد النون، وقال سبحانه: "اختصموا" ولم يقل اختصما. قال الفراء: لأنهم جمع، ولو قال اختصما لجاز، ومعنى "في ربهم" في شأن ربهم: أي في دينه، أو في ذاته، أو في صفاته، أو في شريعته لعباده، أو في جميع ذلك. ثم فصل سبحانه ما أجمله في قوله: "يفصل بينهم" فقال: "فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار" قال الأزهري: أي سويت وجعلت لبوساً لهم، شبهت النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب، وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقق وقوعه. وقيل إن هذه الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار، وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى. وقيل المعنى في الآية: أحاطت النار بهم، وقرئ قطعت بالتخفيف ثم قال سبحانه: "يصب من فوق رؤوسهم الحميم" والحميم هو الماء الحار المغلي بنار جهنم، والجملة مستأنفة أو هي خبر ثان للموصول.

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ

20- "يصهر به ما في بطونهم" الصهر الإذابة، والصهارة ما ذاب منه، يقال صهرت الشيء فانصهر: أي أذبته فذاب فهو صهير، والمعنى: أنه يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء "والجلود" معطوفة على ما: أي ويصهر به الجلود، والجملة في محل نصب على الحال، وقيل إن الجلود لا تذاب، بل تحرق، فيقدر فعل يناسب ذلك، ويقال وتحرق به الجلود كما في قول الشاعر: ‌علفتها تبناً وماءً بارداً أي وسقيتها ماء، ولا يخفى أنه لا ملجئ لهذا، فإن الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذابته للجلد الظاهر بالأولى.

وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ

21- "ولهم مقامع من حديد" المقامع جمع مقمعة ومقمع قمعته ضربته بالمقمعة، وهي قطعة من حديد. والمعنى: لهم مقامع من حديد يضربون بها: أي للكفرة، وسميت المقامع مقامع لأنها تقمع المضروب: أي تذلله. قال ابن السكيت: أقمعت الرجل عني إقماعاً: إذا طلع عليك فرددته عنك.

كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

22- "كلما أرادوا أن يخرجوا منها" أي من النار "أعيدوا فيها" أي في النار بالضرب بالمقامع، و"من غم" بدل من الضمير في منها بإعادة الجار أو مفعول له: أي لأجل غم شديد من غموم النار "وذوقوا عذاب الحريق" هو بتقدير القول: أي أعيدوا فيها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق: أي العذاب المحرق، وأصل الحريق الاسم من الاحتراق، تحرق الشيء بالنار واحترق حرقة واحتراقاً، والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا توسع، والمراد به إدراك الألم. قال الزجاج: وهذا لأحد الخصمين. وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ

23- "إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار" فبين سبحانه حال المؤمنين بعد بيانه لحال الكافرين. ثم بين الله سبحانه بعض ما أعده لهم من النعيم بعد دخولهم الجنة فقال: "يحلون فيها" قرأ الجمهور "يحلون" بالتشديد والبناء للمفعول، وقرئ مخففاً: أي يحليهم الله أو الملائكة بأمره. ومن في قوله: "من أساور" للتبعيض: أي يحلون بعض أساور، أو للبيان، أو زائدة، ومن في "من ذهب" للبيان، والأساور جمع أسورة والأسورة جمع سوار، وفي السوار لغتان: كسر السين وضمها، وفيه لغة ثالثة، وهي أسوار. قرأ نافع وابن كثير وعاصم وشيبة "ولؤلؤاً" بالنصب عطف على محر أساور: أي ويحلون لؤلؤاً، أو بفعل مقدر بنصبه، وهكذا قرأ بالنصب يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر، وهذه القراءة هي الموافقة لرسم المصحف فإن هذا الحرف مكتوب فيه بالألف، وقرأ الباقون بالجر عطفاً على أساور: أي يحلون من أساور ومن لؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت كما أن فيها أساور من ذهب "ولباسهم فيها حرير" أي جميع ما يلبسونه حرير كما تفيده هذه الإضافة، ويجوز أن يراد أن هذا النوع من الملبوس الذي كان محرماً عليهم في الدنيا حلال لهم في الآخرة، وأنه من جملة ما يلبسونه فيها، ففيها ما تشتهيه الأنفس، وكل واحد منهم يعطى ما تشتهيه نفسه وينال ما يريده.

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ

24- "وهدوا إلى الطيب من القول" أي أرشدوا إليه، قيل هو لا إله إلا الله وقيل الحمد لله، وقيل القرآن، وقيل هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات. وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه: "الحمد لله الذي صدقنا وعده" الحمد لله الذي هدانا لهذا "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" ومعنى "وهدوا إلى صراط الحميد" أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذي هو دينه القويم، وهو الإسلام. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والصابئين" قال: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون القبلة، ويقرأون الزبور "والمجوس" عبدة الشمس والقمر والنيران، "والذين أشركوا" عبدة الأوثان "إن الله يفصل بينهم" قال: الأديان ستة، فخمسة للشيطان، ودين الله عز وجل. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: فصل قضاءه بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: الذين هادوا: اليهود، والصابئون: ليس لهم كتاب، والمجوس: أصحاب الأصنام والمشركون: نصارى العرب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية "هذان خصمان" الآية نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر، وهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث، وعلي بن أبي طالب وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، قال علي: وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة. وأخرج البخاري وغيره من حديث علي. وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس بنحوه، وهكذا روي عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "قطعت لهم ثياب من نار" قال: من نحاس، وليس من الآنية شيء إذا حمى أشد حراً منه، وفي قوله: "يصب من فوق رؤوسهم الحميم" قال: النحاس يذاب على رؤوسهم، وقوله: "يصهر به ما في بطونهم" قال: تسيل أمعاؤهم "والجلود" قال: تتناثر جلودهم. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة أنه تلا هذه الآية "يصب من فوق رؤوسهم الحميم" فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يصهر به ما في بطونهم" قال: يمشون وأمعاءهم تتساقط وجلودهم. وفي قوله: "ولهم مقامع من حديد" قال: يضربون بها، فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالويل والثبور. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون. وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض، ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان". وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها". وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ليس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وهدوا إلى الطيب من القول" قال: ألهموا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال. هدوا إلى الطيب من القول في الخصومة إذ قالوا: الله مولانا ولا مولى لكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن إسماعيل ابن أبي خالد في الآية قال: القرآن "وهدوا إلى صراط الحميد" قال: الإسلام. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: الإسلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله الذي قال "إليه يصعد الكلم الطيب".

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

قوله: 25- "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله" عطف المضارع على الماضي، لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد، ومثل هذا قوله "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله"، أو المراد بالصد ها هنا الاستمرار لا مجرد الاستقبال، فصح بذلك عطفه على الماضي، ويجوز أن تكون الواو في ويصدون واو الحال: أي كفروا والحال أنهم يصدون. وقيل الواو زائدة والمضارع خبر إن والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله: "والباد" وذلك نحو خسروا أو هلكوا. وقال الزجاج: إن الخبر ونذقه من عذاب أليم. ورد بأنه لو كان خبراً لأن لم يجزم وأيضاً لو كان خبراً لإن لبقي الشرط وهو ومن يرد بغير جواب فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا والمراد بالصد المنع وسبيل الله دينه: أي يمنعون من أراد الدخول في دين الله والمسجد الحرام، معطوف على سبيل الله قيل المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني وقيل الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند يوم الحديبية، وقيل المراد به مكة بدليل قوله: "الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد" أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستوياً فيه العاكف، وهو المقيم فيه الملازم له والباد أي الواصل من البادية، والمراد به الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم وانتصاب سواء على أنه المفعول الثاني لجعلناه، وهو بمعنى مستوياً، والعاكف مرتفع به، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه، ويحتمل أن يكون انتصاب سواء على الحال. وهذا على قراءة النصب، وبها قرأ حفص عن عاصم، وهي قراءة الأعمش، وقرأ الجمهور برفع "سواء" على أنه مبتدأ وخبره العاكف أو على أنه خبر مقدم، والمبتدأ العاكف أي العاكف فيه والبادي سواء، وقرئ بنصب "سواء" وجر العاكف على أنه صفة للناس: أي جعلناه للناس العاكف والبادي سواء، وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلاً ووقفاً، وحذفها أبو عمرو في الوقف، وحذفها نافع في الوصل والوقف. قال القرطبي: وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه. واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ. وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاه أم أبى. وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام، ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها. والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأصل الأول ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه. أو جميع الحرم، أو مكة على الخصوص. والثاني هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في يد أهلها على الخصوص؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم؟ وقد أوضحنا هذا في شرحنا على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" مفعول برد محذوف لقصد التعميم، والتقدير: ومن يرد فيه مراداً: أي مراد بإلحاد: أي بعدول عن القصد، والإلحاد في اللغة الميل إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم. وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو؟ فقيل هو الشرك، وقيل الشرك والقتل، وقيل صيد خيواناته وقطع أشجاره، وقيل هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة، وقيل المراد المعاصي فيه على العموم، وقيل المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان. وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا لو هم الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله. والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذاً بمجرد الإرادة للظلم، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس، وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جداً، ومثل هذه الآية حديث "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" فدخل النار هنا بسبب مجرد حرصه على قتل صاحبه. وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة، والباء في قوله بإلحاد إن كان مفعول يرد محذوفاً كما ذكرنا فليست بزائدة، وقيل إنها زائدة هنا كقول الشاعر: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي نرجو الفرج، ومثله: ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد أي ما لاقت، ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم، وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف، ويجوز أن يكون التقدير: ومن يرد الناس بإلحاد. وقيل إن يرد مضمن معنى بهم، والمعنى: ومن يهم فيه بإلحاد. وأما الباء في قوله بظلم فهي للسببية، والمعنى: ومن يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم، ويجوز أن يكون بظلم بدلاً من بإلحاد بإعادة الجار ويجوز أن يكونا حالين مترادفين.

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

26- "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" أي واذكر وقت ذلك، يقال بوأته منزلاً وبوأت له كما يقال مكنتك ومكنت لك. قال الزجاج: معناه جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم، ومعنى بوأنا: بينا له مكان البيت، ومثله قول الشاعر: كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا وقال الفراء: إن اللام زائدة ومكان ظرف: أي أنزلناه فيه " أن لا تشرك بي شيئا " قيل إن هذه هي مفسرة لبوأنا لتضمنه معنى تعبدنا، لأن التبوئة هي للعبادة. وقال أبو حاتم: هي مصدرية: أي لأن لا تشرك بي. وقيل هي المخففة من الثقيلة، وقيل هي زائدة، وقيل معنى الآية: وأوحينا إليه أن لا تعبد غيري. قال المبرد: كأنه قيل له وحدني في هذا البيت، لأن معنى لا تشرك بي وحدي "وطهر بيتي" من الشرك وعبادة الأوثان. وفي الآية طعن على ما أشرك من قطان البيت: أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب بقوله: ألا تشرك لمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف جداً. ومعنى "وطهر بيتي" تطهيره من الكفر والأوثان والدماء وسائر النجاسات، وقيل عنى به التطهير عن الأوثان فقط، وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت، وقد مر في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى،والمراد بالقائمين هنا هم المصلون "و" ذكر "الركع السجود" بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، فالطواف عنده والصلاة إليه.

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ

27- "وأذن في الناس بالحج" قرأ الحسن وابن محيصن " وأذن " بتخفيف الذال والمد. وقرأ الباقون بتشديد الذال، والأذان الإعلام، وقد تقدم في براءة. قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا رب من يبلغ صوتي؟ فقال الله سبحانه: أذن وعلي البلاغ، فعلا المقام فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال، فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً أو شمالاً وشرقاً وغرباً وقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك. وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله: "والركع السجود" وقيل إن خطابه انقضى عند قوله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" وأن قوله: "أن لا تشرك بي" وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الجمهور "بالحج" بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها "يأتوك رجالاً" هذا جواب الأمر، وعد الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى رجالاً مشاة جمع راجل، وقيل جمع رجل. وقرأ ابن أبي إسحاق رجالاً بضم الراء وتخفيف الجيم، وقرأ مجاهد رجالى على وزن فعالى مثل كسالى، وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي، وقال: يأتوك وإن كانوا يأتون البيت، لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم، لأنه أجاب نداءه "وعلى كل ضامر" عطف على رجالاً: أي وركباناً على كل بعير، والضامر البعير المهزول الذي أتعبه السفر، ويقال ضمر يضمر ضموراً، ووصف الضامر بقوله يأتين باعتبار المعنى، لأن الضامر في معنى ضوامر، وقرأ أصحاب ابن مسعود وابن أبي عبلة والضحاك يأتون على أنه صفة لرجالاً. والفج الطريق الواسع الجمع فجاج، والعميق البعيد.

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ

واللام في 28- "ليشهدوا منافع لهم" متعلقة بقوله، يأتوك وقيل بقوله وأذن، والشهود الحضور، والمنافع هي تعم منافع الدنيا والآخرة. وقيل المراد به المناسك، وقيل المغفرة، وقيل التجارة كما في قوله "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" "ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" أي يذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله، وقيل إن هذا الذكر كناية عن الذبح لأنه لا ينفك عنه. والأيام المعلومات هي أيام النحر كما يفيد ذلك قوله: "على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" وقيل عشر ذي الحجة. وقد تقدم الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات في البقرة فلا نعيده، والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث، ومعنى: على ما رزقهم: على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وبهيمة الأنعام هي الأنعام فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى "فكلوا منها" الأمر هنا للندب عند الجمهور، وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب "وأطعموا البائس الفقير" البائس ذو البؤس وهو شدة الفقر فذكر الفقير بعده لمزيد الإيضاح، والأمر هنا للوجوب، وقيل للندب.

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

29- "ثم ليقضوا تفثهم" المراد بالقضاء هنا هو التأدية: أي ليؤدوا إزالة وسخهم، لأن التفث هو الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار، وقد أجمع المفسرون كما حكاه النيسابوري على هذا. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث. وقال أبو عبيدة: لم يأت في الشعر ما يحتج به في معنى التفث. وقال المبرد: أصل التفث في اللغة كل قاذورة تلحق الإنسان. وقيل قضاؤه ادهانه لأن الحاج مغبر شعث لم يدهن ولم يستحد، فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره وليس ثيابه، فهذا هو قضاء التفث. قال الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الحلال "وليوفوا نذورهم" أي ما ينذرون به من البر في حجهم، والأمر للوجوب، وقيل المراد بالنذور هنا أعمال الحج "وليطوفوا بالبيت العتيق" هذا الطواف هو طواف الإفاضة. قال ابن جرير: لا خلاف في ذلك بين المتأولين، والعتيق القديم كما يفيده قوله سبحانه: "إن أول بيت وضع للناس" الآية، وقد سمي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار، وقيل لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب، وقيل لأنه أعتق من غرق الطوفان وقيل العتيق الكريم. وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: "والمسجد الحرام" قال: الحرم كله، وهو المسجد الحرام "سواء العاكف فيه والباد" قال: خلق الله في سواء. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم في منازل مكة سواء، فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم. وقال البادي وأهل مكة سواء، يعني في المنزل والحرم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطونه ناراً. وأخرج ابن سعد عن عمر بن الخطاب أن رجلاً قال له عند المروة: يا أمير المؤمنين أقطعني مكاناً لي ولعقبي، فأعرض عنه عمر وقال: هو حرم الله سواء العاكف فيه والباد. وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبواباً حتى ينزل الحاج في عرصات الدور. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله ""سواء العاكف فيه والباد" قال: سواء المقيم والذي يدخل". وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها". وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حفرة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة فذكره. وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً "من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً". وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن راهويه وأحمد وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود رفعه في قوله: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: لو أن رجلاً هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً. قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه، ولهذا صمم شعبة على وقفه. وأخرج سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود في الآية قال: من هم بخطيئة فلم يعملها في سوى البيت لم تكتب عليه حتى يعملها، ومن هم بخطيئة في البيت لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة، فنزلت فيه "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني بميل عن الإسلام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قول "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" قال: يشرك. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه". وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في تاريخه وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: بيع الطعام بمكة إلحاد. وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "احتكار الطعام بمكة إلحاد". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر، وذلك حين يقول الله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء "والقائمين" قال: المصلين عنده. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة معناه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: رب قد فرغت، فقال: "أذن في الناس بالحج" قال رب وما يبلغ صوتي؟ قال أذن وعلي البلاغ، قال: رب كيف أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه من في السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون. وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ليشهدوا منافع لهم" قال: أسواقاً كانت لهم، ما ذكر الله منافع إلا الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فمما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات. وأخرج أبو بكر المرزوي في كتاب العيدين عنه أيضاً قال: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: أيام التشريق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً في الأيام المعلومات قال: قبل يوم التروية بيوم، ويوم التروية ويوم عرفة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: البائس الزمن. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال: التفث المناسك كلها. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التفث خلق الرأس والأخذ من العارضين ونتف الإبط وحلق العانة والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وقص الأظفار وقص الشارب والذبح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "وليطوفوا بالبيت العتيق" هو طواف الزيارة يوم النحر، وورد في وجه تسمية البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً، وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ

محل 30- "ذلك" الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلك، أو مبتدأ خبره محذوف أو في محل نصب بفعل محذوف: أي افعلوا ذلك، والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحج، وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد، والحرمات جمع حرمة. قال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه، وهي في هذه الآية ما نهي عنها ومنه من الوقوع فيها. والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره كما يفيده اللفظ وإن كان السبب خاصاً، وتعظيمها ترك ملابستها "فهو خير له" أي فالتعظيم خبر له "عند ربه" يعني في الآخرة من التهاون بشيء منها. وقيل إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به، فهي عدة بخير "وأحلت لكم الأنعام" وهي الإبل والبقر والغنم "إلا ما يتلى عليكم" أي في الكتاب العزيز من المحرمات، وهي الميتة وما ذكر معها في سورة المائدة. وقيل في قوله " إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ". "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" الرجس: القذر، والوثن: التمثال، وأصله من وثن الشيء: أي أقام في مقامه، وسمي الصليب وثنا لأنه ينصب ويركز في مقامه، فلا يبرح عنه والمراد اجتناب عبادة الأوثان، وسماها رجساً لأنها سبب الرجس وهو العذاب. وقيل جعلها سبحانه رجساً حكماً، والرجس النجس، وليست النجاسة وصفاً ذاتياً لها ولكنها وصف شرعي، فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء. قال الزجاج: من هنا لتلخيص جنس من أجناس: أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن "واجتنبوا قول الزور" الذي هو الباطل، وسمي زوراً لأنه مائل عن الحق، ومنه قوله تعالى: "تزاور عن كهفهم" وقولهم مدينة زوراء: أي مائلة، والمراد هنا قول الزور على العموم، وأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان. وقال الزجاج: المراد بقول الزور ها هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم هذا حلال وهذا حرام، وقيل المراد به شهادة الزور.

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ

وانتصاب 31- "حنفاء" على الحال: أي مستقيمين على الحق، أو مائلين إلى الحق. ولفظ حنفاء من الأضداد يقع على الاستقامة، ويقع على الميل، وقيل معناه حجاجاً، ولا وجه هذا "غير مشركين به" هو حال كالأول: أي غير مشركين به شيئاً من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم، وجملة "ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء" مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب، ومعنى خر من السماء: سقط إلى الأرض: أي انحط من رفيع الإيمان إلى حضيض الكفر "فتخطفه الطير"، يقال خطفه يخطفه إذا سلبه، ومنه قوله: "يخطف أبصارهم" أي تخطف لحمه وتقطعه بمخالبها. قرأ أبو جعفر ونافع بتشديد الطاء وفتح الخاء، وقرئ بكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما "أو تهوي به الريح" أي تقذفه وترمي به "في مكان سحيق" أي بعيد، يقال سحق يسحق سحقاً فهو سحاق إذا بعد. قال الزجاج: أعلم الله أن بعد من أشرك به من الحلق كبعد ما خر من السماء، فتذهب به الطير أو هوت به الريح في مكان بعيد.

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ

32- "ذلك ومن يعظم شعائر الله" الكلام في هذه الإشارة قد تقدم قريباً والشعائر جمع الشعيرة، وهي كل شيء فيه لله تعالى شعار، ومنه شعار القوم في الحرب، وهو علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه إشعار البدن، وهو الطعن في جانبها الأيمن، فشعائر الله أعلام دينه، وتدخل الهدايا في الحج دخولاً أولياً، والضمير في قوله: "فإنها من تقوى القلوب" راجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف: أي فإن تعظيمها من تقوى القلوب: أي من أفعال القلوب التي هي من التقوى، فإن هذا التعظيم ناشئ من التقوى.

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ

33- "لكم فيها منافع" أي في الشعائر على العموم، أو على الخصوص، وهي البدن كما يدل عليه السياق. ومن منافعها الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك "إلى أجل مسمى" وهو وقت نحرها "ثم محلها إلى البيت العتيق" أي حيث يحل نحرها، والمعنى: أنها تنتهي إلى البيت وما يليه من الحرم، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرة إلى وقت نحرها، ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية. وقيل إن محلها ها هنا مأخوذ من إحلال الحرام، والمعنى: أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي تنتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت، فالبيت على هذا مراد بنفسه.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ

34- "ولكل أمة جعلنا منسكاً" المنسك ها هنا المصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان، والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك. وقال الأزهري: إن المراد بالمنسك في الآية موضع النحر، ويقال منسك بكسر السين وفتحها لغتان قرأ بالكسر الكوفيون إلا عاصماً وقرأ الباقون بالفتح. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد في خير أو شر، وقال ابن عرفة "ولكل أمة جعلنا منسكاً" أي مذهباً من طاعة الله. وروي عن الفراء أن المنسك العيد، وقيل الحج، والأول أولى لقوله: "ليذكروا اسم الله" إلى آخره، والأمة: الجماعة المجتمعة على مذهب واحد، والمعنى: وجعلنا لكل أهل دين من الأديان ذبحاً يذبحونه ودماً يريقونه، أو متعبداً أو طاعة أو عيداً أو حجاً يحجونه، ليذكروا اسم الله وحده ويجعلوا نسكهم خاصاً به "على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" أي على ذبح ما رزقهم منها، وفيه إشارة إلى أن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها، وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه. ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالإلهية وأنه لا شريك له، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ثم أمرهم بالإسلام له، والانقياد لطاعته وعبادته، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر، والفاء هنا كالفاء التي قبلها، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبشر "المخبتين" من عباده: أي المتواضعين الخاشعين المخلصين، وهو مأخوذ من الخبيث، وهو المنخفض من الأرض، والمعنى: بشرهم يا محمد بما أعد الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه. وقيل إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا.

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله: 35- "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" أي خافت وحذرت مخالفته، وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه دليل على كمال يقينهم وقوة إيمانهم، ووصفهم بالصبر "على ما أصابهم" من البلايا والمحن في طاعة الله ثم وصفهم بإقامة "الصلاة" أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال. قرأ الجمهور: "والمقيمي الصلاة" بالجر على ما هو الظاهر، وقرأ أبو عمرو بالنصب على توهم بقاء النون، وأنشد سيبويه على ذلك قول الشاعر: الحافظ عورة العشيرة البيت بنصب عورة. وقيل لم يقرأ بهذه القراءة أبو عمرو، وقرأ ابن محيصن والمقيمين بإثبات النون على الأصل، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، ثم وصفهم سبحانه بقوله: "ومما رزقناهم ينفقون" أي يتصدقون به وينفقونه في وجوه البر، ويضعونه في مواضع الخير ومثل هذه الآية قوله سبحانه: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون". وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "حرمات الله" قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" يقول: اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان "واجتنبوا قول الزور" يعني الافتراء على الله والتكذيب به. وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أيمن بن حريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال:"يا أيها الناس عدلت شهادة الزور شركاً بالله ثلاثاً، ثم قرأ " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور "". قال أحمد غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زيد. وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لأيمن بن حريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرجه أحمد وعبد بن حميد وأبوداود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب من حديث حريم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً، فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " حنفاء لله غير مشركين به " قال: حجاجاً لله غير مشركين به، وذلك أن الجاهلية كانوا يحجون مشركين، فلما أظهر الله الإسلام، قال الله للمسلمين: حجوا الآن غير مشركين بالله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ومن يعظم شعائر الله" قال: البدن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ومن يعظم شعائر الله" قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، وفي قوله: "لكم فيها منافع إلى أجل مسمى" قال: إلى أن تسمى بدناً. واخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه، وفيه قال: ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى، في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها إلى أن تسمى هدياً، فإذا سميت هدياً ذهبت المنافع "ثم محلها" يقول: حين تسمى "إلى البيت العتيق"، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكل أمة جعلنا منسكاً" قال: عيداً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: إهراق الدماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: ذبحاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: مكة لم يجعل الله لأمة منسكاً غيرها. وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وبشر المخبتين" قال: المطمئنين. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الغضب وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن أوس قال: المخبتون في الآية الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا.

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُ

قرأ ابن أبي إسحاق 36- "والبدن" بضم الباء والدال، وقرأ الباقون بإسكان الدال وهما لغتان، وهذا الاسم خاص بالإبل، وسميت بدنة لأنها تبدن والبدانة: السمن. وقال أبو حنيفة ومالك: إنه يطلق على غير الإبل، والأول أولى لما سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الإسم بالإبل. وقال ابن كثير في تفسيره: واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليهما ذلك شرعاً كما صح في الحديث "جعلناها لكم" وهي ما تقدم بيانه قريباً "لكم فيها خير" أي منافع دينية ودنيوية كما تقدم "فاذكروا اسم الله عليها" أي على نحوها ومعنى "صواف" أنها قائمة قد صفت قوائمها، لأنها تنحر قائمة معقولة، وأصل هذا الوصف في الخيل يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري صوافي أي خوالص لله لا تشركون به في التسمية على نحرها أحداً، وواحد صواف صافة، وهي قراءة الجمهور. وواحد صوافي صافية، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر ومحمد بن علي صوافن بالنون جمع صافنة، والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، ومنه قوله تعالى: "الصافنات الجياد" ومنه قول عمر بن كلثوم: تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا وقال الآخر: ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسير "فإذا وجبت جنوبها" الوجوب السقوط: أي سقطت بعد نحرها، وذلك عند خروج روحها "فكلوا منها" ذهب الجمهور أن هذا الأمر للندب "وأطعموا القانع والمعتر" هذا الأمر قيل هو للندب كالأول، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج. وقال الشافعي وجماعة: هو الوجوب. واختلف في القانع من هو؟ فقيل هو السائل، يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل، ومنه قول الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع أي السؤال، وقيل هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة، ذكر معناها الخليل. قال ابن السكيت:من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة. وبلأول قال زيد بن أسلم وابنه سعيد بن جبير والحسن، وروي عن ابن عباس. وبالثاني قال عكرمة وقتادة. وأما المعتر، فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن أنه الذي يتعرض من غير سؤال. وقيل هو الذي يعتريك ويسألك. وقال مالك:أحسن ما سمعت أن القانع: الفقير، والمعتر: الزائر. وروي عن ابن عباس: أن كلاهما الذي لا يسأل، ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك. وقرأ الحسن والمعتري ومعناه كمعنى المعتر، ومنه قول زهير: على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل يقال اعتره واعتراه وعره وعراه: إذا تعرض لما عنده أو طلبه، ذكره النحاس "كذلك سخرناها لكم" أي مثل ذلك التسخير البديع سخرناها لكم، فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهرها والحلب لها ونحو ذلك "لعلكم تشكرون" هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم .

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ

37- "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها" أي لن يصعد إليه ولا يبلغ رضاه ولا يقع موقع القبول منه لحوم هذه الإبل التي تتصدقون بها ولا دماؤها التي تنصب عند نحرها من حيث إنها لحوم ودماء "ولكن يناله" أي يبلغ إليه تقوى قلوبكم، ويصل إليه إخلاصكم له وإرادتكم بذلك وجهه، فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه. وقيل المراد أصحاب اللحوم والدماء: أي لن يرضى المضحون والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء ولكن بالتقوى. قال الزجاج: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به، وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطبتهم "كذلك سخرها لكم" كرر هذا للتذكير، ومعنى "لتكبروا الله على ما هداكم" هو قول الناحر: الله أكبر عند النحر، فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها، وذكر هنا التكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير. وقيل المراد بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء، ومعنى "على ما هداكم" على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية التقرب بها، وما مصدرية، أو موصولة "وبشر المحسنين" قيل المراد بهم المخلصون، وقيل الموحدون. والظاهر أن المراد بهم كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبد الله بن عمر قال: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: البدن ذات الجوف. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: ليس البدن إلا من الإبل، وأخرجوا عن الحكم نحوه، وأخرجوا عن عطاء نحو ما قال ابن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرباحي عن أبيه قال: أوصى ببدنة، فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلاً أوصى إلي وأوصى ببدنة، فهل تجزىء عني بقرة؟ قال نعم، ثم قال: ممن صاحبكم؟ فقلت من بني رباخ، فقال: ومتى اقتنى بنو رباح البقر إلى الإبل؟ وهم صاحبكم، إنما البقر للأسد وعبد القيس. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الأضاحي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي ظبيان قال: سألت ابن عباس عن قوله: "فاذكروا اسم الله عليها صواف" قال: إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة، ثم قل بسم الل والله أكبر. وأخرج الفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "صواف" قال: قياماً معقولة، وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلاً قد أناخ بدنته وهو ينحرها، فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو عبيدة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهرانقال: في قراءة ابن مسعود صوافن يعني قياماً. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "فإذا وجبت" قال: سقطت على جنبها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال نحرت. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: "القانع" المتعفف "والمعتر" السائل. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال القانع الذي يقنع بما آتيته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: القانع الذي يقنع بما أوتي، والمعتر الذي يعترض. وأخرج عنه أيضاً قال: القانع الذي يجلس في بيته. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في سننه عنه أنه سئل عن هذه الآية، فقال: أما القانع فالقانع بما أرسلت إليه في بيته، والمعتر الذي يعتريك. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: القانع الذي يسأل، والمعتر الذي يتعرض، ولا يسأل. وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريح نحوه.

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ

قرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع وقرأ الباقون يدافع وصيغة المفاعلة هنا مجردة عن معناها الأصلي، وهو وقوع الفعل من الجانبين كما تدل عله القراءة الأخرى. وقد ترد هذه الصيغة ولا يراد بها معناها الأصلي كثيراً مثل عاقبت اللص ونحو ذلك، وقد قدمنا تحقيقه. وقيل إن إيراد هذه الصيغة هنا للمبالغة وقيل للدلالة على تكرر الواقع. والمعنى: يدافع عن المؤمنين غوائل المشركين وقيل يعلي حجتهم وقيل يوفقهم والجملة مستأنفة لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين، وأنه المتولي للمدافعة عنهم، وجملة 38- "إن الله لا يحب كل خوان كفور" مقررة لضمون الجملة الأولى، فإن المدافعة من الله لهم عن عباده المؤمنين مشعرة أتم إشعار بأنهم مبغضون إلى الله غير محبوبين له. قال الزجاج: من ذكر غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوان كفور، وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع لا لإخراج من خان دون خيانتهم،.

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ

أو كفر دون كفرهم 39- "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" قرىء أذن مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول وكذلك يقاتلون، قرىء مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول، وعلى كلا القرائتين فالإذن من الله سبحانه لعباده المؤمنين بأنهم إذا صلحوا للقتال، أو قاتلهم المشركون قاتلوهم. قال المفسرون: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وأيديهم، فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أومر بالقتال" حتى هاجر، فأنزل الله سبحانه هذه الآية بالمدينة، وهي أول آية نزلت في القتال. وهذه الآية مقررة أيضاً لمضمون قوله: "إن الله يدافع" فإن إباحة القتال لهم هي من جملة دفع الله عنهم، والباء في "بأنهم ظلموا" للسببية: أي بسبب أنهم ظلموا بما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب وطرد، ثم وعدهم سبحانه النصر على المشركين، فقال: "وإن الله على نصرهم لقدير" وفيه تأكيد لما مر من المدافعة أيضاً.

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ

ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله: 40- "الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق" ويجوز أن يكون بدلاً من الذين يقاتلون، أو في محل نصب على المدح، أو محل رفع بإضمار مبتدأ، والمراد بالديار مكة "إلا أن يقولوا ربنا الله" قال سيبويه: هو استثناء منقطع: أي لكن لقولهم ربنا الله. أيأخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم ربنا الله. وقال الفراء والزجاج: هو استثناء متصل، والتقدير الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا الله، فيكون مثل قوله سبحانه: " وما تنقم منا إلا أن آمنا " وقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب "ولولا دفع الله الناس" قرأ نافع " ولولا دفع " وقرأ الباقون "ولولا دفع" والمعنى: لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك، وذهبت مواضع العبادة من الأرض، ومعنى "لهدمت" لخربت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل، فالصوامع: هي صوامع الرهبان، وقيل صوامع الصابئين، والبيع: جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى، والصلوات هي كنائس اليهود، واسمها بالعبرانية صلوثاً بالمثلثة فعربت، والمساجد هي مساجد المسلمين. وقيل المعنى: لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد المساجد. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وقيل المعنى: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقيل لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار، وقيل غير ذلك. والصوامع: جمع صومعة، وهي بناء مرتفع، يقال صمع الثريدة: إذا رفع رأسها، ورجع أصمع القلب: أي حاد الفطنة، والأصمع من الرجال: الحديد القول، وقيل الصغير الأذن. ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام. وقد ذكر ابن عطية في صلوات تسع قراءات، ووجه تقديم مواضع عبادات أهل الملل على موضع عبادة المسلمين كونها أقدم بناء وأسبق وجوداً. والظاهر من الهدم المذكور معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره، وقيل المراد به المعنى المجازي، وهو تعطلها من العبادة، وقرئ "لهدمت" بالتشديد، وانتصاب كثيراً في قوله: "يذكر فيها اسم الله كثيراً" على أنه صفة لمصدر محذوف: أي ذكراً كثيراً، أو وقتاً كثيراً، والجملة صفة للمساجد، وقيل لجميع المذكورات "ولينصرن الله من ينصره" اللام هي جواب لقسم محذوف: أي والله لينصر الله من ينصره، والمراد بمن ينصر الله من ينصر دينه وأولياءه، والقوي القادر على الشيء، والعزيز الجليل الشريف قاله الزجاج، وقيل الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع.

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ

والموصول في قوله: 41- "الذين إن مكناهم في الأرض" في موضع نصب صفة لمن في قوله من ينصره قاله الزجاج: وقال غيره هو في موضع جر صفة لقوله للذين يقاتلون. وقيل المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقيل أهل الصلوات الخمس، وقيل ولاة العدل، وقيل غير ذلك، وفيه إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من مكنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك. وقد تقدم تفسير الآية، ومعنى "ولله عاقبة الأمور" أن مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره. وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم "إنا لله وإنا إليه راجعون" ليهلكن القوم، فنزلت "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" الآية. قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال. قال الترمذي: حسن، وقد رواه غير واحد عن الثوري، وليس فيه ابن عباس انتهى. وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: "الذين أخرجوا من ديارهم" أي من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال: فينا نزلت هذه الآية "الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق" والآية بعدها أخرجنا من ديارنا بغير حق: ثم مكناهم في الأرض أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهي لي ولأصحابي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد "ولولا دفع الله الناس" الآية: قال لولا دفع الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدمت صوامع. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لهدمت صوامع" الآية قال: الصوامع التي تكون فيها الرهبان، والبيع مساجد اليهود وصلوات كنائس النصارى، والمساجد مساجد المسلمين. وأخرجا عنه قال: البيع بيع النصارى، وصلوات كنائس اليهود. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: "الذين إن مكناهم في الأرض" قال: أرض المدينة "أقاموا الصلاة" قال: المكتوبة "وآتوا الزكاة" قال: المفروضة "وأمروا بالمعروف" قال لا إله إلا الله "ونهوا عن المنكر" قال: عن الشرك بالله "ولله عاقبة الأمور" قال: وعند الله ثواب ما صنعوا.

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ

قوله: 42- "وإن يكذبوك" إلخ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك المكذبين له كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله. وفيه إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك.

وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ

43- "وقوم إبراهيم وقوم لوط" وقد تقدم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم.

وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ

وإنما غير النظم في قوله: 44- "وكذب موسى" فجاء بالفعل مبنياً للمفعول، لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما كذبه غيرهم من القبط "فأمليت للكافرين" أي أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب "ثم أخذتهم" أي أخذت كل فريق من المكذبين بالعذاب بعد انقضاء مدة الإمهال "فكيف كان نكير" هذا الاستفهام للتقرير: أي فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغير ما كانوا فيه من النعم وإهلاكهم، والنكير اسم من المنكر. قال الزجاج: أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر.

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ

ثم ذكر سبحانه كيف عذب أهل القرى المكذبة فقال 45- " فكأين من قرية أهلكناها " أي أهلكنا أهلها، وقد تقدم الكلام على هذا التركيب في آل عمران، وقرئ أهلكتها، وجملة "وهي ظالمة" حالية، وجملة "فهي خاوية" عطف على "أهلكناها"، لا على ظالمة لأنها حالية، والعذاب ليس في حال الظلم، والمراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها: والخواء: بمعنى السقوط: أي فهي ساقطة " على عروشها " أي على سقوفها، وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة "وبئر معطلة" معطوف على قرية، والمعنى: وكم من أهل قرية، ومن أهل بئر معطلة هكذا قال الزجاج. وقال الفراء: إنه معطوف على عروشها، والمراد بالمعظلة المتروكة. وقيل الخالية عن أهلها لهلاكهم، وقيل الغائرة، وقيل معطلة من الدلاء والأرشية، والقصر المشيد هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحاك، ويدل عليه قول عدي بن زيد: شاده مرمراً وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور شاده: أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: المراد بالمشيد المجصص، مأخوذ من الشيد، وهو الجص، ومنه قول الراجز: لا تحسبني وإن كنت امرأ غمراً كحية الماء بين الطين والشيد وقيل المشيد الحصين قاله الكلبي. قال الجوهري: المشيد المعمول بالشيد، والشيد بالكسر كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر، تقول شاده يشيده جصصه، والمشيد بالتشديد المطول. قال الكسائي: للواحد من قوله تعالى: "في بروج مشيدة". والمعنى المعني: وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة؟ ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهله، أو من آلاته، أو نحو ذلك. قال القرطبي في تفسيره: ويقال إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته، وأصحاب القصر ملوك الحضر، وأصحاب البئر ملوك البدو. حكى الثعلبي وغيره: أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال لها حضوراء، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح فمات صالح، فسمي المكان حضرموت، لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلاً، ثم ذكر قصة طويلة، وقال بعد ذلك: وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضاً كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس، وإقفاره بعد العمران، وأن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك، وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عادوا، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة. قال: وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله: "وكم قصمنا من قرية" فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم انتهى.

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارها بهذه الآثار قائلاً 46- "أفلم يسيروا في الأرض" حثاً لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا، فلهذا أنكر عليهم، كما في قوله: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون " ومعنى "فتكون لهم قلوب يعقلون بها" أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل، كما أن الآذان محل السمع، وقيل إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه. وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره "أو آذان يسمعون بها" أي ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة "فإنها لا تعمى الأبصار" قال الفراء: الهاء عماد يجوز أن يقال: فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة: أي فإن الأبصار لا تعمي، أو فإن القصة لا تعمي الأبصار: أي أبصار العيون " ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار. قال الفراء والزجاج: إن قوله التي في الصدور من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله: "عشرة كاملة"، و"يقولون بأفواههم"، و"يطير بجناحيه".

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ

ثم حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال: 47- "ويستعجلونك بالعذاب" لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشد إنكار، فاستعجالهم له هو على طريقة الاستهزاء والسخرية، وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما تقوله الأنبياء عن الله سبحانه من الوعد منه عز وجل بوقوعه عليهم وحلوله بهم، ولهذا قال: "ولن يخلف الله وعده" قال الفراء: في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة. وذكر الزجاج وجهاً آخر فقال: أعلم أن الله لا يفوته شيء، وإن يوماً عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلونه به من العذاب وتأخره في القدرة، إلا أن الله تفضل بالإمهال انتهى، ومحل جملة: ولن يخلف الله وعده النصب على الحال: أي والحال أنه لا يخلف وعده أبداً، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه حتماً، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها، وعلى الأول تكون جملة "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون" مستأنفة، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال، وخطابهم في ذلك ببيان كما حلمه لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم كما في قوله: " إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا " قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة: أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة. وقيل المعنى: وإن يوماً من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياساً. قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " ما يعبدون " بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: "ويستعجلونك" وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب، واختارها أبو حاتم.

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ

48- "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير" هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوماً بعد الإملاء والتأخير. قيل وتكرير هذا مع ذكره قبله للتأكيد، وليس بتكرار في الحقيقة، لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسباً لقوله: فكيف كان نكير، ولهذا عطف بالفاء بدلاً عن ذلك، والثاني سيق لبيان الإملاء مناسباً لقوله: "ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة" فكأنه قيل: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حيناً، ثم أخذتهم بالعذاب ومرجع الكل إلى حكمي. فجملة: وإلي المصير تذييل لتقرير ما قبلها.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ

49- " قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين " ثم أمره الله سبحانه أن يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم.

فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

50- " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم " فمن آمن وعمل صالحاً فاز بالمغفرة والرزق الكريم وهو الجنة.

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

51- " والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم " ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار وهم الذين سعوا في آيات الله معاجزين، يقال عاجزه سابقه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه، قاله الأخفش. وقيل معنى معاجزين: ظانين ومقدرين أن يعجزوا الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم، قاله الزجاج. وقيل معاندين، قاله الفراء. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "فهي خاوية على عروشها" قال: خربة ليس فيها أحد "وبئر معطلة" عطلها أهلها وتركوها "وقصر مشيد" قال: شيدوه وحصنوه فهلكوا وتركوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "وبئر معطلة" قال: التي تركت لا أهل لها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "وقصر مشيد" قال: هو المجصص. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء نحوه أيضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون" قال: من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة، قال في الآية: هو يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، فقد مضى منها ستة آلاف. وأخرج ابن عدي والديلمي عن أنس مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "معاجزين" قال: مراغمين. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: مشاقين.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

قوله: 52- "من رسول ولا نبي" قيل الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاها، والنبي الذي يكون إلهاماً أو مناماً. وقيل الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله، ولم ينزل عليه كتاب، ولا بد لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" معنى تمنى: تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه. قال الواحدي: وقال المفسرون: معنى تمنى تلا. قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية: أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالساً في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة "والنجم إذا هوى" فأخذ يقرأها عليهم حتى بلغ قوله: " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " وكان ذلك التمني في نفسه، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرقت قريش مسرورين بذلك قالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل فقال: ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً، فأنزل الله هذه الآية، هكذا قالوا. ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال الله: " ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين " وقوله: "وما ينطق عن الهوى" وقوله: "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم" فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون. قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. قال القاضي عياض في الشفاء: إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً. قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى "تمنى" قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين. وكذا قال البغوي: إن أكثر المفسرين قالوا معنى "تمنى" تلا وقرأ كتاب الله، ومعنى " ألقى الشيطان في أمنيته " أي في تلاوته وقراءته. قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام، ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني" وقيل معنى "تمنى" حدث، ومعنى "ألقى الشيطان في أمنيته" في حديثه، روى هذا عن ابن عباس. وقيل معنى "تمنى" قال. فحاصل معنى الآية: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء، وعلى تقدير أن معنى تمنى حدث نفسه كما حكاه الفراء والكسائي فإنهما قالا: تمنى إذا حدث نفسه، فالمعنى: أنه إذا حدث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه. قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة. وقد قيل في تأويل الآية: إن المراد بالغرانيق الملائكة، ويرد بقوله: "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. وقيل إن ذلك جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم سهواً ونسياناً وهما مجوزان على الأنبياء، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرر في مواطنه، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان به فقال: "فينسخ الله ما يلقي الشيطان" أي يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت "ثم يحكم الله آياته" أي يثبتها "والله عليم حكيم" أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله.

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

وجملة 53- "ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة" للتعليل: أي ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة: أي ضلالة "للذين في قلوبهم مرض" أي شك ونفاق "والقاسية قلوبهم" هم المشركون، فإن قلوبهم لا تلين للحق أبداً ولا ترجع إلى الصواب بحال، ثم سجل سبحانه على هاتين الطائفتين: وهما من في قلبه مرض، ومن في قلبه قسوة بأنهم ظالمون فقال: "وإن الظالمين لفي شقاق بعيد" أي عداوة شديدة، ووصف الشقاق بالبعد مبالغة، والموصوف به في الحقيقة من قام به.

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشك والشرك، بين أنه في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حق وصدق فقال: 54- "وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك" أي الحق النازل من عنده، وقيل إن الضمير في أنه راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء، لأنه مما جرت به عادته من أنبيائه، ولكنه يرد هذا قوله: "فيؤمنوا به" فإن المراد بالإيمان بالقرآن: أي يثبتوا على الإيمان به "فتخبت له قلوبهم" أي تخشع وتسكن وتنقاد، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن "وإن الله لهاد الذين آمنوا" في أمور دينهم "إلى صراط مستقيم" أي طريق صحيح لا عوج به. وقرأ أبو حيوة وأن الله لهاد الذين آمنوا بالتنوين.

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ

55- "ولا يزال الذين كفروا في مرية منه" أي في شك من القرآن، وقيل في الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم، وقيل في إلقاء الشيطان، فيقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير ثم رجع عن ذلك؟ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في مرية بضم الميم "حتى تأتيهم الساعة" أي القيامة "بغتة" أي فجأة "أو يأتيهم عذاب يوم عقيم" وهو يوم القيامة لأنه لا يوم بعده، فكان بهذا الاعتبار عقيماً، والعقيم في اللغة من لا يكون له ولد، ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقم، وقيل يوم حرب يقتلون في كيوم بدر، وقيل إن اليوم وصف بالعقم، لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة، فكأنه عقيم من الخير، ومنه قوله تعالى: "إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم" أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر.

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

56- "الملك يومئذ لله" أي السلطان القاهر والاستيلاء التام: يوم القيامة لله سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه، وجملة "يحكم بينهم" مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر، ثم فسر هذا الحكم بقوله سبحانه: "فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم" أي كائنون فيها مستقرون في أرضها منغمسون في نعيمها.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ

57- "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا" أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته "فأولئك لهم عذاب مهين" أي عذاب متصف بأنه مهين للمعذبين بالغ منهم المبلغ العظيم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقرأ " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله، وزاد فنسخت محدث، قال: والمحدثون: صاحب يس، ولقمان، ومؤمن آل فرعون، وصاحب موسى. وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة. قال السيوطي بسند رجاله ثقات سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن لترتجى. ففرح المشركون بذلك وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فجاءه جبريل فقال: اقرأ علي ما جئت به، فقرأ: أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فقال: ما أتيتك بهذا، هذا من الشيطان، فأنزل الله "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى" الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، قال السيوطي بسند صحيح عن سعيد بن جبير، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم، فذكر نحوه، ولم يذكر ابن عباس. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والسدي عن سعيد مرسلاً. ورواه عبد بن حميد عن السدي عن أبي صالح مرسلاً. ورواه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب مرسلاً. وأخرج ابن جرير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه مرسلاً أيضاً. والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها. وقد أسلفنا عن الحفاظ في أول هذا البحث ما فيه كفاية، وفي الباب روايات من أحب الوقوف على جميعها فلينظرها في الدر المنثور للسيوطي، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة، فقد عرفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " يقول إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، قال: يعني بالتمني التلاوة والقراءة، ألقى الشيطان في أمنيته: في تلاوته "فينسخ الله" ينسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد "إذا تمنى" قال: تكلم "في أمنيته" قال: كلامه. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: "عذاب يوم عقيم" قال يوم بدر. وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: عذاب يوم عقيم، قال يوم بدر. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: يوم القيامة لا ليلة له. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك مثله.

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصاً لهم بمزيد الشرف، فقال: 58- "والذين هاجروا في سبيل الله" قال بعض المفسرين: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر، ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكل من سبيل الله "ثم قتلوا أو ماتوا" أي في حال المهاجرة، واللام في "ليرزقنهم الله رزقاً حسناً" جواب قسم محذوف، والجملة خبر الموصول بتقدير القول، وانتصاب رزقاً على أنه مفقول ثان: أي مرزوقاً حسناً، أو على أنه مصدر مؤكدة، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وقيل هو الغنيمة لأنه حلال، وقيل هو العلم والفهم كقول شعيب "ورزقني منه رزقاً حسناً" قرأ ابن عامر وأهل الشام "ثم قتلوا" بالتشديد على التكثير، وقرأ الباقون بالتخفيف "وإن الله لهو خير الرازقين" فإنه سبحانه يرزق بغير حساب، وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض، فهو منه سبحانه، لا رازق سواه ولا معطي غيره، والجملة تذييل مقررة لما قبلها.

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ

وجملة 59- "ليدخلنهم مدخلاً يرضونه" مستأنفة، أو بدل من جملة ليرزقنهم الله. قرأ أهل المدينة "مدخلاً" بفتح الميم، وقرأ الباقون بضمها، وهو اسم مكان أريد به الجنة، وانتصابه على أنه مفعول ثان أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان. وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم، على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا "وإن الله لعليم" بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم "حليم" عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة.

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

والإشارة بقوله: 60- "ذلك" إلى ما تقدم. قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، ومعنى "ومن عاقب بمثل ما عوقب به" من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، وسمي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" وقوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه، والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه، ومعنى " ثم بغي عليه " أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى، قيل المراد بهذا البغي: هو ما وقع من المشركين من أزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به، واللام في "لينصرنه الله" جواب قسم محذوف: أي لينصرن الله المبغي عليه على الباغي "إن الله لعفو غفور" أي كثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب. وقيل العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو، وقيل إن معنى " ثم بغي عليه " أي ثم كان المجازي مبغياً عليه: أي مظلوماً، ومعنى ثم تفاوت الرتبة، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب: البادي أظلم. وقيل إن هذه الآية مدنية، وهي في القصاص والجراحات،.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

والإشارة بقوله: 61- "ذلك بأن الله يولج الليل في النهار" إلى ما تقدم من نصر الله سبحانه للمبغي عليه، وهو مبتدأ وخبره جملة بأن الله يولج، والباء للسببية: أي ذلك بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وعبر عن الزيادة بالايلاج، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر. وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج "وأن الله سميع" يسمع كل مسموع "بصير" يبصر كل مبصر، أو سميع للأقوال مبصر للأفعال، فلا يعزب عنه مثال ذرة.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ

والإشارة بقوله: 62- "ذلك بأن الله هو الحق" إلى ما تقدم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة القاهرة والعلم التام: أي هو سبحانه ذو الحق، فدينه حق، وعبادته حق ونصره لأوليائه على أعدائه حق، ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حق " وأن ما يدعون من دونه هو الباطل " قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة "تدعون" بالفوقية على الخطاب للمشركين، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرى الباقون بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيدة. والمعنى: إن الذين تدعونهم آلهة، وهي الأصنام هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلهاً "وأن الله هو العلي" أي العالي على كل شيء بقدرته المتقدس على الأشباه والأنداد المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات "الكبير" أي ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرده بالإلهية.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ

ثم ذكر سبحانه دليلاً بيناً على كمال قدرته، فقال: 63- "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة" الاستفهام للتقرير، والفاء للعطف على أنزل، وارتفع الفعل بعد الفاء لكونه استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل وسيبويه. قال الخليل: المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا، كما قال الشاعر: ‌ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق معناه: قد سألته فنطق. قال الفراء: ألم تر خبر كما تقول في الكلام: إن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة: أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة: أي ذوات بقل وسباع، وهو عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة الإخضرار مع الإشعار بتجدد الإنزال واستمراره، وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل، والرفع هنا متعين لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار، والمقصود إثباته. قال ابن عطية: هذا لا يكون: يعني الاخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة. والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها كما في قوله: "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" والمراد بقوله: "إن الله لطيف" أنه يصل علمه إلى كل دقيق وجليل، وقيل لطيف بأرزاق عباده، وقيل لطيف باستخراج النبات، ومعنى "خبير" أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم، وقيل خبير بما ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر، وقيل خبير بحاجتهم وفاقتهم.

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

64- "له ما في السموات وما في الأرض" خلقاً وملكاً وتصرفاً وكلهم محتاجون إلى رزقه "وإن الله لهو الغني" فلا يحتاج إلى شيء "الحميد" المستوجب الحمد في كل حال.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

65- "ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض" هذه نعمة أخرى ذكرها الله سبحانه، فأخبر عباده بأنه سخر لهم ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار وجعله لمنافعهم "والفلك" عطف على ما، أو على اسم أن: أي وسخر لكم الفلك في حال جريها في البحر، وقرأ عبد الرحمن الأعرج والفلك بالرفع على الابتداء وما عبده خبره، وقرأ الباقون بالنصب. ومعنى "تجري في البحر بأمره" أي بتقديره، والجملة في محل نصب على الحال على قراءة الجمهور "ويمسك السماء أن تقع على الأرض" أي كراهة أن تقع، وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك، والجملة معطوفة على "تجري" "إلا بإذنه" أي بإراداته ومشيئته، وذلك يوم القيامة "إن الله بالناس لرؤوف رحيم" أي كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم تفضلاً منه على عباده وإنعاماً عليهم.

وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ

ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال: 66- "وهو الذي أحياكم" بعد أن كنتم جماداً "ثم يميتكم" عند انقضاء أعماركم "ثم يحييكم" عند البعث للحساب والعقاب " إن الإنسان لكفور " أي كثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد، لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين، واقرأوا إن شئتم، "والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا" إلى قوله: "حليم"" وإسناد ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن عبد الكريم بن الحارث عن ابن عقبة، يعني أبا عبيدة بن عقبة قال: قال شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان: يعني الفارسي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان برودس، فمروا بجنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفى، فمال الناس عن القتيل، فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله "والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا" الآية. وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا أبو زرعة عن زيد بن بشر أخبرني ضمام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المغافري يقولان: كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. قلت: ويؤيد هذا قول الله سبحانه: "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله". وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "ومن عاقب بمثل ما عوقب به" قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية في ليلتين بقيتا من المحرم فلقوا المشركين، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، وإن أصحاب محمد ناشدوهم وذكروهم بالله أن يعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام إلا من بادأهم، وإن المشركين بدأوا فقاتلوهم، فاستحل الصحابة قتالهم عند ذلك فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم، وهو مرسل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ومن عاقب" الآية قال: تعاون المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخرجوه، فوعده الله أن ينصره، وهو في القصاص أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد " وأن ما يدعون من دونه هو الباطل " قال: الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "إن الإنسان لكفور" قال: يعد المصيبات وينسي النعم.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ

عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان عن منازعته فقال: 67- "لكل أمة جعلنا منسكاً" أي لكل قرن من القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى الأخرى، وجملة "هم ناسكوه" صفة لمنسكاً، والضمير لكل أمة: أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن منسك المسلمين. والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدل عليه هم ناسكوه، ولم يقل ناسكون فيه. وقيل المنسك موضع أداء الطاعة، وقيل هو الذبائح، ولا وجه للتخصيص، ولا اعتبار بخصوص السبب، والفاء في قوله: "فلا ينازعنك في الأمر" لترتيب النهي على ما قبله، والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم: أي قد عينا لكل أمة شريعة، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية، وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين، والنهي إما على حقيقته، أو كناية عن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى نزاعهم له. قال الزجاج: إنه نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم: أي لا تنازعهم أنت كما تقول لا يخاصمك فلان: أي لا تخاصمه، وكما تقول لا يضاربنك فلان: أي لا تضاربه، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً، ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه. وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية: فلا ينازعك: أي فلا يجادلنك. قال: ودل على هذا "وإن جادلوك" وقرأ أبو مجلز فلا ينزعنك في الأمر أي لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك. وقرأ الباقون "ينازعنك" من المنازعة "وادع إلى ربك" أي وادع هؤلاء المنازعين أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به "إنك لعلى هدى مستقيم" أي طريق مستقيم لا اعوجاج فيه.

وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ

68- "وإن جادلوك" أي وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان وظهور الحجة عليهم " فقل الله أعلم بما تعملون " أي فكل أمرهم إلى الله وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد.

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

69- "الله يحكم بينكم" أي بين المسلمين والكافرين "يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون" من أمر الدين فيتبين حينئذ الحق من الباطل، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل، وقيل إنها منسوخة بآية السيف.

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

وجملة 70- "ألم تعلم" مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، والاستفهام للتقرير: أي قد علمت يا محمد وتيقنت " أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض " ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مختلفون إن ذلك الذي في السماء والأرض من معلوماته "في كتاب" أي مكتوب عنده في أم الكتاب "إن ذلك على الله يسير" أي إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه.

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ

71- "ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً" هذا حكاية لبعض فضائحهم: أي إنهم يعبدون أصناماً لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه "وما ليس لهم به علم" من دليل عقل يدل على جواز ذلك بوجه من الوجوه "وما للظالمين من نصير" ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُو

وجملة 72- "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات" معطوفة على يعبدون، وانتصاب بينات على الحال: أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة "تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر" أي الأمر الذي ينكر، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعهم، أو المراد بالمنكر الإنكار: أي تعرف في وجوههم إنكارها، وقيل هو التجبر والترفع، وجملة "يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم؟ فقيل يكادون يسطون: أي يبطشون، والسطوة شدة البطش، يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب، أو شتم، أو أخذ باليد، وأصل السطو القهر. وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز، أو من السنة الصحيحة مخالفاً لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطوو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف، والله ناصر الحق ومظهر الدين وداحض الباطل ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس ما نزل إليهم. وهو حسبنا ونعم الوكيل، ثم أمر رسوله أن يرد عليهم، فقال: "قل أفأنبئكم" أي أخبركم "بشر من ذلكم" الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم، وهو النار التي أعدها الله لكم، فالنار مرتفعة على أنها خبر لمبتدإ محذوف، والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما هذا الأمر الذي هو شر مما نكابده ونناهده عند سماعنا ما تتلوه علينا، فقال هو "النار وعدها الله الذين كفروا" وقيل إن النار مبتدأ وخبره جملة وعدها الله الذين كفروا وقيل المعنى: أفأخبركم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوئب عليهم، وقرئ النار بالنصب على تقدير أعني، وقرئ بالجر بدلاً من شر، "وبئس المصير" أي الموضع الذي تصيرون إليه، وهو النار. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "هم ناسكوه" قال: يعني هم ذابحوه "فلا ينازعنك في الأمر" يعني في أمر الذبح. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: "فلا ينازعنك في الأمر" قول أهل الشرك: أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه، وأما ما ذبحتم بأيديكمك فهو حلال. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: خلق الله اللوح المحفوظ لمسير مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم "ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض" يعني ما في السموات السبع والأرضين السبع "إن ذلك" العلم "في كتاب" يعني في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السموات والأرضين "إن ذلك على الله يسير" يعني هين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "يكادون يسطون" يبطشون.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ

قوله: 73- "يا أيها الناس ضرب مثل" هذا متصل بقوله: "ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً"، قال الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلاً "فاستمعوا" قولهم، يعني أن الكفار جعلوا لله مثلاً بعبادتهم غيره، فكأنه قال: جعلوا لي شبهاً في عبادتي فاستمتعوا خبر هذا الشبه. وقال القتيبي: إن المعنى يا أيها الناس مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذباباً، وإن سلبها شيئاً لم تستطع أن تستنفذه منه. قال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل لما يعبدونه من دونه مثلاً. قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه: أي بين الله لكم شبهاً ولمعبودكم. وأصل المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول مسيرة في الناس مستغربة عندهم، وجعلوا مضربها مثلاً لموردها، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية. والمراد بما يدعونه من دون الله: الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها. وقيل المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله لكونهم أهل الحل والعقد فيهم. وقيل الشياطين الذين حملوهم على معصية الله، والأول أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل، والذياب اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى، وجمع القلة أذبة، والكثرة ذبان مثل غراب وأغربة وغربان. وقال الجوهري: الذباب معروف الواحد ذبابة، والمعنى: لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات، وجملة "ولو اجتمعوا له" معطوفة على جملة أخرى شرطية محذوفة: أي لو لم يجتمعوا له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له، والجواب محذوف والتقدير لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال: أي لن يخلقوه على كل حال. ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال: " وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه " أي إذا أخذ منهم الذباب شيئاً من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ والإنقاذ التخلص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ، وعن استنقاذ ما أخذه عليهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرماً وأشد منه قوة أعجز وأضعف، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب، فقال: "ضعف الطالب والمطلوب" فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب الذباب. وقيل الطالب عابد الصنم، والمطلوب الصنم. وقيل الطالب الذباب والمطلوب الآلهة.

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته فقال: 74- "ما قدروا الله حق قدره" أي ما عظموه حق تعظيمه ولا عرفوه حق معرفته، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال، وقد تقدم في الأنعام "إن الله لقوي" على خلق كل شيء "عزيز" غالب لا يغالبه أحد، بخلاف آلهة المشركين، فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضر ولا تقدر على شيء.

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

ثم أراد سبحانه أن يرد عليهم ما يعتقدونه في النبوات والإلهيات فقال: 75- "الله يصطفي من الملائكة رسلاً" كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل "و" يصطفي أيضاً رسلاً "من الناس" وهم الأنبياء، فيرسل الملك إلى النبي، والنبي إلى الناس، أو يرسل الملك لقبض أرواح مخلوقاته، أو لتحصيل ما ينفعكم، أو لإنزال العذاب عليهم " فإن الله سميع " لأقوال عباده "بصير" بمن يختاره من خلقه.

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

76- "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم" أي ما قدموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشر كقوله تعالى: "ونكتب ما قدموا وآثارهم" "وإلى الله ترجع الأمور" لا إلى غيره.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

ولما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته صرح بالمقصود فقال: 77- "يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا" أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم، وخص الصلاة لكونها أشرف العبادات. ثم عمم فقال: "واعبدوا ربكم" أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها "وافعلوا الخير" أي ما هو خير، وهم أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة، وقيل المراد بالخير هنا المندوبات. ثم علل ذلك بقوله: "لعلكم تفلحون" أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح. وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله، وقد تقدم أن هذه السورة فضلت بسجدتين، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية.

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ

ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله، فقال: 78- "وجاهدوا في الله" أي في ذاته ومن أجله، والمراد به الجهاد الأكبر، وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين. وقيل المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدمة، أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم، ومعنى "حق جهاده" المبالغة في الأمر بهذا الجهاد، لأنه أضاف الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق: أي جهاداً خالصاً لله، فعكس ذلك لقصد المبالغة، وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعاً، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولاً له ومن أجله. وقيل المراد بحق جهاده هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم، وقيل المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله. وقال مقاتل والكلبي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" كما أن قوله: "اتقوا الله حق تقاته" منسوخ بذلك، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ. ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله: "هو اجتباكم" أي اختاركم لدينه، وفيه تشريف لهم عظيم. ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" أي من ضيق وشدة. وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله فقيل: هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين. وقيل المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره، وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة، وكذا في الفطر والأضحى. وقيل المعنى: أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجاً بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم مما يقدرون عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج، فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل. وقيل المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجاً بفتح باب التوبة والاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة والأرش، أو القصاص في الجنايات، ورد المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه. والظاهر أن الآية أعم من هذا كله، فقد حط سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده: إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم، أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه، أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله، وما أنفع هذه الآية وأجل موقعها وأعظم فائدتها، ومثلها قوله سبحانه: "فاتقوا الله ما استطعتم" قوله: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وقوله: "ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به". وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال: قد فعلت كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية، والأحاديث في هذا كثيرة، وانتصاب ملة في "ملة أبيكم إبراهيم" على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله: أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم. وقال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم. وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف: أي كملة. وقيل التقدير: وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم، فأقام الملة مقام الفعل، وقيل على الإغراء، وقيل على الاختصاص، وإنما جعل سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة، ولأن له عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن لكونه أباً لنبيهم صلى الله عليه وسلم "هو سماكم المسلمين من قبل" أي في الكتب المتقدمة "وفي هذا" أي القرآن، والضمير لله سبحانه، وقيل راجع إلى إبراهيم. والمعنى هو: أي إبراهيم سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا: أي في حكمه أن من اتبع محمداً فهو مسلم. قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة. ثم علل سبحانه ذلك بقوله "ليكون الرسول شهيداً عليكم" أي بتبليغه إليكم "وتكونوا شهداء على الناس" أن رسلهم قد بلغتهم، وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في البقرة. ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال: "فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما "واعتصموا بالله" أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون، والتجئوا إليه في جميع أموركم، ولا تطلبوا ذلك إلا منه "هو مولاكم" أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها "فنعم المولى ونعم النصير" أي لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم، وقيل المراد بقوله اعتصموا بالله: تمسكوا بدين الله، وقيل ثقوا به تعالى. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الناس ضرب مثل" قال: نزلت في صنم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "ضعف الطالب والمطلوب" قال: الطالب آلهتهم، والمطلوب الذباب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله: "لا يستنقذوه منه" قال: لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء من الذباب. وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً عن أنس وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اصطفى موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة". وأخرج أيضاً عن أنس وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "موسى بن عمران صفي الله". واخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي عمر: ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ: وجاهدوا في الله جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ قلت بلى: فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو المغيرة الوزراء. وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره. وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان وابن مردويه والعسكري في الأمثال عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية "وما جعل عليكم في الدين من حرج" قال: الضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد قال: قال أبو هريرة لابن عباس: أما علينا في الدين من حرج في أن تسرق أو نزني؟ قال بلى، قال: فـ "ما جعل عليكم في الدين من حرج"؟ قال: الإصر الذي كان علة بني إسرائيل وضع عنكم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن شهاب أن ابن عباس كان يقول: وما جعل عليكم في الدين من حرج توسعة الإسلام، ما جعل الله من التوبة والكفارات. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن يسار عن ابن عباس "ما جعل عليكم في الدين من حرج" قال: هذا في هلال رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شكوا في الأضحى، وفي الفطر وأشباهه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال: ادع لي رجلاً من هذيل، فجاءه فقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج، فقال ابن عباس: الذي ليس له مخرج. وأخرج سعيد بن جبير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق عبيد الله بن أبي يزيد أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال: ها هنا أحد من هذيل، قال رجل أنا، فقال: ما تعدون الحرجة فيكم؟ قال: الشيء الضيق، قال: هو ذاك. وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية "وما جعل عليكم في الدين من حرج" ثم قال لي: ادع لي رجلاً من بني مدلج، قال عمر: ما الحرج فيكم؟ قال: الضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ملة أبيكم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "سماكم المسلمين من قبل" قال: الله عز وجل: سماكم. وروي نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وصححه، والنسائي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والبارودي وابن قانع والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا بدعوة الجاهلية فإنه من جثي جهنم، قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: نعم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله".


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس