islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

فتح القدير
14170

16-النحل

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

آياتها مائة آية وثمان وعشرون آية وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس وعن أبي الزبير. وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: سورة النحل نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، قيل وهي قوله: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" الآية، وقوله: "واصبر وما صبرك إلا بالله" في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وقوله: "ثم إن ربك للذين هاجروا" الآية، وقيل الثالثة "ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً" إلى قوله "بأحسن ما كانوا يعملون" وتسمى هذه السورة سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها. قوله: 1- "أتى أمر الله" أي عقابه للمشركين، وقال جماعة من المفسرين: القيامة. قال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه، وقيل إن المراد بأمر الله حكمه بذلك، وقد وقع وأتى، فأما المحكوم به فإنه لم يقع، لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين، فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود، وقيل إن المراد بإتيانه إتيان مباديه ومقدماته "فلا تستعجلوه" نهاهم عن استعجاله: أي فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت، وقد كان المشركون يستعجلون عذاب الله كما قال النضر بن الحارث "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية، والمعنى: قرب أمر الله فلا تستعجلوه، وقد كان استعجالهم له على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة، وفي نهيهم عن الاستعجال تهكم بهم "سبحانه وتعالى عما يشركون" أي تنزه وترفع عن إشراكهم، أو عن أن يكون له شريك، وشركهم ههنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب، أو قيام الساعة استهزاءً وتكذيباً، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك، وأنه عاجز عنه والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوقات لا من صفات الخالق، فكان ذلك شركاً.

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ

2- "ينزل الملائكة بالروح من أمره" قرأ المفضل عن عاصم تنزل الملائكة، والأصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الأعمش تنزل على البناء للمفعول، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ننزل بالنون، والفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الباقون "ينزل الملائكة" بالياء التحتية إلا أن ابن كثير وأبا عمرو يسكنان النون، والفاعل هو الله سبحانه، ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره، ونهاهم عن الاستعجال ترددوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته، والروح: الوحي، ومثله "يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده" وسمي الوحي روحاً لأنه يحيي قلوب المؤمنين، فإن من جملة الوحي القرآن، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد، وقيل المراد أرواح الخلائق، وقيل الروح الرحمة، وقيل الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيد: الروح هنا جبريل، وتكون الباء على هذا بمعنى مع، ومن في "من أمره" بيانية: أي بأشياء أو مبتدئاً من أمره أو صفة للروح، أو متعلق بينزل، ومعنى "على من يشاء من عباده" على من اختصه بذلك، وهم الأنبياء "أن أنذروا". قال الزجاج "أن أنذروا" بدل من الروح أي ينزلهم بأن أنذروا، وأن إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر: أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا: أي أعلموا الناس "أنه لا إله إلا أنا" أي مروهم بتوحيدي وأعلموهم ذلك مع تخويفهم، لأن في الإنذار تخويفاً وتهديداً، والضمير في أنه للشأن "فاتقون" الخطاب للمستعجلين على طريق الالتفات، وهو تحذير لهم من الشرك بالله.

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

ثم إن الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده ذكر دلائل التوحيد فقال: 3- "خلق السموات والأرض بالحق" أي أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليها بالحق: أي للدلالة على قدرته ووحدانيته، وقيل المراد بالحق هنا الفناء والزوال "تعالى" الله "عما يشركون" أي ترفع وتقدس عن إشراكهم أو عن شركة الذي يجعلونه شريكاً له.

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ

ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية قدمه وخصه بالذكر فقال: 4- "خلق الإنسان" وهو اسم لجنس هذا النوع "من نطفة" من جماد يخرج من حيوان، وهو المني فنقله أطواراً إلى أن كملت صورته، ونفخ فيه الروح وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش فيها "فإذا هو" بعد خلقه على هذه الصفة "خصيم" أي كثير الخصومة والمجادلة، والمعنى: أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته، ومعنى "مبين" ظاهر الخصومة واضحها، وقيل يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل، والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه ومثله قوله تعالى: "أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين".

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ

ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع، فالامتنان بها أكمل من الامتناع بغيرها، فقال: "والأنعام خلقها لكم" وهي الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ومنه قول حسان: وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء فعطف الشاء على النعم، وهي هنا الإبل خاصة. قال الجوهري: والنعم واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال: "فيها دفء" الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، والجملة في محل نصب على الحال "ومنافع" معطوف على دفء، وهي درها وركوبها ونتاجها والحراثة بها ونحو ذلك. وقد قيل إن الدفء: النتاج واللبن. قال في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال: والدفء أيضاً السخونة، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأول فلا بد من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحاً، وقيل المراد بالمنافع النتاج خاصة، وقيل الركوب "ومنها تأكلون" أي من لحومها وشحومها، وخص هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها، وقيل خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر.

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ

6- "ولكم فيها جمال" أي لكم فيها مع ما تقدم ذكره جمال، والجمال: ما يتجمل به ويتزين، والجمال: الحسن، والمعنى هنا: لكم فهيا تجمل وتزين عند الناظرين إليها "حين تريحون وحين تسرحون" أي في هذين الوقتين، وهما وقت ردها من مراعيها، ووقت تسريحها إليها، فالرواح رجوعها بالعشي من المراعي، والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة، يقال سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً: إذا غدوت بها إلى المرعى، وقدم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها، وخص هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها لأنها عنداستقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب.

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

7- "وتحمل أثقالكم" الأثقال جمع ثقل، وهو متاع المسافر من طعام وغيره وسمي ثقلاً لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل المراد أبدانهم "إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" أي لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معهم إبل تحمل أثقالكم إلا بشق الأنفس لبعده عنكم، وعدم وجود ما يحمل ما لا بد لكم منه في السفر. وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين، وقيل المراد بالبلد مكة، وقيل اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب، وشق الأنفس: مشقتها. قرأ الجمهور بكسر الشين، وقرأ أبو جعفر بفتحها. قال الجوهري: والشق المشقة، ومنه قوله: "لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" وحكى أبو عبيدة بفتح الشين، وهما بمعنى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدراً من شققت عليه أشق شقاً، والمكسور بمعنى النصف، يقال أخذت شق الشاة وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية: لم تكونوا بالغيه إلا بذهاب نصب الأنفس من التعب، وقد امتن الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم.

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

ثم خص الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، والاستثناء من أعم العام: أي لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس 8- "والخيل والبغال والحمير" بالنصب عطفاً على الأنعام: أي وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها، وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل كضائن واحد الضأن، وقيل لا واحد له. ثم علل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله: "لتركبوها" وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها "و" عطف "زينة" على محل "لتركبوها" لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق لتركبوها، لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة فعل الزائن وهو الخالق، والتحقيق فيه أن الركوب هو المعتبر في المقصود، بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال: خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات. وقد استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزاً لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم. وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل، ولا حجة لأهل القول الأول في التعليل بقوله "لتركبوها" لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب، وأيضاً لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدمنا أن هذه السورة مكية. والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال، وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره "ويخلق ما لا تعلمون" أي يخلق ما لا يحبط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدده ها هنا، وقيل المراد من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض، وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به، وقيل هو ما أعد الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر، وقيل هو خلق السوس في النبات والدود في الفواكه، وقيل عين تحت العرش، وقيل نهر من النور، وقيل أرض بيضاء، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد.

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ

9- "وعلى الله قصد السبيل" القصد مصدر بمعنى الفاعل، فالمعنى وعلى الله قصد السبيل: أي هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع، وقيل هو على حذف مضاف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل: الإسلام، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين، والقصد في السبيل هو كونه موصلاً إلى المطلوب، فالمعنى: وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب "ومنها جائر" الضمير في "منها" راجع إلى السبيل بمعنى الطريق، لأنها تذكر وتؤنث، وقيل راجع إليها بتقدير مضاف: أي ومن جنس السبيل جائز مائل عن الحق عادل عنه، فلا يهتدي به، ومنه قول امرئ القيس: ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل وقيل إن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى: ومنهم جائر عن سبيل الحق: أي عادل عنه، فلا يهتدي إليه قيل وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل أهل الملل الكفرية، وفي مصحف عبد الله " ومنها جائر " وكذا قرأ علي "ولو شاء لهداكم أجمعين" أي ولو شاء أن يهديكم جميعاً إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق والدلالة عليها: "وهديناه النجدين"، وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمناً والبعض كافراً كما نطق بذلك القرآن في غير موضع. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال "لما نزل أتى أمر الله ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت "فلا تستعجلوه" فسكنوا". وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال لما نزلت "أتى أمر الله" قاموا، فنزلت "فلا تستعجلوه". وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس "أتى أمر الله" قال: خروج محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال "لما نزلت هذه الآية "أتى أمر الله" قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض إن هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت: "اقترب للناس حسابهم"، فقالوا: أن هذا يزعم مثلها أيضاً، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت "ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة" الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "أتى أمر الله" قال: الأحكام والحدود والفرائض. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: "ينزل الملائكة بالروح" قال: بالوحي. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عنه قال الروح: أمر من أمر الله وخلق من خلق الله، وصورهم على صورة بني آدم، وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح، ثم تلا "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً". وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن "ينزل الملائكة بالروح" قال: القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لكم فيها دفء" قال: الثياب "ومنافع" قال: ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: نسل كل دابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وتحمل أثقالكم إلى بلد" يعني مكة "لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" قال: لو تكلفتموه لم تطيقوه إلا بجهد شديد. وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت "نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه". وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر قال "أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية". وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضاً، وهما على شرط مسلم. وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل". وأما ما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير"، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام وفيه مقال. ولو فرضنا أن الحديث صحيح لم يقو على معارضة أحاديث الحل على أنه يكون أن هذا الحديث المصرح بالتحريم متقدم على يوم خيبر فيكون منسوخاً. وأخرج الخطيب وابن عساكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ويخلق ما لا تعلمون" قال: البراذين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مما خلق الله أرضاً من لؤلؤة بيضاء ثم ساق من أوصافها ما يدل على أن الحديث موضوع، ثم قال في آخره فذلك قوله "ويخلق ما لا تعلمون"". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وعلى الله قصد السبيل" يقول: على الله أن يبين الهدى والضلالة "ومنها جائر" قال السبل المتفرقة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وعلى الله قصد السبيل" قال: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته "ومنها جائر" قال: من السبل ناكب عن الحق، قال: وفي قراءة ابن مسعود ومنكم جائر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي أنه كان يقرأ هذه الآية ومنكم جائر.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ

لما استدل سبحانه على وجوده وكمال قدرته وبديع صنعته بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال: 10- "هو الذي أنزل من السماء" أي من جهة السماء، وهي السحاب "ماء" أي نوعاً من أنواع الماء، وهو المطر "لكم منه شراب" يجوز أن يتعلق لكم بأنزل أو هو خبر مقدم، وشراب مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لما "ومنه" في محل نصب على الحال، والشراب اسم لما يشرب كالطعام لما يطعم، والمعنى: أن الماء النازل من السماء قسمان: قسم يشربه الناس، ومن جملته ماء الآبار والعيون، فإنه من المطر لقوله: "فسلكه ينابيع في الأرض" وقسم يحصل منه شجر ترعاه المواشي. قال الزجاج: كل ما ينبت من الأرض فهو شجر، لأن التركيب يدل على الاختلاط، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة: المراد من الشجر في الآية الكلأ، وقيل الشجر كل ما له ساق كقوله تعالى: "والنجم والشجر يسجدان" والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز "فيه تسيمون" أي في الشجر ترعون مواشيكم، يقال سامت السائمة تسوم سوماً رعت فهي سائمة، وأسمتها: أي أخرجتها إلى الرعي فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم الإبعاد في المرعى. قال الزجاج: أخذ من السومة وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها.

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

2- "ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب" قرأ أبو بكر عن عاصم ننبت بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية: أي ينبت الله لكم بذلك الماء الذي أنزله من السماء، وقدم الزرع لأنه أصل الأغذية التي يعيش بها الناس، وأتبعه بالزيتون لكونه فاكهة من وجه وإداماً من وجه لكثرة ما فيه من الدهن، وهو جمع زيتونة، ويقال للشجرة نفسها زيتونة، ثم ذكر النخيل لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف الفواكه، وجمع الأعناب لاشتمالها على الأصناف المختلفة، ثم أشار إلى سائر الثمرات فقال: "ومن كل الثمرات" كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله: "ويخلق ما لا تعلمون"، وقرأ أبي بن كعب ينبت لكم به الزرع يرفع الزرع وما بعده "إن في ذلك" أي الإنزال والإنبات "لآية" عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرد بالربوبية "لقوم يتفكرون" في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته.

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

12- "وسخر لكم الليل والنهار" معنى تسخيرهما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم، يتعاقبان دائماً كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمره به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم، فإنها تجري على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان، ومعنى مسخرات مذللات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام "والشمس والقمر والنجوم مسخرات" بالرفع على الابتداء والخبر. وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على الليل والنهار، وقرأ حفص عن عاصم برفع النجوم على أنه مبتدأ وخبره مسخرات "بأمره" وعلى قراءة النصب في مسخرات يكن حالاً مؤكدة، لأن التسخير قد فهم من قوله "وسخر"، وقرأ حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي مسخرات "إن في ذلك" التسخير "لآيات لقوم يعقلون" أي يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرده وعدم وجود شريك له، وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، وجمعها ليطابق قوله مسخرات، وقيل: إن وجه الجمع هو أن كلاً من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها بخلاف ما تقدم من الإنبات فإنه آية واحدة، ولا يخلو كل هذا عن تكلف، والأولى أن يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار وللإفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتناناً وتنبيهاً على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما.

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ

13- "وما ذرأ لكم في الأرض" أي خلق: يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً: خلقهم: فهو ذارئ، ومنه الذرية، وهي نسل الثقلين، وقد تقدم تحقيق هذا، وهو معطوف على النجوم رفعاً ونصباً: أي وسخر لكم ما ذرأ في الأرض. فالمعنى: أنه سبحانه سخر سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية، وانتصاب مختلفاً ألوانه على الحال، وألوانه: هيئاته ومناظره، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكل في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرده "إن في ذلك" التسخير لهذه الأمور "لآية" واضحة "لقوم يذكرون" فإن من تذكر اعتبر، ومن اعتبر استدل على المطلوب، قيل وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإراحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له، وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة، فمن شك بعد ذلك فلا حس له، وفي هذا من التكلف ما لا يخفى. والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدم في إفراد الآية في البعض وجمعها في البعض الآخر، وبيانه أن كلاً من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر لاعتبارات ظاهرة غير خفية، فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة.

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

14- "وهو الذي سخر البحر" امتن الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الرب سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوعة المختلفة الأمكنة إتماماً للحجة، وتكميلاً للإنذار، وتوضيحاً لمنازع الاستدلال، ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال: "لتأكلوا منه لحماً طرياً" المراد به السمك، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة "وتستخرجوا منه حلية تلبسونها" أي لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه: "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" وظاهر قوله "تلبسونها" أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان: أي يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله "تلبسونها" بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهن من جملتهم، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهاً بهن، وقد ورد الشرع بمنعه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان "وترى الفلك مواخر فيه" أي ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها. ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها. قال الجوهري: مخر السابح: إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض: شقها للزراعة، وقيل مواخر: جواري، وقيل معترضة، وقيل تذهب وتجيء، وقيل ملججة. قال ابن جرير: المخر في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد بكونه في ماء "ولتبتغوا من فضله" معطوف على تستخرجوا، وما بينهما اعتراض، أو علة على محذوفة تقديره لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا: أي لتتجروا فيه فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه "ولعلكم تشكرون" أي إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان. قيل ولعل وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له.

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى فقال: 15- "وألقى في الأرض رواسي" أي جبالاً ثابتة، يقال رسا يرسو: إذا ثبت وأقام، قال الشاعر: فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع "أن تميد بكم" أي كراهة أن تميد بكم على ما قاله البصريون، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون. والميد: الاضطراب يميناً وشمالاً، ماد الشيء يميد ميداً تحرك، ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر "وأنهاراً" أي وجعل فيها أنهاراً، لأن الإلقاء ها هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله: "وألقيت عليك محبة مني"، "وسبلاً" أي وجعل فيها سبلاً وأظهرها وبينها لأجل تهتدون بها في أسفاركم إلى مقاصدكم. والسبل: الطرق.

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ

16- "وعلامات" أي وجعل فيها علامات وهي معالم الطرق. والمعنى: أنه سبحانه جعل للطرق علامات يهتدون بها "وبالنجم هم يهتدون" المراد بالنجم الجنس: أي يهتدون به في سفرهم ليلاً. وقرأ ابن وثاب "وبالنجم" بضم النون والجيم، ومراده النجوم فقصره، أو هو جمع نحو سقف وسقف، وقيل المراد بالنجم هنا الجدي والفرقدان قاله الفراء، وقيل الثريا، وقيل العلامات الجبال، وقيل هي النجوم، لأن من النجوم ما يهتدى به، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها. وذهب الجمهور إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار، وقيل هو الاهتداء إلى القبلة، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك. قال الأخفش: تم الكلام عند قوله وعلامات، وقوله: "وبالنجم هم يهتدون" كلام منفصل عن الأول.

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: 17- "أفمن يخلق" هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة "كمن لا يخلق" شيئاً منها ولا يقدر على إيجاد واحد منها، وهو هذه الأصنام التي تعبدونها وتجعلونها شركاء لله سبحانه، وأطلق عليها لفظ من إجراءً لها مجرى أولي العلم جرياً على زعمهم بأنها آلهة، أو مشاكلة لقوله "أفمن يخلق" لوقوعها في صحبته، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى، وما أحقهم بذلك، فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكاً لخالقه "تعالى الله عما يشركون" "أفلا تذكرون" مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك، فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرد التذكر لها.

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم. قال: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" وقد مر تفسير هذا في سورة إبراهيم، قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص لنغص النعم على الإنسان، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدير بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها؟ يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظيم نعمك معترفة بالعجز عن بادية الشكر لشيء منها، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا واغفر لنا وأسبل ذيول سترك على عوراتنا فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرد التقصير في شكر نعمك، فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك، وما أحسن ما قال من قال: العفو يرجى من بني آدم فكيف لا يرجى من الرب فقلت مذيلاً لهذا البيت الذي هو قصر مشيد: فإنه أرأف بي منهم حسبي به حسبي به حسبي وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيراً إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته فقال: " إن الله لغفور رحيم " أي كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه، والقصور عن إحصائها، والعجز عن القيام بأدناها، ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تحتركون بها. اللهم أني أشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان وعدد ما سيشكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان، فقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك، وإن رأيت منها شيئاً على بعض خلقك لم أر عليه بقيتها، فأنى أطيق شكرك وكيف أستطيع بادية أدنى شكر أدناها فكيف أستطيع أعلاها؟ فكيف أستطيع شكر نوع من أنواعها؟.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ

ثم بين لعباده بأنه عالم بجميع ما يصدر منهم لا تخفى عليه منه خافية فقال: 19- "والله يعلم ما تسرون" أي تضمرونه من الأمور "وما تعلنون" أي تظهرونه منها، وفيه وعيد وتعريض وتوبيخ، وتنبيه على أن الإله يجب أن يكون عالماً بالسر والعلانية لا كالأصنام التي يعبدونها، فإنها جمادات لا شعور لها بشيء من الظواهر فضلاً عن السرائر فكيف يعبدونها؟. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وما ذرأ لكم في الأرض" قال: ما خلق لكم في الأرض مختلفاً من الدواب، والشجر والثمار نعم من الله متظاهرة فاشكروها لله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "لتأكلوا منه لحماً طرياً" يعني حيتان البحر "وتستخرجوا منه حلية تلبسونها" قال: هذا اللؤلؤ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً" قال: هو السمك وما فيه من الدواب. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر قال: ليس في الحلى زكاة، ثم قرأ "وتستخرجوا منه حلية تلبسونها". أقول: وفي هذا الاستدلال نظر. والذي ينبغي التعويل عليه أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم، وقد ورد في الذهب والفضة وما هو معروف، ولم يرد في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مواخر قال: جواري. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة "مواخر" قال: تشق الماء بصدرها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك "مواخر" قال: السفينتان تجريان بريح واحدة مقبلة ومدبرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ولتبتغوا من فضله" قال: هي التجارة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "رواسي" قال: الجبال "أن تميد بكم" قال: حتى لا تميد بكم، كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقر، فأصبحوا صبحاً وقد جعل الله الجبال، وهي الرواسي أوتاداً في الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وسبلاً" قال: السبل هي الطرق بين الجبال. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب عن قتادة "وسبلاً" قال: طرقاً "وعلامات" قال: هي النجوم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: علامات النهار الجبال. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن الكلبي "وعلامات" قال: الجبال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "وعلامات" يعني معالم الطرق بالنهار "وبالنجم هم يهتدون" يعني بالليل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "أفمن يخلق كمن لا يخلق" قال: الله هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئاً ولا تملك لأهلها ضراً ولا نفعاً.

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ

شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله: "كمن لا يخلق" عاجزة على أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال: 20- "والذين يدعون من دون الله" أي الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه صفتهم هذه الصفات المذكورة، وهي أنهم "لا يخلقون شيئاً" من المخلوقات أصلاً لا كبيراً ولا صغيراً ولا جليلاً ولا حقيراً "وهم يخلقون" أي وصفتهم أنهم يخلقون، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؟ ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال، بخلاف قوله: "أفمن يخلق كمن لا يخلق" فإذا اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال. وقراءة الجمهور "والذين تدعون" بالمثناة الفوقية على الخطاب مطابقة لما قبله. وروى أبو بكر عن عاصم، وروى هبيرة عن حفص "يدعون" بالتحية، وهي قراءة يعقوب.

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ

ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم فقال 21- "أموات غير أحياء" يعني أن هذه الأصنام أجسادها ميتة لا حياة بها أصلاً، فزيادة "غير أحياء" لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها بل لا حياة لهذه أصلاً، فكيف يعبدونها وهم أفضل منها؟ لأنهم أحياء "وما يشعرون أيان يبعثون" الضمير في يشعرون للآلهة، وفي يبعثون للكفار الذين يعبدون الأصنام، والمعنى: ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلاً عن الأمور التي لا يعلمها إلا الله سبحانه، وقيل يجوز أن يكون الضمير في يبعثون للآلهة: أي وما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحاً معها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، ويدل على هذا قوله: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" وقيل قد تم الكلام عند قوله: "وهم يخلقون" ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، فيكون الضميران على هذا للكفار، وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جرياً على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل. وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة، وهما لغتان، وهو في محل نصب بالفعل الذي قبله.

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ

22- "إلهكم إله واحد" لما زيف سبحانه طريقة عبدة الأوثان، صرح بما هو الحق في نفس الأمر، وهو وحدانيته سبحانه، ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال: "فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة" للوحدانية لا يؤثر فيها وعظ ولا ينجع فيها تذكير "وهم مستكبرون" عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد.

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ

23- "لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون" قال الخليل: لا جرم كلمة تحقيق ولا تكون إلا جواباً: أي حقاً أن الله يعلم ما يسرون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك، وقد مر تحقيق الكلام في لا جرم "إنه لا يحب المستكبرين" أي لا يحب هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدم.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ

24- "وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم" أي وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل ماذا أنزل ربكم؟ أي أي شيء أنزل ربكم؟ أو ماذا الذي أنزل؟ قيل القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه، فيكون هذا القول منه على طريق التهكم، وقيل القائل هو من يفد عليهم، وقيل القائل المسلمون، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون فـ "قالوا أساطير الأولين" بالرفع: أي ما تدعون أيها المسلمون نزوله أساطير الأولين، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا المنزل عليكم أساطير الأولين. وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جواباً من المشركين، وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأولين والكفار لا يقرون بالإنزال، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه، وقيل هو كلام مستأنف: أي ليس ما تدعون إنزاله أيها المسلمون منزلاً بل هو أساطير الأولين، وقد جوز على مقتضى علم النحو نصب أساطير وإن لم تقع القراءة به، ولا بد في النصب من التأويل الذي ذكرنا: أي أنزل على دعواكم أساطير الأولين، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية. والأساطير: الأباطيل والترهات التي يتحدث الناس بها عن القرون الأولى، وليس من كلام الله في شيء ولا مما أنزله الله أصلاً في زعمهم.

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ

25- "ليحملوا أوزارهم كاملة" أي قالوا هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة. لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب، وقيل إن اللام هي لام العاقبة، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله: "ليكون لهم عدواً وحزناً" وقيل هي لام الأمر "ومن أوزار الذين يضلونهم" أي ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم لأن من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، وقيل من للجنس لا للتبعيض: أي يحملون كل أوزار الذين يضلونهم، ومحل "بغير علم" النصب على الحال من فاعل "يضلونهم" أي يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه، ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام، وقيل إنه حال من المفعول: أي يضلون من لا علم له، ومثل هذه الآية "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم". وقد تقدم في الأنعام الكلام على قوله: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، "ألا ساء ما يزرون" أي بئس شيئاً يزرونه ذلك.

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ

ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدمين فقال: 26- "قد مكر الذين من قبلهم" ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناءً عظيماً ببابل، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فأهب الله الريح، فخر ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا، والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين من المتقدمين الذين يحاولون إلحاق الضر بالمحقين، ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم "فأتى الله بنيانهم" أي أتى أمر الله، وهو الريح التي أخربت بنيانهم. قال المفسرون: أرسل الله ريحاً فألقت رأس الصرح في البحر، وخر عليهم الباقي "من القواعد" قال الزجاج: من الأساطين، والمعنى: أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها "فخر عليهم السقف من فوقهم" قرأ ابن هريرة وابن محيصن "السقف" بفتح السين وسكون القاف، والمعنى: أنه سقط عليهم السقف، لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها. قال ابن الأعرابي، وإنما قال "من فوقهم" ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته، والعرب تقول خر علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه، فجاء بقوله: "من فوقهم" ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب، فقال: "من فوقهم" أي عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا، وما أفلتوا، وقيل إن المراد بالسقف السماء: أي أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم، وقيل إن هذه الآية تمثيل لهلاكهم، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه عليه. وقد اختلف في هؤلاء الذين خر عليهم السقف، فقيل هو نمروذ كما تقدم، وقيل إنه بختنصر وأصحابه، وقيل هم المقسمون الذين تقدم ذكرهم في سورة الحجر "وأتاهم العذاب" أي الهلاك "من حيث لا يشعرون" به، بل من حيث أنهم في أمان.

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ

ثم بين سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا. فقال: 27- "ثم يوم القيامة يخزيهم" بإدخالهم النار، ويفضحهم بذلك ويهينهم، وهو معطوف على مقدر: أي هذا عذابهم في الدنيا، ثم يوم القيامة يخزيهم "ويقول" لهم مع ذلك توبيخاً وتقريعاً "أين شركائي" كما تزعمون وتدعون، قرأ ابن كثير من رواية البزي شركاي من دون همز، وقرأ الباقون بالهمز، ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله: "الذين كنتم تشاقون فيهم" قرأ نافع بكسر النون على الإضافة، وقرأ الباقون بفتحها: أي تخاصمون الأنبياء والمؤمنين فيهم، وعلى قراءة نافع تخاصمونني فيهم وتعادونني: ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "لا جرم" يقول: بلى. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك "لا جرم" قال: يعني الحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لا كذب. وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال رجل: يا رسول الله الرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس" وفي ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث كثيرة، وكذلك في إخراج محبة حسن الثوب وحسن النعل، ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة. والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمص الناس، فهذا هو الكبر المذموم. وقد ساق صاحب الدر المنثور عند تفسيره لهذه الآية: أعني قوله سبحانه: "إنه لا يحب المستكبرين" أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها، بل المقام مقام ذكر ما له علاقة بتفسير الكتاب العزيز. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "قالوا أساطير الأولين" أن ناساً من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مروا سألوهم فأخبروهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنما هو أساطير الأولين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ليحملوا أوزارهم" الآية يقول يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم وذلك مثل قوله سبحانه: "وأثقالاً مع أثقالهم". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه، وزاد ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قد مكر الذين من قبلهم" قال: نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن زيد بن أسلم أنه النمروذ أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فأتى الله بنيانهم من القواعد" قال: أتاها أمر الله من أصلها "فخر عليهم السقف من فوقهم" والسقف: أعالي البيوت فائتكفت بهم بيوتهم، فأهلكهم الله ودمرهم "وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "تشاقون فيهم" قال: تخالفوني. قوله: "قال الذين أوتوا العلم" قيل هم العلماء قالوه لأممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إلى وعظهم. وكان هذا القول منهم على طريق الشماتة، وقيل هم الأنبياء، وقيل الملائكة، والظاهر الأول لأن ذكرهم بوصف العلم يفيد ذلك وإن كان الأنبياء والملائكة هم من أهل العلم، بل هم أعرق فيه لكن لهم وصف يذكرون به هو أشرف من هذا الوصف، وهو كونهم أنبياء أو كونهم ملائكة، ولا يقدح في هذا جواز الإطلاق، لأن المراد الاستدلال على الظهور فقط "إن الخزي اليوم" أي الذل والهوان والفضيحة يوم القيامة "والسوء" أي العذاب "على الكافرين" مختص بهم.

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

28- "الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" قد تقدم تفسيره، والموصول في محل الجر على أنه نعت للكافرين، أو بدل منه، أو في محل نصب على الاختصاص، أو في محل رفع على تقدير مبتدأ: أي هم الذين تتوفاهم، وانتصاب ظالمي أنفسهم على الحال "فألقوا السلم" معطوف على "فيقول أين شركائي" وما بينهما اعتراض أي أقروا بالربوبية، وانقادوا عند الموت، ومعناه الاستسلام قاله قطرب، وقيل معناه المسالمة: أي سالموا وتركوا المشاقة قاله الأخفش، وقيل معناه الإسلام أي أقروا بالإسلام وتركوا ما كانوا فيه من الكفر، وجملة "ما كنا نعمل من سوء" يجوز أن تكون تفسيراً للسلم على أن يكون المراد بالسلم الكلام الدال عليه، ويجوز أن يكون المراد بالسوء هنا الشرك، ويكون هذا القول منهم على وجه الجحود والكذب، ومن لم يجوز الكذب على أهل القيامة حمله على أنهم أرادوا أنهم لم يعملوا سوءاً في اعتقادهم وعلى حسب ظنونهم، ومثله قولهم: "والله ربنا ما كنا مشركين" فلما قالوا هذا أجاب عليهم أهل العلم بقولهم: "بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون" أي بلى كنتم تعملون السوء إن الله عليم بالذي كنتم تعملونه فمجازيكم عليه ولا ينفعكم هذا الكذب شيئاً.

فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ

29- "فادخلوا أبواب جهنم" أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقد تقدم ذكر أبواب جهنم وأن جهنم درجات بعضها فوق بعض، و "خالدين فيها" حال مقدرة لأن خلودهم مستقبل "فلبئس مثوى المتكبرين" المخصوص بالذم محذوف، والتقدير، لبئس مثوى المتكبرين جهنم، والمراد بتكبرهم هنا هو تكبرهم عن الإيمان والعبادة كما في قوله: "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون".

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ

ثم أتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء، فقال: 30- "وقيل للذين اتقوا" وهم المؤمنون "ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً" أي أنزل خيراً. قال الثعلبي: فإن قيل لم ارتفع الجواب في قوله "أساطير الأولين" وانتصب في قوله "خيراً" فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا الذي يقوله محمد هو أساطير الأولين، والمؤمنون آمنوا بالنزول، فقال أنزل خيراً "للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة" قيل هذا من كلام الله عز وجل، وقيل هو حكاية لكلام الذين اتقوا، فيكون على هذا بدلاً من خيراً، على الأول يكون كلاماً مستأنفاً مسوقاً للمدح للمتقين، والمعنى: للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا حسنة: أي مثوبة حسنى "ولدار الآخرة" أي مثوبتها " خير " مما أوتوا في الدنيا "ولنعم دار المتقين" دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لدلالة ما قبله عليه.

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ

وارتفاع 31- "جنات عدن" على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل يجوز أن تكون هي المخصوص بالمدح "يدخلونها" هو إما خبر المبتدأ، أو خبر بعد خبر، وعلى تقدير تنكير عدن تكون صفة لجنات وكذلك "تجري من تحتها الأنهار" وقيل يجوز أن تكون الجملتان في محل نصب على الحال على تقدير أن لفظ عدن علم، وقد تقدم معنى جري الأنهار من تحت الجنات " لهم فيها ما يشاؤون " أي لهم في الجنات ما تقع عليهم مشيئتهم صفواً عفواً يحصل لهم بمجرد ذلك "كذلك يجزي الله المتقين" أي مثل ذلك الجزاء يجزيهم، والمراد بالمتقين كل من يتقي الشرك وما يوجب النار من المعاصي.

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

والموصول في قوله: 32- "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين" في محل نصب نعت للمتقين المذكور قبله، قرأ الأعمش وحمزة "تتوفاهم" في هذا الموضع، وفي الموضع الأول بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية، واختار القراءة الأولى أبو عبيد مستدلاً بما روي عن ابن عباس أنه قال: إن قريشاً زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. و "طيبين" فيه أقوال: طاهرين من الشرك، أو الصالحين، أو زاكية أفعالهم وأقوالهم، أو طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله، أو طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله، أو طيبين الوفاة: أي هي عليهم سهلة لا صعوبة فيها، وجملة " يقولون سلام عليكم " في محل نصب على الحال من الملائكة: أي قائلين سلام عليكم، ومعناه يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون السلام إنذاراً لهم بالوفاة. الثاني أن يكون تبشيراً لهم بالجنة لأن السلام أمان. وقيل إن الملائكة يقولون: السلام عليك ولي الله إن الله يقرأ عليك السلام "ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون" أي بسبب عملكم، قيل يحتمل هذا وجهين: الأول أن يكون تبشيراً بدخول الجنة عند الموت، الثاني أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة. ولا ينافي هذا دخول الجنة بالتفضل كما في الحديث الصحيح "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" وقد قدمنا البحث عن هذا. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وقيل للذين اتقوا" قال: هؤلاء المؤمنون. يقال لهم "ماذا أنزل ربكم" فيقولون "خيراً للذين أحسنوا" أي آمنوا بالله وكتبه وأمروا بطاعته وحثوا عباد الله على الخير ودعوهم إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين" قال: أحياءً وأمواتاً قدر الله لهم ذلك.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

قوله: 33- "هل ينظرون" الآية هذا جواب شبهة أخرى لمنكري النبوة، فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال: هل ينظرون في تصديق نبوتك "إلا أن تأتيهم الملائكة" شاهدين بذلك، ويحتمل أن يقال: إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أوعدهم الله بقوله: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة" لقبض أرواحهم "أو يأتي أمر ربك" أي عذابه في الدنيا المستأصل لهم، أو المراد بأمر الله القيامة. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "إلا أن تأتيهم الملائكة" بالياء التحتية وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية، والمراد بكونهم ينظرون: أي ينتظرون إتيان الملائكة أو إتيان أمر الله على التفسير الآخر أنهم قد فعلوا فعل من وجب عليه العذاب وصار منتظراً له، وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقة، فإنهم لا يؤمنون بذلك ولا يصدقونه "كذلك فعل الذين من قبلهم" أي مثل فعل هؤلاء من الإصرار على الكفر والتكذيب والاستهزاء فعل الذين خلوا من قبلهم من طوائف الكفار فأتاهم أمر الله فهلكوا "وما ظلمهم الله" بتدميرهم بالعذاب فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" بما ارتكبوه من القبائح، وفيه أن ظلمهم مقصور عليهم باعتبار ما إليه يؤول.

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

وجملة 34- "فأصابهم سيئات ما عملوا" معطوفة على فعل الذين من قبلهم، وما بينهما اعتراض، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله، والمعنى: فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم، أو جزاء أعمالهم السيئة "وحاق بهم" أي نزل بهم على وجه الإحاطة "ما كانوا به يستهزئون" أي العذاب الذي كانوا به يستهزئون أو عقاب استهزائهم.

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

35- "وقال الذين أشركوا" هذا نوع آخر من كفرهم الذي حكاه الله عنهم، والمراد بالذين أشركوا هنا أهل مكة "لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء" أي لو شاء عدم عبادتنا لشيء غيره ما عبدنا ذلك "نحن ولا آباؤنا" الذين كانوا على ما نحن عليه الآن من دين الكفر والشرك بالله. قال الزجاج: إنهم قالوا هذا على جهة الاستهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة الأنعام "ولا حرمنا من دونه من شيء" من السوائب والبحائر ونحوهما، ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة الطعن في الرسالة: أي لو كان ما قاله الرسول حقاً من المنع من عبادة غير الله، والمنع من تحريم ما لم يحرمه الله حاكياً ذلك عن الله لم يقع منا ما يخالف ما أراده منا فإنه قد شاء ذلك، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، فلما وقع منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك دليلاً على أن ذلك هو المطابق لمراده والموافق لمشيئته، مع أنهم في الحقيقية لا يعترفون بذلك ولا يقرون به لكنهم قصدوا ما ذكرنا من الطعن على الرسل "كذلك فعل الذين من قبلهم" من طوائف الكفر فإنهم أشركوا بالله وحرموا ما لم يحرمه وجادلوا رسله بالباطل واستهزأوا بهم، ثم قال "فهل على الرسل" الذين يرسلهم الله إلى عباده بما شرعه لهم من شرائعه التي رأسها توحيده، وترك الشرك به "إلا البلاغ" إلى من أرسلوا إليهم بما أمروا بتبليغه بلاغاً واضحاً يفهمه المرسل إليهم ولا يلتبس عليهم.

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ

ثم إنه سبحانه أكد هذا وزاده إيضاحاً فقال: 36- "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً" كما بعثنا في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" و أن في قوله "أن اعبدوا الله" إما مصدرية: أي بعثنا بأن اعبدوا الله، أو مفسرة لأن في البعث معنى القول "واجتنبوا الطاغوت" أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى الضلال "فمنهم" أي من هذه الأمم التي بعث الله إليها رسله "من هدى الله" أي أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته واجتناب الطاغوت "ومنهم من حقت عليه الضلالة" أي وجبت وثبتت لإصراره على الكفر والعناد. قال الزجاج: أعلم الله أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة وهو من وراء الإضلال والهداية، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة" وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته، واجتناب الشيطان وكل ما يدعو إلى الضلال، وأنهم بعد ذلك فريقان فمنهم من هدى ومنهم من حقت عليه الضلالة، فكان في ذلك دليل على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان، ولا يريد الهداية إلا للبعض، إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد، وهذا معنى ما حكيناه عن الزجاج هنا "فسيروا في الأرض" سير معتبرين "فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" من الأمم السابقة عند مشاهدتكم لآثارهم كعاد وثمود: أي كيف صار آخر أمرهم إلى خراب الديار بعد هلاك الأبدان بالعذاب.

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

ثم خصص الخطاب برسوله صلى الله عليه وسلم مؤكد لما تقدم فقال: 37- "إن تحرص على هداهم" أي تطلب بجهدك ذلك "فإن الله لا يهدي من يضل" قرأ ابن مسعود وأهل الكوفة "لا يهدي" بفتح حرف المضارعة على أنه فعل مستقبل مسند إلى الله سبحانه: أي فإن الله لا يرشد من أضله، و من في موضع نصب على المفعولية. وقرأ الباقون " لا يهدي " بضم حرف المضارعة على أنه مبني للمجهول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم على معنى أنه لا يهديه هاد كائناً من كان، ومن في موضع رفع على أنها نائب الفاعل المحذوف، فتكون هذه الآية على هذه القراءة كقوله في الآية الأخرى "من يضلل الله فلا هادي له" والعائد على القراءتين محذوف: أي من يضله. وروى أبو عبيد عن الفراء على القراءة الأولى أن معنى "لا يهدي" لا يهتدي كقوله تعالى: "أمن لا يهدي إلا أن يهدى" بمعنى يهتدي. قال أبو عبيد: ولا نعلم أحداً روى هذا غير الفراء وليس بمتهم فيما يحكيه. قال النحاس: حكي عن محمد بن يزيد المبرد، كأن معنى "لا يهدي من يضل" من علم ذلك منه وسبق له عنده "وما لهم من ناصرين" ينصرونهم على الهداية لمن أضله الله أو ينصرونهم بدفع العذاب عنهم.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال 38- "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" مصدر في موضع الحال: أي جاهدين "لا يبعث الله من يموت" من عباده، زعموا أن الله سبحانه عاجز عن بعث الأموات، فرد الله عليهم ذلك بقوله: "بلى وعداً عليه حقاً" هذا إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم، و "وعداً" مصدر مؤكد لما دل عليه "بلى" وهو يبعثهم لأن البعث وعد من الله وعد عباده به، والتقدير وعد البعث وعداً عليه حقاً لا خلف فيه، وحقاً صفة لوعد، وكذا عليه فإنه صفة لوعد: أي كائناً عليه، أو نصب حقاً على المصدرية: أي حق حقاً "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أن ذلك يسير عليه سبحانه غير عسير.

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ

وقوله: 39- "ليبين لهم" أي ليظهر لهم، وهو غاية لما دل عليه بلى من البعث، والضمير في "لهم" راجع إلى من يموت، والموصول في قوله: "الذي يختلفون فيه" في محل نصب على أنه مفعول "ليبين" أي الأمر الذي وقع الخلاف بينهم فيه، وبيانه إذ ذاك يكون بما جاءتهم به الرسل، ونزلت عليهم فيه كتب الله، وقيل إن ليبين متعلق بقوله: "ولقد بعثنا" أي بعثنا في كل أمة رسولاً ليبين وهو بعيد "وليعلم الذين كفروا" بالله سبحانه وأنكروا البعث "أنهم كانوا كاذبين" في جدالهم وإنكارهم البعث بقولهم: "لا يبعث الله من يموت".

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

وجملة 40- "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" مستأنفة لبيان كيفية الإبداء والإعادة بعد بيان سهولة البعث عليه سبحانه. قال الزجاج: أعلمهم بسهولة خلق الأشياء عليه فأخبر أنه متى أراد الشيء كان، وهذا كقوله: "وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون" وقرأ ابن عامر والكسائي "فيكون" بالنصب عطفاً على أن نقول. قال الزجاج: يجوز أن يكون نصباً على جواب كن. وقرأ الباقون بالرفع على معنى: فهو يكون. قال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله تعالى قبل الخلق، لأنه بمنزلة ما قد وجد وشوهد. وقال الزجاج: إن معنى لشيء لأجل شيء فجعل اللام سببية، وقيل هي لام التبليغ، كما في قولك قلت له قم فقام، و "إنما قولنا" مبتدأ " أن نقول له كن " خبره، وهذا الكلام من باب التمثيل على معنى: أنه لا يمتنع عليه شيء، وأن وجوده عند إرادته كوجود المأمورية عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع، وليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال إنه يلزم منه أحد محالين إما خطاب المعدوم، أو تحصيل لحاصل. وقد مضى تفسير ذلك في سورة البقرة مستوفى. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة" قال: بالموت، وقال في آية أخرى "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة" وهو ملك الموت، وله رسل "أو يأتي أمر ربك" وذاكم يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: "فإن الله لا يهدي من يضل" قال: من يضله الله لا يهديه أحد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به. والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا، فقال له المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت، فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت" الآية. وأخرج ابن العقيلي وابن مردويه عن علي في قوله: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت" قال: نزلت في. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن أبي هريرة قال: "قال الله تعالى سبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، أما تكذيبه إياي فقال: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت"، وقلت: "بلى وعداً عليه حقاً". وأما سبه إياي، فقال: إن الله ثالث ثلاثة، وقلت هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" هكذا ذكره أبو هريرة موقوفاً وهو في الصحيحين مرفوعاً بلفظ آخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ليبين لهم الذي يختلفون فيه" يقول: للناس عامة.

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

قد تقدم تحقيق معنى الهجرة في سورة النساء، وهي ترك الأهل والأوطان، ومعنى 41- "هاجروا في الله" في شأن الله سبحانه وفي رضاه، وقيل "في الله" في دين الله، وقيل في بمعنى اللام: أي لله " من بعد ما ظلموا " أي عذبوا وأهينوا فإن أهل مكة عذبوا جماعة من المسلمين حتى قالوا ما أرادوا منهم، فلما تركوهم هاجروا. وقد اختلف في سبب نزول الآية، فقيل نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار. واعترض بأن السورة مكية، وذلك يخالف قوله: "والذين هاجروا". وأجيب بأنه يمكن أن تكون هذه الآية من جملة الآيات المدنية في هذه السورة كما قدمنا في عنوانها، وقيل نزلت في أبي جندل بن سهيل، وقيل نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما ظلمهم المشركون بمكة وأحرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة. "لنبوئنهم في الدنيا حسنة": اختلف في معنى هذا على أقوال، فقيل المراد نزولهم المدينة قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة، وقيل المراد الرزق الحسن قاله مجاهد، وقيل النصر على عدوهم قاله الضحاك، وقيل ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات، وقيل ما بقي لهم فيها من الثناء وصار لأولادهم من الشرف. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور، ومعنى "لنبوئنهم في الدنيا حسنة" لنبوئنهم مباءة حسنة أو تبوئة حسنة، فحسنة صفة مصدر محذوف "ولأجر الآخرة" أي جزاء أعمالهم في الآخرة "أكبر" من أن يعلمه أحد من خلق الله قبل أن يشاهده، ومنه قوله تعالى: "وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً"، "لو كانوا يعلمون" أي لو كان هؤلاء الظلمة يعلمون ذلك، وقيل إن الضمير في "يعلمون" راجع إلى المؤمنين: أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا.

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

42- "الذين صبروا" الموصول في محل نصب على المدح، أو الرفع على تقدير مبتدأ، أو هو بدل من الموصول الأول، أو من الضمير في لنبؤئنهم، "وعلى ربهم يتوكلون" أي على ربهم خاصة يتوكلون في جميع أمورهم معرضين عما سواه، والجملة معطوفة على الصلة أو في محل نصب على الحال.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

43- "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم" قرأ حفص عن عاصم "نوحي" بالنون، وقرأ الباقون "يوحى" بالياء التحتية، وهذه الآية رد على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجل من أن يرسل رسولاً من البشر، فرد الله عليهم بأن هذه عادته وسنته أن لا يرسل إلا رجالاً من البشر يوحي إليهم. وزعم أبو علي الجبائي أن معنى الآية أن الله سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلا من هو على صورة الرجال من الملائكة. ويرد عليه بأن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صور مختلفة، ولما كان كفار مكة مقرين بأن اليهود والنصارى هم أهل العلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل صرف الخطاب إليهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" أي فاسألوا أيها المشركون مؤمن أهل الكتاب أن كنتم لا تعلمون فإنهم سيخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً، أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده الظاهر فإنهم كانوا يعترفون بذلك ولا يكتمونه، وقيل المعنى: فاسألوا أهل القرآن.

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

و 44- "بالبينات والزبر" يتعلق بأرسلنا، فيكون داخلاً في حكم الاستثناء مع رجالاً، وأنكر الفراء ذلك. وقال: إن صفة ما قبل إلا لا تتأخر إلى ما بعدها، لأن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته، كما لو قيل أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً، وقيل يتعلق بمحذوف دل عليه المذكور: أي أرسلناهم بالبينات والزبر، ويكون جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل لماذا أرسلهم؟ فقال: أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل متعلق بتعلمون على أنه مفعوله والباء زائدة: أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر، وقيل متعلق برجالاً: أي رجالاً متلبسين بالبينات والزبر، وقيل بنوحي: أي نوحي إليهم بالبينات والزبر، وقيل منصوب بتقدير أعني، والباء زائدة، وأهل الذكر هم أهل الكتاب كما تقدم. وقال الزجاج: اسألوا كل من يذكر بعلم، والبينات: الحجج والبراهين، والزبر: الكتب. وقد تقدم الكلام على هذا في آل عمران. "وأنزلنا إليك الذكر" أي القرآن، ثم بين الغاية المطلوبة من الإنزال فقال: "لتبين للناس" جميعاً "ما نزل إليهم" في هذا الذكر من الأحكام الشرعية والوعد والوعيد "ولعلهم يتفكرون" أي إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا.

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ

45- "أفأمن الذين مكروا السيئات" يحتمل أن تكون السيئات صفة مصدر محذوف: أي مكروا المكرات السيئات، وأن تكون مفعولة للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل: أي عملوا السيئات، أو صفة لمفعول مقدر: أي أفأمن الماكرون العقوبات السيئات، أو على حذف حرف الجر:أي مكروا بالسيئات "أن يخسف الله بهم الأرض" هو مفعول أمن، أو بدل من مفعوله على القول بأن مفعوله محذوف، وأن السيئات صفة للمحذوف، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، ومكر السيئات: سعيهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام، وكيد أهله "أن يخسف الله بهم" كما خسف بقارون، يقال خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفاً: أي غاب به فيها، ومنه قوله: "فخسفنا به وبداره الأرض" وخسف هو في الأرض وخسف به "أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون" به في حال غفلتهم عنه كما فعل بقوم لوط وغيرهم، وقيل يريد يوم بدر فإنهم أهلكوا ذلك اليوم ولم يكن في حسبانهم.

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ

46- "أو يأخذهم في تقلبهم" ذكر المفسرون فيه وجوهاً، فقيل المراد في أسفارهم ومتاجرهم فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان، وقيل المراد في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل، فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، وقيل في حال تقلبهم في الليل على فرشهم، وقيل في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار، والقلب بالمعنى الأول مأخوذ من قوله: "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد"، وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله: "وقلبوا لك الأمور" "فما هم بمعجزين" أي بفائتين ولا ممتنعين.

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

47- "أو يأخذهم على تخوف" أي حال تخوف وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين للعذاب حذرين منه غير غافلين عنه، فهو خلاف ما تقدم من قوله "أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون"، وقيل معنى "على تخوف" على تنقص. قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم. قال الواحدي: قال عامة المفسرين: على تخوف قال تنقص: إما بقتل أو بموت، يعني بنقص من أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأول حتى يأتي الأخذ على جميعهم. قال، والتخوف التنقص، يقال هو يتخوف المال: أي يتنقصه، ويأخذ من أطرافه انتهى، يقال تخوفه الدهر وتخونه بالفاء والنون: تنقصه، قال ذو الرمة: لا بل هو الشوق من دار تخوفها مرا سحاب ومرا بارح ترب وقال لبيد: تخوفها نزولي وارتحالي أي تنقص لحمها وشحمها. قال الهيثم بن عدي: التخوف بالفاء التنقص لغة لأزد شنودة، وأنشد: تخوف عدوهم مالي وأهدى سلاسل في الحلوق لها صليل وقيل على تخوف: على عجل قاله الليث بن سعد، وقيل على تقريع با قدموه من ذنوبهم، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل على تخوف: أن يعاقب ويتجاوز قاله قتادة: "فإن ربكم لرؤوف رحيم" لا يعاجل، بل يمهل رأفة ورحمة لكم مع استحقاقهم للعقوبة.

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ

48- "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء" لما خوف سبحانه الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي ومكانهما، والاستفهام في "أو لم يروا" للإنكار، وما مبهمة مفسرة بقوله: "من شيء"، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش "تروا" بالمثناة الفوقية على أنه خطاب لجميع الناس، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الذين مكروا السيئات. قرأ أبو عمرو ويعقوب تتفيؤا ظلاله بالمثناة الفوقية. وقرأ الباقون بالتحتية واختارها أبو عبيد: أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى. قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرف عنه الشمس والقمر، والذي يكون بالغداة هو الظل. وقال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل، ومعنى "من شيء" من شيء له ظل، وهي الأجسام فهو عام أريد به الخاص، وظلاله جمع ظل، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة "عن اليمين والشمائل" أي عن جهة أيمانها وشمائلها: أي عن جانبي كل واحد منها. قال الفراء: وحد اليمين، لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع. وقال الواحدي: وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازاً في اللفظ كقوله: "ويولون الدبر"، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع، وقيل إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله: "وجعل الظلمات والنور"، و "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، وقيل المراد باليمين: النقطة التي هي مشرق الشمس، وأنها واحدة. والشمائل عبارة عن الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة، وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية "سجداً لله" منتصب على الحال: أي حال كون الظلال سجداً لله. قال الزجاج: يعني أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة. وقال أيضاً: سجود الجسم انقياده وما يرى من أثر الصنعة "وهم داخرون" في محل نصب على الحال: أي خاضعون صاغرون، والدخور: الصغار والذل، يقال دخر الرجل فهو داخر وأدخره الله. قال الشاعر: فلم يبق إلا داخر في مخيس ومتحجر في غير أرضك في حجر ومخيس: اسم سجن كان بالعراق.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ

49- "ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة" أي له وحده يخضع وينقاد لا لغيره ما في السموات جميعاً، وما في الأرض من دابة تدب على الأرض، والمراد به كل دابة. قال الأخفش: هو كقولك ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله. وقد دخل في عموم ما في السموات وما في الأرض جميع الأشياء الموجودة فيهما، وإنما خص الدابة بالذكر لأنه قد علم من قوله: "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء" انقياد الجمادات، وعطف الملائكة على ما قبلهم تشريفاً لهم، وتعظيماً لدخولهم في المعطوف عليه "وهم لا يستكبرون" أي والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم والمراد الملائكة، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة. وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل يسجد وما عطف عليه: أي يسجد لله ما في السموات وما في الأرض والملائكة وهم جميعاً لا يستكبرون عن السجود.

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ

50- "يخافون ربهم من فوقهم" هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي حال كونهم يخافون ربهم من فوقهم، أو جملة مستأنفة لبيان نفي استكبارهم، ومن آثار الخوف عدم الاستكبار، ومن فوقهم متعلق بيخافون على حذف مضاف: أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، أو يكون حالاً من الرب: أي يخافون ربهم حال كونه من فوقهم، وقيل معنى "يخافون ربهم من فوقهم" يخافون الملائكة فيكون على حذف المضاف: أي يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم وهو تكلف لا حاجة إليه، وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان، وتقررت في القلوب، قيل وهذه المخافة هي مخافة الإجلال، واختاره الزجاج فقال: "يخافون ربهم" خوف مجلين، ويدل على صحة هذا المعنى قوله: "وهو القاهر فوق عباده"، وقوله إخباراً عن فرعون "وإنا فوقهم قاهرون"، "ويفعلون ما يؤمرون" أي ما يؤمرون به من طاعة الله: يعني الملائكة، أو جميع من تقدم ذكره، وحمل هذه الجمل على الملائكة أولى، لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته، ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به، كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا" قال: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن داود بن أبي هند قال: نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والذين هاجروا في الله" الآية قال: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين "ولأجر الآخرة أكبر" قال: أي والله لما يصيبهم الله من جنته ونعمته أكبر "لو كانوا يعلمون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله: "في الدنيا حسنة" قال: المدينة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: لنرزقنهم في الدنيا رزقاً حسناً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك، فأنزل الله "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم"". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "فاسألوا أهل الذكر" الآية، يعني مشركي قريش أن محمداً رسول الله في التوراة والإنجيل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "بالبينات" قال: الآيات "والزبر" قال: الكتب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أفأمن الذين مكروا السيئات" قال: نمروذ بن كنعان وقومه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: أي الشرك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: تكذيبهم الرسل، وإعمالهم بالمعاصي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أو يأخذهم في تقلبهم" قال: في اختلافهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "في تقلبهم" قال: إن شئت أخذته في سفره "أو يأخذهم على تخوف" يقول على أثر موت صاحبه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "على تخوف" قال: تنقص من أعمالهم. وأخرج ابن جرير عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية "أو يأخذهم على تخوف" فقالوا ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردد من الآيات فقال عمر ما أرى إلا أنه على ما يتنقصون من معاصي الله، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقي أعرابياً، فقال يا فلان: ما فعل ربك؟ قال قد تخيفته، يعني انتقصته، فرجع إلى عمر فأخبره، فقال قد رأيته ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أو يأخذهم على تخوف" قال: يأخذهم بنقص بعضهم بعضاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: " يتفيأ " قال: يتميل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وهم داخرون" قال: صاغرون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ولله يسجد" الآية قال: لم يدع شيئاً من خلقه إلا عبده له طائعاً أو كارهاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: يسجد من في السموات طوعاً ومن في الأرض طوعاً وكرهاً.

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ

لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له، خاضعة لجلاله، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله: 51- "وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد" فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد هو الله سبحانه، وقد قيل إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دل على الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله واحد؟ فقيل في الجواب: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير: لا تتخذوا إثنين إلهين إنما هو واحد إله، وقيل إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك، وقيل إن فائدة زيادة إثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها، وإنما خلاف المشركين في الواحدية ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبية إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب، فقال: "فإياي فارهبون" أي إن كنتم راهبين شيئاً فإياي فارهبون لا غيري، وقد مر مثل هذا في أول البقرة.

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ

ثم لما قرر سبحانه وحدانيته، وأنه الذي يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه، ذكر أن الكل في ملكه وتحت تصرفه فقال 52- "وله ما في السموات والأرض" وهذه الجملة مقررة لمن تقدم في قوله "ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض" إلى آخره، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص "وله الدين واصباً" أي ثابتاً واجباً دائماً لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص، قال الفراء "واصباً" معناه دائماً، ومنه قول الدؤلي: لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه بذم يكون الدهر أجمع واصبا أي دائماً. وروي عن الفراء أيضاً أنه قال: الواصب الخالص، والأول أولى، ومنه قوله سبحانه: "ولهم عذاب واصب" أي دائم.وقال الزجاج: أي طاعته واجبة أبداً. ففسر الواصب بالواجب. وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب: أي ليس أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى فإن الطاعة تدوم له، ففسر الواصب بالدائم، وإذا دام لشيء دواماً لا ينقطع فقد وجب وثبت، يقال وصب الشيء يصب وصوباً فهو واصب: إذا رام، ووصب الرجل على الأمر: إذا واظب عليه، وقيل الوصب التعب، والإعياء: أي يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، والاستفهام في قوله: "أفغير الله تتقون" للتقريع والتوبيخ، وهو معطوف على مقدر كما في نظائره، والمعنى: إذا كان الدين: أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره.

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ

ثم امتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال: 53- "وما بكم من نعمة" أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله: أي فهي منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، و "بكم" صلتها، و "من نعمة" حال من الضمير في الجار والمجرور، أو بيان لما. وقوله: "فمن الله" الخبر، وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفاً أي ما يكن، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه، ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: "ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون" أي إذا مسكم الضر أي مس فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو، يقال جأر يجأر جؤوراً: إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى يصف بقرة: فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة وكان النكير أن تطيف وتجأرا والضر: المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان.

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ

54- "ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون" أي إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر، إذا فريق أي جماعة منكم بربهم الذين رفع الضر عنهم يشركون فيجعلون معه إلهاً آخر من صنم أو نحوه، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدم في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان. قال الزجاج: هذا خاص بمكر وفكر، وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فتكون من في "منكم" للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعاً، والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار فمن للبيان.

لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

واللام في 55- "ليكفروا بما آتيناهم" لام كي: أي لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم، وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية، وقيل اللام للعاقبة: يعني ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا هذا الكفر. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب "فتمتعوا" بما أنتم فيه من ذلك "فسوف تعلمون" عاقبة أمركم وما يحل بكم في هذه الدار وما تصيرون إليه في الدار الآخرة.

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ

ثم حكى سبحانه نوعاً آخر من قبائح أعمالهم فقال: 56- "ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم" أي يقع منه هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيباً مما رزقناهم من أموالهم يتقربون به إليه. وقيل المعنى: أنهم أي الكفار يجعلون للأصنام وهم لا يعلمون شيئاً لكونهم جمادات، ففاعل يعلمون على هذا هي الأصنام وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون جرياً على اعتقاد الكفرفيها. وحاصل المعنى: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعقل شيئاً نصيباً من أموالهم التي رزقهم الله إياها "تالله لتسألن عما كنتم تفترون" هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب، وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ "عما كنتم تفترون" تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا.

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ

57- "ويجعلون لله البنات" هذا نوع آخر من فضائحهم وقبائحهم، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله "سبحانه" نزه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل"، وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم، "ولهم ما يشتهون" أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهونه من البنين على أن "ما" في محل نصب بالفعل المقدر، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء. وأنكر النصب الزجاج قال: لأن العرب لا يقولون جعل له كذا وهو يعني نفسه، وإنما يقولون جعل لنفسه كذا، فلو كان منصوباً لقال ولأنفسهمما يشتهون. وقد أجاز النصب الفراء.

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ

ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال: 58- "وإذا بشر أحدهم بالأنثى" أي إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له "ظل وجهه مسوداً" أي متغيراً، وليس المراد السواد الذي هو ضد البياض، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغم، والعرب تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسود وجهه غماً وحزناً قاله الزجاج. وقال الماوردي: بل المراد سواد اللون حقيقة، قال: وهو قول الجمهور، والأول أولى، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتم لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي، وجملة "وهو كظيم" في محل نصب على الحال: أي ممتلئ من الغم غيظاً وحنقاً. قال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره، وقيل إنه المغموم الذي يطبق فاه من الغم، مأخوذ من الكظامة وهو سد فم البئر قاله علي بن عيسى، وقد تقدم في سورة يوسف.

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ

59- "يتوارى من القوم" أي يتغيب ويختفي "من سوء ما بشر به" أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له "أيمسكه على هون" أي لا يزال متردداً بين الأمرين: وهو إمساك البنت التي بشر بها، أو دفنهما في التراب "على هون" أي هوان، وكذا قرأ عيسى الثقفي. قال اليزيدي: والهون الهوان بلغة قريش، وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي، وحكي عن الكسائي أنه البلاء والمشقة، قالت الخنساء: نهين النفوس وهون النفــو س يوم الكريهة أبقى لها وقال الفراء: الهون القليل بلغة تميم. وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ أيمسكه على سوء، "أم يدسه في التراب" أي يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردداً بين هذين الأمرين، والتذكير في يمسكه ويدسه مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ. وقرأ الجحدري أم يدسها في التراب ويلزمه أن يقرأ أيمسكها، وقيل دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار "ألا ساء ما يحكمون" حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم ومثل هذا قوله تعالى: " ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى ".

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

60- "للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء" أي لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة مثل السوء: أي صفة السوء من الجهل والكفر بالله، وقيل هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد، وقيل هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق، وقيل العذاب والنار "ولله المثل الأعلى" وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل والعلم الواسع، أو التوحيد وإخلاص العبادة، أو أنه خالق رازق قادر مجاز، وقيل شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: "الله نور السموات والأرض مثل نوره"، "وهو العزيز" الذي لا يغالب فلا يضره نسبتهم إليه ما لا يليق به "الحكيم" في أفعاله وأقواله.

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ

ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم بين سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ولم يؤاخذهم بظلمهم، فقال: 61- "ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم" والمراد بالناس هنا الكفار أو جميع العصاة "ما ترك عليها" أي على الأرض وإن لم يذكر فقد دل عليها ذكر الناس وذكر الدابة، فإن الجميع مستقرون على الأرض، والمراد بالدابة الكافر، وقيل كل ما دب، وقد قيل على هذا كيف يعم بالهلاك مع أن فيهم من لا ذنب له؟ وأجيب بإهلاك الظالم انتقاماً منه، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره، وإن كان من غيرهم فبشؤم ظلم الظالمين، ولله الحكمة البالغة "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"، ومثل هذا قوله: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة". وفي معنى هذا أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم" وكذلك حديث الجيش "الذين يخسف بهم في البيداء، وفي آخره: أنهم يبعثون على نياتهم" وقد قدمنا عند تفسير قوله سبحانه: "واتقوا فتنة" الآية تحقيقاً حقيقاً بالمراجعة له "ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى" معلوم عنده وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم أو أجل عذابهم، وفي هذا التأخير حكمة بالغة منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم "فإذا جاء أجلهم" الذي سماه لهم حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدم عليه ولا تأخر عنه، والساعة المدة القليلة، وقد تقدم تفسيرها هذا وتحقيقه.

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ

ثم ذكر نوعاً آخر من جهلهم وحمقهم فقال: "ويجعلون لله ما يكرهون" أي ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته إلى أنفسهم من البنات، وهو تكرير لما قد تقدم لقصد التأكيد والتقرير ولزيادة التوبيخ والتقريع "وتصف ألسنتهم الكذب" هذا من النوع الآخر الذي ذكره سبحانه من قبائحهم وهو: أي هذا الذي تصفه ألسنتهم من الكذب هو قولهم: "أن لهم الحسنى" أي الخصلة الحسنى، أو العاقبة الحسنى. قال الزجاج: يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن. قال الزجاج أيضاً والفراء: أبدل من قوله وتصف ألسنتهم الكذب قوله أن لهم الحسنى، والكذب منصوب على أنه مفعول تصف. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن الكذب برفع الكاف والذال والباء على أنه صفة للألسن وهو جمع كذب، فيكون المفعول على هذا هو أن لهم الحسنى. ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله: "لا جرم أن لهم النار" أي حقاً أن لهم مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى النار، وقد تقدم تحقيق هذا "وأنهم مفرطون" قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة: أي متروكون منسيون في النار، وبه قال الكسائي والفراء فيكون مشتقاً من أفرطت فلاناً خلفي: إذا خلفته ونسيته. وقال قتادة والحسن: معجلون إليها مقدمون في دخولها من أفرطته: أي قدمته في طلب الماء، والفارط هو الذي يتقدم إلى الماء، والفراط المتقدمون في طلب الماء، والوراد المتأخرون، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض" أي متقدمكم. قال القطامي: فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد وقرأ نافع في رواية ورش "مفرطون" بكسر الراء وتخفيفها، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس، ومعناه: مسرفون في الذنوب والمعاصي، يقال أفرط فلان على فلان: إذا أربى عليه وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرأ أبو جعفر القاري "مفرطون" بكسر الراء وتشديدها: أي مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب. وقرأ الباقون "مفرطون" بفتح الراء مخففاً، ومعناه: مقدمون إلى النار. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وله الدين واصباً" قال: الدين الإخلاص، وواصباً دائماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح "وله الدين واصباً" قال: لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "واصباً" قال: دائماً. وأخرج الفريابي وابن جرير عنه قال واجباً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "تجأرون" قال: تتضرعون دعاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: تصيحون بالدعاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "فتمتعوا فسوف تعلمون" قال: وعيد. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "ويجعلون لما لا يعلمون" الآية قال: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم "نصيباً مما رزقناهم". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله وجزأوا من أموالهم جزءاً فجعلوه لأوثانهم وشياطينهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: هو قولهم هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ويجعلون لله البنات" الآية يقول: يجعلون لي البنات يرتضونهن لي ولا يرتضونهن لأنفسهم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هوان أو دسها في التراب وهي حية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك "ولهم ما يشتهون" قال: يعني به البنين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج "أم يدسه في التراب" قال: يئد ابنته. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ألا ساء ما يحكمون" قال: بئس ما حكموا، يقول: شيء لا يرضونه لأنفسهم فكيف يرضونه لي. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ولله المثل الأعلى" قال: شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس "ولله المثل الأعلى" قال: يقول ليس كمثله شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "ما ترك عليها من دابة" قال: ما سقاهم المطر. وأخرج أيضاً عن السدي نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: قد فعل ذلك في زمن نوح، أهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلا ما حمل في سفينته. وأخرج أحمد في الزهد عن ابن مسعود قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره، ثم قال: أي والله زمن غرق قوم نوح. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عنه قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم، ثم قرأ "ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا عن أنس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، قال أبو هريرة: بلى والله إن الحباري لتموت هزالاً في وكرها من ظلم الظالم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك "ويجعلون لله ما يكرهون" قال: يجعلون لي البنات ويكرهون ذلك لأنفسهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى" قال: قول كفار قريش لنا البنون وله البنات. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "وأنهم مفرطون" قال: منسبون. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: معجلون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه.

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم، فقال مسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم 63- "تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك" أي رسلاً "فزين لهم الشيطان أعمالهم" الخبيثة "فهو وليهم اليوم" يحتمل أن يكون اليوم عبارة عن زمان الدنيا، فيكون المعنى: فهو قرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده، فيكون للحال الآتية، ويكون الولي بمعنى الناصر، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه، لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلاً في الدار الآخرة، وإذا كان الناصر منحصراً فيه لزم أن لا نصرة من غيره، ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا، وهو على وجهين: الأول أن يراد البعض الذي قد مضى، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. الثاني أن يراد البعض الحاضر، وهو وقت نزول الآية. والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش فيكون الضمير في "وليهم" لكفار قريش: أي فهو ولي هؤلاء اليوم، أو على حذف مضاف: أي فهو ولي أمثال أولئك الأمم اليوم "ولهم عذاب أليم" أي في الآخرة وهو عذاب النار.

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم فقال: 64- "وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه" وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالكتاب القرآن، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا لعلة التبيين لهم: أي للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد وأحوال البعث وسائر الأحكام الشرعية، "و" انتصاب "هدىً ورحمةً" على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين، ولا حاجة إلى اللام، لأنهما فعلا فاعل الفعل المعلل، بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل "لقوم يؤمنون" بالله سبحانه ويصدقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب.

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ

ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال: 65- "والله أنزل من السماء ماء" أي من السحاب، أي من جهة العلو كما مر: أي نوعاً من أنواع الماء "فأحيا به الأرض بعد موتها" أي أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها "إن في ذلك" الإنزال والإحياء "لآية" أي علامة دالة على وحدانيته وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم "لقوم يسمعون" كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر، ويتفكرون في خلق السموات والأرض.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ

66- "وإن لكم في الأنعام لعبرة" الأنعام هي الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز، والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة، ومنه "فاعتبروا يا أولي الأبصار" وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، والظاهر أن العبرة هي قوله: "نسقيكم مما في بطونه" فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة. قرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر "نسقيكم" بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، قيل هما لغتان. قال لبيد: سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال وقرئ بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الأنعام، وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه، وهما ضعيفتان، وجميع القراء على القراءتين الأوليين، والفتح لغة قريش، والضم لغة حمير، وقيل إن بين سقى وأسقى فرقاً، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي فيقال سقيته، وإن كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له قيل أسقاه. والضمير في قوله "مما في بطونه" راجع إلى الأنعام. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. وقال الزجاج لماكان لفظ الجمع يذكر ويؤنث، فيقال هو الأنعام، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير. وقال الكسائي معناه مما في بطون ما ذكرنا فهو على هذا عائد إلى المذكور. قال الفراء: وهو صواب. وقال المبرد: هذا فاش في القرآن كثير مثل قوله للشمس "هذا ربي" يعني هذا الشيء الطالع، وكذلك " وإني مرسلة إليهم بهدية " ثم قال: "فلما جاء سليمان" ولم يقل جاءت لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا انتهى، ومن ذلك قوله: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً" ومثله قول الشاعر: مثل الفراخ نيفت حواصله ولم يقل حواصلها، وقول الآخر: وطاب إلقاح اللبان وبرد ولم يقل وبردت. وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث، لأن الذكور لا ألبان لها، وبه قال أبو عبيدة وحكي عن الفراء أنه قال: النعم والأنعام واحد يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب: هذه نعم وارد فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام، وهو كقول الزجاج ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة "من بين فرث ودم" الفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً: يقال أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش، وهو الفرث ويكون منه الدم، فيكون أسفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه "لبناً" فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع، ويبقى الفرث كما هو. "خالصاً" يعني من حمرة الدم وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد "سائغاً للشاربين" أي لذيذاً هنيئاً لا يغص به من شربه: يقال ساغ الشراب يسوغ سوغاً أي سهل مدخله في الحلق.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

67- "ومن ثمرات النخيل والأعناب" قال ابن جرير: التقدير، ومن ثمرات النخيل والأعناب مما تتخذون، فحذف ما ودل على حذفه قوله منه وقيل هو معطوف على الأنعام، والتقدير: وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة، ويجوز أن يكون معطوفاً على مما في بطونه: أي نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ودل عليه ما قبله تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل، ويكون على هذا "تتخذون منه سكراً" بياناً للإسقاء وكشفاً عن حقيقته، ويجوز أن يتعلق بتتخذون تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً، ويكون تكرير الظرف، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها، وإنما ذكر الضمير في منه لأنه يعود إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف: وهو العصير كأنه قيل ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه، والسكر ما يسكر من الخمر، والرزق الحسن جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس والزبيب والخل، وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر، وقيل إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام من الشجرتين، وقيل السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. والقول الأول أولى وعليه الجمهور، وقد صرح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر، ولم يخالف في ذلك إلا أبو عبيدة فإنه قال: السكر الطعم. ومما يدل على ما قاله جمهور أهل اللغة قول الشاعر: بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم الهذي والسكر ومما يدل على ما قاله أبو عبيدة ما أنشده: جعلت عيب الأكرمين سكراً أي جعلت ذمهم طعماً، ورجح هذا ابن جرير فقال: إن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد مثل "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" قال الزجاج: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه ولاحجة في البيت الذي أنشده لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتحمر بعيوب الناس، وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ، قالوا: وإنما يمتن الله على عباده بما أحله لهم لا بما حرمه عليهم، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر اهـ. "إن في ذلك لآية لقوم يعقلون" أي لدلالة لمن يستعمل العقل ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية.

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ

68- "وأوحى ربك إلى النحل" قد تقدم الكلام في الوحي وأنه يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه في القلب ابتداءً من غير سبب ظاهر، ومنه قوله سبحانه: " ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها " ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها، وقرأ يحيى بن وثاب "إلى النحل" بفتح الحاء. قال الزجاج: وسمي نحلاً لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه. قال الجوهري: والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والأنثى "أن اتخذي من الجبال بيوتاً" أي بأن اتخذي على أن "أن" هي المصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية لأن في الإيحاء معنى القول، وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدم، أو للحمل على المعنى أو لكون النحل جمعاً، وأهل الحجاز يؤنثون النحل ومن في من الجبال بيوتاً "و" كذا في "من الشجر و" كذا في "مما يعرشون" للتبعيض: أي مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال وتجويف الشجر، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجناح والحيطان وغيرها، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب، يقال عرش يعرش بكسر الراء وضمها. وبالضم قرأ ابن عامر وشعبة. وقرأ الباقون بالكسر. وقرئ أيضاً بيوتاً بكسر الباء وضمها.

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

69- "ثم كلي من كل الثمرات" من للتبعيض لأنها تأكل النور من الأشجار فإذا أكلتها "فاسلكي سبل ربك" أي الطرق التي فهمك الله وعلمك، وأضافها إلى الرب لأنه خالقها وملهم النحل أن تسلكها: أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك: أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور عسلاً أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها، وانتصاب "ذللاً" على الحال من السبل، وهي جمع ذلول: أي مذللة غير متوعرة، واختار هذا الزجاج وابن جرير، وقيل حال من النحل: يعني: مطيعة للتسخير وإخراج العسل من بطونها، واختار هذا ابن قتيبة، وجملة "يخرج من بطونها" مستأنفة عدل به عن خطاب النحل، تعديداً للنعم، وتعجيباً لكل سامع، وتنبيهاً على الغير، وإرشاداً إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الشبيه بالذباب، والمراد "شراب" في الآية هو العسل، ومعنى "مختلف ألوانه" أن بعضه أبيض وبعضه أحمر وبعضه أزرق وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألوانها ومأكولاتها. وجمهور المفسرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وقيل من أسفلها، وقيل لا يدري من أين يخرج منها، والضمير في قوله: "فيه شفاء للناس" راجع إلى الشراب الخارج من بطون النحل وهو العسل، وإلى هذا ذهب الجمهور. وقال الفراء وابن كيسان وجماعة من السلف: إن الضمير راجع إلى القرآن، ويكون التقدير فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاءً للناس، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البين. وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء أو خاص ببعض الأمراض، فقالت طائفة: هو على العموم، وقالت طائفة: إن ذلك خاص ببعض الأمراض، ويدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاماً، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاءً عظيماً لمرض أو أمراض، لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم، والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب، أنه إذا استعمل منفرداً كان دواءً لأمراض خاصة وإن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض. وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية، وقليلاً ما يجتمع هذان الأمران في غيره "إن في ذلك" المذكور من أمر النحل "لآية لقوم يتفكرون" أي يعملون أفكارهم عند النظر في صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والحاكم وصححه والبيهقي في سننه وابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً" قال: السكر ما حرم من ثمرتهما، والرزق الحسن ما حل. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال: السكر الحرام، والرزق الحسن زبيبه وخله وعنبه ومنافعه. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: السكر النبيذ، والرزق الحسن الزبيب، فنسختها هذه الآية "إنما الخمر والميسر". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه أيضاً في الآية قال: فحرم الله بعد ذلك السكر منع تحريم الخمر لأنه منه، ثم قال: "ورزقاً حسناً" فهو الحلال من الخل والزبيب والنبيذ وأشباه ذلك، فأقره الله وجعله حلالاً للمسلمين. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن السكر، فقال: الخمر بعينها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال: السكر خمر. وأخرد ابن أبي حاتم عن ابن عباس "وأوحى ربك إلى النحل" قال: ألهمها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فاسلكي سبل ربك ذللاً" قال: طرقاً لا يتوعر عليها مكان سلكته. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة ذللاً قال: مطيعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: ذليلة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "يخرج من بطونها شراب" قال: العسل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هو العسل فيه الشفاء وفي القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن مسعود قال: إن العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال: عليكم بالشفاءين العسل والقرآن. وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن السني وأبو نعيم والخطيب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكم بالشفاءين العسل والقرآن". وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء: منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنا أنهى أمتي عن الكي". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد "أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه، فقال: اسقه عسلاً فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً، قال: اذهب فاسقه عسلاً فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: ما زاده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلاً فذهب فسقاه عسلاً فبرأ".

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ

لما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة، وخصائص القدرة القاهرة، أتبعه بعجائب خلق الإنسان وما فيه من العبر فقال: 70- "والله خلقكم" ولم تكونوا شيئاً "ثم يتوفاكم" عند انقضاء آجالكم "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر" يقال رذل يرذل رذالة، والأرذل والرذالة أردأ الشيء وأوضعه. قال النيسابوري: واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع: أولاها سن النشو. وثانيها سن الوقوف وهو سن الشباب. وثالثها سن الانحطاط اليسير، وهو سن الكهولة. ورابعها سن الانحطاط الظاهر، وهو سن الشيخوخة. قيل وأرذل العمر هو عند أن يصير الإنسان إلى الخرف، وهو أن يصير بمنزلة الصبي الذي لا عقل له، وقيل خمس وسبعون سنة، وقيل تسعون سنة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين " ثم علل سبحانه رد من يرده إلى أرذل العمر بقوله: " لكي لا يعلم بعد علم " كان قد حصل له "شيئاً" من العلم لا كثيراً ولا قليلاً أو شيئاً من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم، وقيل المراد بالعلم هنا العقل، وقيل المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك.

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ

ثم لما بين سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر ذكر طرفاً من أحواله لعله يتذكر عند ذلك فقال: 71- "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق" فجعلكم متفاوتين فيه فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفاً مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال جعله بينهم في العقل والعلم والفهم وقوة البدن وضعفه والحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك من الأحوال، وقيل معنى الآية: أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم بدليل قوله: "فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم" أي فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادي رزقهم الذي رزقهم الله إياه على ما ملكت أيمانهم من المماليك "فهم" أي المالكون والمماليك "فيه" أي في الرزق "سواء" أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم، فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على التراد: أي لا يردونه عليهم رداً مستتبعاً للتساوي، وإنما يردون عليهم منه شيئاً يسيراً، وهذا مثل ضربه الله سبحانه بعبدة الأصنام: أي إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء ولا ترضون بذلك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء والحال أن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية، فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم، فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه، أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة ذكر معنى هذا ابن جرير، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم " وقيل إن الفاء في "فهم فيه سواء" بمعنى حتى، "أفبنعمة الله يجحدون" حيث تفعلون ما تفعلون من الشرك، والنعمة هي كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك، وقد قرئ "يجحدون" بالتحتية والفوقية. قال أبو عبيدة وأبو حاتم: وقراءة الغيبة أولى لقرب المخبر عنه، ولأنه لو كان خطاباً لكان ظاهره للمسلمين، والاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر: أي يشركون به فيجحدون نعمته، ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا برادي رزقهم على مماليكهم، بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يظنوا أنهم يعطونهم شيئاً، وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم وهم جميعاً في ذلك سواء لا مزية لهم على مماليكهم، فيكون المعطوف عليه المقدر فعلاً يناسب هذا المعنى كأن يقال: لا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ

ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الإنسان فقال: 72- "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً" قال المفسرون: يعني النساء فإنه خلق حواء من ضلع آدم، أو المعنى: خلق لكم من جنسكم أزواجاً لتستأنسوا بها، لأن الجنس يأنس إلى جنسه ويستوحش من غير جنسه، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج، ولهذا قال: "وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة" الحفدة جمع حافد، يقال حفد يحفد حفداً وحفوداً: إذا أسرع، فكل من أسرع في الخدمة فهو حافد قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة. قال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم، ومن ذلك قول الشاعر وهو الأعشى: كلفت مجهولنا نوقاً يمانية إذ الحداة على أكتافها حفدوا أي الخدم والأعوان. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد، وروي عن ابن عباس، وقيل الأختان، قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحى وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، ومنه قول الشاعر: فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما تعد كثير ولكنها نفس علي أبية عيوف لأصهار اللئام قذور وقيل الحفدة الأصهار. قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة كابنها وأخيها وما أشبههما، والأصهار منهما جميعاً، يقال أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر، وقيل هم أولاد امرأة الرجل من غيره، وقيل الأولاد الذين يخدمونه، وقيل البنات الخادمات لأبيهن. ورجح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد، لأنه سبحانه امتن على عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة، فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين وإن كان يجوز أن يكون المعنى: جعل لكم من أزواجكم بنين وجعل لكم حفدة، ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من لا يخدم، وبالحفدة من يخدم الأب منهم، أو يراد بالحفدة البنات فقط، ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلا إذا كان تقدير الآية: وجعل لكم من أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة "ورزقكم من الطيبات" التي تستطيبونها وتستلذونها ومن للتبعيض لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلا في الجنة، ثم ختم سبحانه الآية بقوله: "أفبالباطل يؤمنون" والاستفهام للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر: أي يكفرون بالله فيؤمنون بالباطل، وقد تقدم بالباطل على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به، والباطل هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع، وقيل الباطل ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما. قرأ الجمهور "يؤمنون" بالتحتية، وقرأ أبو بكر بالفوقية على الخطاب "وبنعمة الله هم يكفرون" أي ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر، وفي تقديم النعمة وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد.

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ

73- "ويعبدون من دون الله" هو معطوف على يكفرون داخل تحت الإنكار التوبيخي إنكاراً منه سبحانه عليهم حيث يعبدون الأصنام، وهي لا تنفع ولا تضر، ولهذا قال "ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً" قال الأخفش: إن شيئاً بدل من الرزق. وقال الفراء: هو منصوب بإيقاع الرزق عليه، فجعل رزقاً مصدراً عاملاً في شيئاً، والأخفش جعله اسماً للرزق، وقيل يجوز أن يكون تأكيداً لقوله "لا يملك" أي لا يملك شيئاً من الملك، والمعنى: أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك لهم رزقاً أي رزق، و "من السموات والأرض" صفة لرزق: أي كائناً منهما، والضمير في "ولا يستطيعون" راجع إلى ما، وجمع جمع العقلاء بناء على زعمهم الباطل، والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة التملك بطريق من الطرق، فبين سبحانه أنها لا تملك ولا تستطيع، وقيل يجوز أن يكون الضمير في "يستطيعون" للكفار: أي لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم أحياء متصرفين، فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرف؟.

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه. فقال: 74- "فلا تضربوا لله الأمثال" فإن ضارب المثل يشبه حالاً بحال وقصة بقصة. قال الزجاج: لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له، وكانوا يقولون: إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك، وعلل النهي بقوله: "إن الله" عليم "يعلم" ما عليكم من العبادة "وأنتم لا تعلمون" ما في عبادتها من سوء العاقبة، والتعرض لعذاب الله سبحانه، أو أنتم لا تعلمون بشيء من ذلك، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختل، ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك. وقد أخرج ابن جرير عن علي في قوله: "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر" قال: خمس وسبعون سنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: هو الخرف. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، ثم قرأ " لكي لا يعلم بعد علم شيئا ". وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال: العالم لا يخرف. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره أنه كان يتعوذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق" قال: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: هذا مثل لآلهة الباطل مع الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً" قال: خلق آدم، ثم خلق زوجته منه. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله: "بنين وحفدة" قال: الحفدة الأختان. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الحفدة الأصهار. وأخرجا عنه قال: الحفدة الولد وولد الولد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الحفدة بنو البنين. وأخرج ابن جرير عن أبي حمزة قال: سئل ابن عباس عن قوله: "بنين وحفدة" قال: من أعابك فقد حفدك، أما سمعت الشاعر يقول: حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الحفدة بنو امرأة الرجل ليسوا منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة "أفبالباطل يؤمنون" قال: الشرك. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال هو الشيطان "وبنعمة الله" قال: محمد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ويعبدون من دون الله" الآية قال: هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها "رزقاً من السموات والأرض" ولا خيراً ولا حياة ولا نشوراً " فلا تضربوا لله الأمثال " فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه: "فلا تضربوا لله الأمثال" يعني اتخاذهم الأصنام، يقول لا تجعلوا معي إلهاً غيري، فإنه لا إله غيري.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

قوله: 75- "ضرب الله مثلاً" لما قال سبحانه إن الله يعلم: أي بالمعلومات التي من جملتها كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، علمهم سبحانه كيف تضرب الأمثال فقال: ضرب الله مثلاً: أي ذكر شيئاً يستدل به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه، وبين ما جعلوه شريكاً له من الأصنام، ثم ذكر ذلك فقال: "عبداً مملوكاً" والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له، وهي المملوكية والعجز عن التصرف، فقوله: "عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء" تفسير للمثل وبدل منه، ووصفه بكونه مملوكاً لأن العبد والحر مشتركان في كون كل واحد منهما عبداً لله سبحانه، ووصفه بكونه لا يقدر على شيء لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات، فهذا الوصف لتمييزه عنهما "ومن رزقناه" من هي الموصولة، وهي معطوفة على عبداً: أي والذي رزقناه "منا" أي من جهتنا "رزقاً حسناً" من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا، والمراد بكون الرزق حسناً أنه مما يحسن في عيون الناس، لكونه رزقاً كثيراً مشتملاً على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها، والفاء في قوله "فهو ينفق منه" لترتيب الإنفاق على الرزق: أي ينفق منه في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع البر والمعروف، وانتصاب "سراً وجهراً" على الحال: أي ينفق منه في حال السر وحال الجهر، والمراد بيان عموم الإنفاق للأوقات، وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه، وأن الثواب فيه أكثر، وقيل إن "من" في "ومن رزقناه" موصوفة كأنه قيل: وحراً رزقناه، ليطابق عبداً، "هل يستوون" أي الحر والعبد الموصوفان بالصفات المتقدمة، وجمع الضمير لمكان من، لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، وقيل إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبارة عن الحر الجنس: أي من اتصف بتلك الأوصاف من الجنسين، والاستفهام للإنكار: أي هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه؟ وحاصل المعنى: أنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزقه الله رزقاً حسناً فهو ينفق منه، كذلك لا يستوي الرب الخالق الرزاق والجمادات من الأصنام التي تعبدونها وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، وقيل المراد بالعبد المملوك في الآية هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر هو المؤمن، والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف، وقيل العبد هو الصنم، والثاني عابد الصنم، والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف، لأن الأول جماد، والثاني إنسان "الحمد لله" أي الحمد لله كله، لأنه المنعم لا يستحق غيره من العباد شيئاً منه، فكيف تستحق الأصنام منه شيئاً ولا نعمة منها أصلاً لا بالأصالة ولا بالتوسط، وقيل أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد، وقيل أراد قل الحمد لله، والخطاب إما لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لمن رزقه الله رزقاً حسناً، وقيل إنه لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود قال الحمد لله: أي على قوة هذه الحجة "بل أكثرهم لا يعلمون" ذلك حتى يعبدوا من تحق له العبادة ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة، ونفي العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم، أو هم يتركون الحق عناداً مع علمهم به فكانوا كمن لا علم له، وخص الأكثر بنفي العلم: إما لكونه يريد الخلق جميعاً، وأكثرهم المشركون، أو ذكر الأكثر وهو يريد الكل، أو المراد أكثر المشركين، لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم.

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

ثم ذكر سبحانه مثلاً ثانياً ضربه لنفسه، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع فقال: 76- "وضرب الله مثلاً" أي مثلاً آخر أوضح مما قبله وأظهر منه، و "رجلين" بدل من مثل وتفسير له، والأبكم العيي المفحم، وقيل هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر، ثم وصف الأبكم فقال: "لا يقدر على شيء" من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه وعدم قدرته على النطق، ومعنى "كل على مولاه" ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله ووبال على إخوانه، وقد يسمى اليتيم كلاً لثقله على من يكلفه، ومنه قول الشاعر: أكول لمال الكل قبل شبابه إذا كان عظم الكل غير شديد وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقاً. ثم وصفه بصفة رابعة فقال "أينما يوجهه لا يأت بخير" أي إذا وجهه إلى أي جهة لا يأت بخير قط، لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول. وقرأ يحيى بن وثاب أينما يوجه على البناء للمجهول، وقرأ ابن مسعود أينما توجه على صيغة الماضي "هل يستوي هو" في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها "ومن يأمر بالعدل" أي يأمر الناس بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم، ويقدر على التصرف في الأشياء "وهو" في نفسه "على صراط مستقيم" على دين قويم وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط، قابل أوصاف الأول بهذين الوصفين المذكورين للآخر، لأن حاصل أوصاف الأول عدم استحقاقه لشيء، وحاصل وصفي هذا أنه يستحق أكمل استحقاق، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكاً له.

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين مدح نفسه بقوله: "ولله غيب السموات والأرض" أي يختص ذلك به لا يشاركه فيه غيره ولا يستقل به، والمراد علم ما غاب عن العباد فيهما، أو أراد بغيبهما يوم القيامة لأن علمه غائب عن العباد، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما. والمعنى: التوبيخ للمشركين والتقريع لهم: أي أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلاً عاجزاً لا يضر ولا ينفع ولا يعلم بشيء من أنواع العلم "وما أمر الساعة" التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصة به سبحانه "إلا كلمح البصر" اللمح النظر بسرعة، ولا بد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة، ولذا قال "أو هو" أي أمرهما "أقرب" وليس هذا من قبيل المبالغة، بل هو كلام في غاية الصدق، لأن مدة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية، ومنها إلى الأبد غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي، أو يقال: إن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها، لأنه يقول للشيء كن فيكون، وقيل المعنى: هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة، ومثله قوله سبحانه: " إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا " ولفظ أوفى "أو هو أقرب" ليس للشك بل للتمثيل، وقيل دخلت لشك المخاطب، وقيل هي بمنزلة بل "إن الله على كل شيء قدير" ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته.

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

ثم إنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال 78- "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً" وهذا معطوف على قوله: "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً" منتظم معه في سلك أدلة التوحيد: أي أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً لا علم لكم بشيء، وجملة لا تعلمون شيئاً في محل نصب على الحال، وقيل المراد لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق، وقيل لا تعلمون شيئاً مما قضى به عليكم من السعادة والشقاوة، وقيل لا تعلمون شيئاً من منافعكم، والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها اعتباراً بعموم اللفظ، فإن "شيئاً" نكرة واقعة في سياق النفي. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة إمهاتكم بكسر الهمزة والميم هنا، وفي النور والزمر والنجم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم، "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة" أي ركب فيكم هذه الأشياء، وهو معطوف على أخرجكم، وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع. والمعنى: جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوباً عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه، والأفئدة جمع فؤاد، وهو وسط القلب منزل منه بمنزلة القلب من الصدر، وقد قدمنا الوجه في إفراد السمع وجمع الأبصار والأفئدة، وهو أن إفراد السمع لكونه مصدراً في الأصل يتناول القليل والكثير "لعلكم تشكرون" أي لكي تصرفوا كل آلة فيما خلقت له، فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه، أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر.

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على كمال قدرته. فقال: 79- "ألم يروا إلى الطير مسخرات" أي ألم ينظروا إليها حال كونها مسخرات: أي مذللات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة وسائر الأسباب المواتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامها بسط الجناح وقبضه كما يفعل السابح في الماء "في جو السماء" أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو، وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها "ما يمسكهن" في الجو "إلا الله" سبحانه بقدرته الباهرة، فإن ثقل أجسامها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها، لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها ولا اعتمدت على شيء تحتها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب "ألم تروا" بالفوقية على الخطاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتحتية "إن في ذلك لآيات" أي إن في ذلك التسخير على تلك الصفة لآيات ظاهرات تدل على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة "لقوم يؤمنون" بالله سبحانه وبما جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها الله. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً" الآية قال: يعني الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله "ومن رزقناه منا رزقاً حسناً" الآية قال: يعني المؤمن وهذا المثل في النفقة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية، وفي قوله: "مثلاً رجلين أحدهما أبكم" قال: كل هذا مثل إله الحق وما تدعون من دونه الباطل. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: في المثل الأول يعني بذلك الآلهة التي لا تملك ضراً ولا نفعاً ولا تقدر على شيء ينفعها " ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا " قال: علانية الذي ينفق سراً وجهراً لله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه قال: نزلت هذه الآية "ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً" في رجل من قريش وعبدة بن هشام بن عمرو، وهو الذي ينفق سراً وجهراً، وفي عبدة أبي الجوزاء الذي كان ينهاه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم" الآية قال: يعني بالأبكم الذي هو كل على مولاه الكافر "ومن يأمر بالعدل" المؤمن، وهذا المثل في الأعمال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه أيضاً قال: نزلت هذه الآية "وضرب الله مثلاً رجلين" الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر، وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام، وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة، وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في قوله: "ومن يأمر بالعدل" قال: عثمان بن عفان. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "كل" قال: الكل العيال، كانوا إذا ارتحلوا حملوه على بعير ذلول، وجعلوا معه نفراً يمسكونه خشية أن يسقط عليهم، فهو عناء وعذاب وعيال عليهم "هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم" يعني نفسه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر" هو أن يقول: كن فهو كلمح البصر "أو هو أقرب" فالساعة كلمح البصر أو هي أقرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم" قال: من الرحم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "في جو السماء" أي في كبد السماء.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ

قوله: 80- "والله جعل لكم" معطوف على ما قبله وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان، ومن تعديد نعم الله عليه، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع، وهو بمعنى مسكون: أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وهذه نعمة، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك، ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً" لما ذكر سبحانه بيوت المدن، وهي التي للإقامة الطويلة عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة: أي جعل لكم من جلود الأنعام، وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب "تستخفونها" أي يخف عليكم حملها في الأسفار وغيرها، ولهذا قال "يوم ظعنكم" والظعن بفتح العين وسكونها، وقرئ بهما: سير أهل البادية للانتجاع والتحول من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة: ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع والظعن الهودج أيضاً "ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً" معطوف على "جعل" أي وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها، والأنعام تعم الإبل والبقر والغنم كما تقدم، والأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز، وهي من جملة الغنم، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة، أعني الإبل، ونوعي الغنم، والأثاث متاع البيت، وأصله الكثرة والاجتماع، ومنه شعر أثيث: أي كثير مجتمع، قال الشاعر: وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل قال الخليل أثاثاً: أي منضماً بعضه إلى بعض، من أث إذا أكثر، قال الفراء: لا واحد له، والمتاع: ما يتمتع به بأنواع التمتع، وعلى قول أبي زيد الأنصاري: إن الأثاث المال أجمع: الإبل والغنم والعبيد والمتاع، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام، وقيل إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، ومعنى "إلى حين" إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت، أو إلى القيامة.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ

ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام، أو أبنية يستظل بها لفقر، أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك نبه سبحانه على ذلك فقال: 81- " جعل لكم مما خلق ظلالا " أي أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة. والحاصل أن الظلال تعم الأشياء التي تظل، ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد، نبه سبحانه على ذلك فقال: "وجعل لكم من الجبال أكناناً" وهي جمع كن: وهو ما يستكن به من المطر، وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله سبحانه عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها "وجعل لكم سرابيل" جمع سربال، وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال، ومعنى "تقيكم الحر" تدفع عنكم ضرر الحر، وخص الحر ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد. ووجه تخصيص الحر بالذكر أن الوقاية منه كانت أهم عندهم من الوقاية من البرد لغلبة الحر في بلادهم "وسرابيل تقيكم بأسكم" وهي الدروع والجواشن يتقون بها الطعن والضرب والرمي. والمعنى: أنها تقيم البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحرب "كذلك يتم نعمته عليكم" أي مثل ذلك الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم، فإنه سبحانه قد من على عباده بصنوف النعم المذكورة ها هنا وبغيرها، وهو بفضله وإحسانه سيتم لهم نعمة الدين والدنيا "لعلكم تسلمون" إرادة أن تسلموا، فإن من أنعم النظر في هذه العم لم يسعه إلا الإسلام والانقياد للحق. وقرأ ابن محيصن وحميد " ويتم نعمته " بتاءين فوقيتين على أن فاعله نعمته، وقرأ الباقون بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه. وقرأ ابن عباس وعكرمة "تسلمون" بفتح التاء واللام من السلامة على الجراح، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح، وقيل الخطاب لأهل مكة: أي لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية، والأولى الحمل على العموم، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

82- " فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين " أي إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به فقد تمهد عذرك، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم المبين: أي الواضح، وليس عليك غير ذلك، وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له.

يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ

وجملة 83- "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها" استئناف لبيان توليهم: أي هم يعرفون نعمة الله التي عددها، ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة، حيث يقولون هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام، وحيث يقولون إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم، وأيضاً كونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الرب سبحانه، وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها، وقيل نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوته "وأكثرهم الكافرون" أي الجاحدون لنعم الله أو الكافرون بالله، وعبر هنا بالأكثر عن الكل، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين". وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد سكناً قال: تسكنون فيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه قال: "وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً" وهي خيام العرب "تستخفونها" يقول: في الحمل "ومتاعاً" يقول بلاغاً "إلى حين" قال: إلى الموت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "تستخفونها يوم ظعنكم" قال: بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة، وفي قوله: "وأوبارها" قال: الإبل "وأشعارها" قال الغنم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله "أثاثاً" قال: الأثاث المتاع. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأثاث المال "ومتاعاً إلى حين" يقول: تنتفعون به إلى حين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والله جعل لكم مما خلق ظلالاً" قال: من الشجر ومن غيرها "وجعل لكم من الجبال أكناناً" قال: غارات يسكن فيها "وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر" قال: من القطن والكتان والصوف "وسرابيل تقيكم بأسكم" من الحديد " كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون " ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "سرابيل تقيكم الحر" قال: يعني الثياب، "وسرابيل تقيكم بأسكم" قال: يعني الدروع والسلاح "كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون" يعني من الجراحات وكان ابن عباس يقرأها تسلمون كما قدمنا، وإسناده ضعيف.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ

لما بين سبحانه من حال هؤلاء أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وأن أكثرهم كافرون أتبعه بأصناف وعيد يوم القيامة، فقال: 84- "ويوم نبعث من كل أمة شهيداً" أي واذكر يوم نبعث، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم بالإيمان والتصديق، وعليهم بالكفر والجحود والتكذيب "ثم لا يؤذن للذين كفروا" أي في الاعتذار، إذ لا حجة لهم ولا عذر كقوله سبحانه: "ولا يؤذن لهم فيعتذرون" أو في كثرة الكلام، أو في الرجوع إلى دار الدنيا، وإيراد ثم ها هنا للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبئ عن الإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء "ولا هم يستعتبون" لأن العتاب إنما يطلب لأجل العود إلى الرضا، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب. والمعنى: أنهم لا يسترضون: أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا تركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون، وأصل الكلمة من العتب وهو الموجد، يقال عتب عليه يعتب: إذا وجد عليه، فإذا أفاض عليه ما عتب فيه عليه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرته قيل أعتبه، والاسم العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب قاله الهروي، ومنه قول النابغة: فإن كنت مظلوماً فعبداً ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ

85- "وإذا رأى الذين ظلموا العذاب" أي وإذا رأى الذين أشركوا العذاب الذي يستحقونه بشركهم، وهو عذاب جهنم "فلا يخفف" ذلك العذاب "عنهم ولا هم ينظرون" أي ولا هم يمهلون ليتوبوا إذ لا توبة هنالك.

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ

86- "وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم" أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، لما تقرر من أنهم يبعثون مع المشركين ليقال لهم من كان يعبد شيئاً فليتبعه، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم. "قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك" أي الذين كنا نعبدهم من دونك. قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين بهذا القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللاً بذلك واسترواحاً مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه "فألقوا إليهم القول" أي ألقى أولئك الأصنام والأوثان والشياطين ونحوهم إلى المشركين القول "إنكم لكاذبون" أي قالوا لهم إنكم أيها المشركون لكاذبون فيما تزعمون من إحالة الذنب علينا الذي هو مقصودكم من هذا القول. فإن قيل إن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، وقد كانوا صادقين في ذلك، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، وقد كانوا صادقين في ذلك، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها؟ فالجواب بأن مرادهم من قولهم هؤلاء شركاؤنا: هؤلاء شركاء الله في المعبودية، فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة، والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق فإن الله سبحانه ينطقها في تلك الحال لتخجيل المشركين وتوبيخهم، وهذا كما قالت الملائكة "بل كانوا يعبدون الجن" يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لهم.

وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

87- "وألقوا إلى الله يومئذ السلم" أي ألقى المشركون يوم القيامة الاستسلام والانقياد لعذابه والخضوع لعزته، وقيل استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم "وضل عنهم ما كانوا يفترون" أي ضاع وبطل ما كانوا يفترونه من أن لله سبحانه شركاء وما كانوا يزعمون من شفاعتهم لهم، وأن عبادتهم لهم تقربهم إلى الله سبحانه.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ

88- "الذين كفروا" في أنفسهم "وصدوا" غيرهم "عن سبيل الله" أي عن طريق الحق، وهي طريق الإسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها وحملوهم على الكفر، وقيل المراد بالصد عن سبيل الله: الصد عن المسجد الحرام، والأولى العموم. ثم أخبر عن هؤلاء الذين صنعوا هذا الصنع بقوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب" أي زادهم الله عذاباً لأجل الإضلال لغيرهم فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم، وقيل المعنى: زدنا القادة عذاباً فوق عذاب أتباعهم أي أشد منه، وقيل إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير، وقيل غير ذلك.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ

89- "ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم" أي نبياً يشهد عليهم "من أنفسهم" من جنسهم، إتماماً للحجة وقطعاً للمعذرة، وهذا تكرير لما سبق لقصد التأكيد والتهديد "وجئنا بك" يا محمد "شهيداً على هؤلاء" أي تشهد على هذه الأمم وتشهد لهم، وقيل على أمتك، وقد تقدم مثل هذا في البقرة والنساء "ونزلنا عليك الكتاب" أي القرآن، والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال بتقدير قد "تبياناً لكل شيء" أي بياناً له، والتاء للمبالغة، ونظيره من المصادر التلقاء، ولم يأت غيرهما، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، ومعنى كونه تبياناً لكل شيء أن فيه البيان لكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقي منها على السنة، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به من الأحكام، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني أوتيت القرآن ومثله معه" و "هدىً" للعباد "ورحمة" لهم "وبشرى للمسلمين" خاصة دون غيرهم، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم، لأنهم المنتفعون بذلك.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبه آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقاً لذلك فقال: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان". وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان، فقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض، وقيل العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقيل العدل استواء العلانية والسريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وقيل العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. والأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط وهو الغلو المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين، وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه، فقال في حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين "والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا هو معنى الإحسان شرعاً "وإيتاء ذي القربى" أي إعطاء القرابة ما تدعو إليه حاجتهم، وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب وترغيب في التصدق عليهم، وهو من باب عطف الخاص على العام إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان، وقيل من باب عطف المندوب على الواجب، ومثل هذه الآية قوله: "وآت ذا القربى حقه" وإنما خص ذوي القربى لأن حقهم آكد، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته وقطيعتها من قطيعته "وينهى عن الفحشاء" هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل، وقيل هي الزنا، وقيل البخل "والمنكر" ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها وقيل هو الشرك "و" أما "البغي" فقيل هو الكبر، وقيل الظلم، وقيل الحقد وقيل التعدي، وحقيقته تجاوز الحد فيشمل هذه المذكورة ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر، وإنما خص بالذكر اهتماماً به لشدة ضرره ووبال عاقبته، وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه: "إنما بغيكم على أنفسكم" وهذه الآية هي من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله: "يعظكم لعلكم تذكرون" أي يعظكم بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه، فإنها كافية في باب الوعظ والتذكير، لعلكم تذكرون إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره فتتعظوا بما وعظكم الله به. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ويوم نبعث من كل أمة شهيداً" قال: شهيدها نبيها على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله: "وجئنا بك شهيداً على هؤلاء" قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فألقوا إليهم القول" قال: حدثوهم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج "وألقوا إلى الله يومئذ السلم" قال: استسلموا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السري وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن مسعود في قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب" قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال. وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى: "زدناهم عذاباً فوق العذاب"، فقال: عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم" وأخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب" قال: خمسة أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون ببعضها بالليل، وببعضها بالنهار. وقد روى ابن مردويه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزيادة خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار: ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار النهار" فلذلك قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إن الله أنزل في هذا الكتاب تبياناً لكل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، ثم قرأ "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن الضريس في فضائل القرآن ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الآية". وفي إسناده شهر بن حوشب. وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده لا بأس به. وقد أخرجه مطولاً أحمد والبخاري في الأدب وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس، وحسن ابن كثير إسناده. وأخرج الباوردي وابن السكن وابن منده وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي حكيم العرب قال: إني أراه يأمره بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، ثم قال لقومه: كونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً، وكونوا فيه أولاً ولا تكونوا فيه آخراً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "إن الله يأمر بالعدل" قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء لفرائض "وإيتاء ذي القربى" قال: إعطاء ذوي الأرحام الحق الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم "وينهى عن الفحشاء" قال: الزنا "والمنكر" قال الشرك "والبغي" قال: الكبر والظلم "يعظكم" قال: يوصيكم "لعلكم تذكرون"، وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب ومحمد بن نصر في الصلاة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال: أعظم آية في كتاب الله "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " وأشد آية في كتاب الله رجاء "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية. وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن أنه قرأ هذه الآية "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" إلى آخرها ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه. وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه قال: مر علي بن أبي طالب بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذلك في كتابه إذ يقول: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" فالعدل والإنصاف، والإحسان التفضل، فما بقي بعد هذا؟

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ

خص سبحانه من جملة المأمورات التي تضمنها قوله: "إن الله يأمر بالعدل" الوفاء بالعهد فقال: 91- "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم" وظاهره العموم في كل عهد يقع من الإنسان من غير فرق بين عهد البيعة وغيره، وخص هذا العهد المذكور في هذه الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وهو خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله، ولو فرض أن السبب خاص بعهد من العهود لم يكن ذلك موجباً لقصره على السبب، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفسره بعضهم باليمين، وهو مدفوع بذكر الوفاء بالأيمان بعده حيث قال سبحانه: "ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها" أي بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها، وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالأيمان المؤكدة، لا بغيرها مما لا تأكيد فيه، فإن تحريم النقض يتناول الجميع، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من الإثم فوق الإثم الذي في نقض ما لم يوكد منها، يقال وكد وأكد توكيداً وتأكيداً، وهما لغتان. وقال الزجاج: الأصل الواو والهمزة بدل منها، وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: "والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما، ويخص أيضاً من هذا العموم يمين اللغو لقوله سبحانه: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو، وقد تقدم بسط الكلام على الأيمان في البقرة "وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً" أي شهيداً، وقيل حافظاً، وقيل ضامناً، وقيل رقيباً لأن الكفيل يراعي حال المكفول به، وقيل إن توكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مراراً. وحكى القرطبي عن ابن عمر أن التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه "إن الله يعلم ما تفعلون" فيجازيكم بحسب ذلك، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وفيه ترغيب وترهيب.

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْ

ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض فقال: 92- "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها" أي لا تكونوا فيما تصنعون من النقض بعد التوكيد كالتي نقضت غزلها: أي ما غزلته "من بعد قوة" أي من بعد إبراهم الغزل وإحكامه، وهو متعلق بنقضت "أنكاثاً" جمع نكث بكسر النون ما ينكث فتله. قال الزجاج: انتصب أنكاثاً على المصدر، لأن معنى نقضت نكثت، ورد بأن أنكاثاً ليس بمصدر، وإنما هو جمع كما ذكرنا. وقال الواحدي: هو منصوب على أنه مفعول ثان كما تقول كسرته أقطاعاً وأجزاء: أي جعلته أقطاعاً وأجزاءً، ويحتمل أن يكون حالاً. قال ابن قتيبة: هذه الآية متعلقة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً، وجملة "تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم" في محل نصب على الحال. قال الجوهري: والدخل المكر والخديعة، وقال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل. وقيل الدخل ما أدخل في الشيء على فساده. وقال الزجاج غشاً وغلاً "أن تكون أمة هي أربى من أمة" أي بأن تكون جماعة هي أربى من جماعة: أي أكثر عدداً منها وأوفر مالاً. يقال ربا الشيء يربو إذا كثر. قال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم وقد عزرتموهم بالأيمان. قيل وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم، وقيل هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبي صلى الله عليه وسلم "إنما يبلوكم الله به" أي يختبركم بكونكم أكثر وأوفر لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء أم تنقضون اغتراراً بالكثرة؟ فالضمير في "به" راجع إلى مضمون جملة: أن تكون أمة هي أربى من أمة: أي إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة ليعلم ما تصنعون، أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم "وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون" فيوضح الحق والمحقين ويرفع درجاتهم، ويبين الباطل والمبطلين فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه، وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل، أو يبين لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار.

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

ثم بين سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء أو على الإيمان فقال: 93- "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" متفقة على الحق "ولكن" بحكم الإلهية "يضل من يشاء" بخذلانه إياهم عدلاً منه فيهم "ويهدي من يشاء" بتوفيقه إياهم فضلاً منه عليهم "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" ولهذا قال: "ولتسألن عما كنتم تعملون" من الأعمال في الدنيا، واللام في "وليبينن لكم"، وفي "ولتسألن" هما الموطئتان للقسم.

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

ثم لما نهاهم سبحانه عن نقض مطلق الأيمان نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة فقال: 94- "ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم" وهي أيمان البيعة. قال الواحدي: قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد على الإسلام ونصرة الدين، واستدلوا على هذا التخصيص بما في قوله: "فتزل قدم بعد ثبوتها" من المبالغة، وبما في قوله: "وتذوقوا السوء بما صددتم" لأنهم إذا نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام. وعلى تسليم أن هذه الأيمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي سبب نزول هذه الآية، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقال جماعة من المفسرين: إن هذا تكرير لما قبله لقصد التأكيد والتقرير، ومعنى "فتزل قدم بعد ثبوتها" فتزل قدم من اتخذ يمينه دخلاً عن محجة الحق بعد ثبوتها عليها ورسوخها فيها. قيل وأفرد القدم للإيذان بأن زلل قدم واحد أي قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وهذا استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر، ويقال لمن أخطأ في شيء زلت به قدمه، ومنه قول الشاعر: تداركتما عبساً وقد ثل عرشها وذبيان قد زلت بأقدامها النعل "وتذوقوا السوء بما صددتم" أي تذوقوا العذاب السيء في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما بما صددتم "عن سبيل الله" أي بسبب صدودكم أنتم عن سبيل الله وهو الإسلام، أو بسبب صدكم لغيركم عن الإسلام، فإن من نقض البيعة وارتد اقتدى به غيره في ذلك فكان فعله سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها ولهذا قال: " ولكم عذاب عظيم " أي متبالغ في العظم، وهو عذاب الآخرة إن كان المراد بما قبله عذاب الدنيا.

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

ثم نهاهم سبحانه عن الميل إلى عرض الدنيا والرجوع عن العهد لأجله فقال: 95- "ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً" أي لا تأخذوا في مقابلة عهدكم عوضاً يسيراً حقيراً، وكل عرض دنيوي وإن كان في الصورة كثيراً فهو لكونه ذاهباً زائلاً يسير، ولهذا ذكر سبحانه بعد تقليل عرض الدنيا خيرية ما عند الله فقال: " إنما عند الله هو خير لكم " أي ما عنده من النصر في الدنيا والغنائم والرزق الواسع، وما عنده في الآخرة من نعيم الجنة الذي لا يزول ولا ينقطع هو خير لهم، ثم علل النهي عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً وأن ما عند الله هو خير لهم بقوله: "إن كنتم تعلمون" أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز بين الأشياء.

مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

ثم ذكر دليلاً قاطعاً على حقارة عرض الدنيا وخيرية ما عند الله فقال: 96- "ما عندكم ينفد وما عند الله باق" ومعلوم لكل عاقل أن ما ينفد ويزول وإن بلغ في الكثرة إلى أي مبلغ فهو حقير يسير، وما كان يبقى ولا يزول فهو كثير جليل، أما نعيم الآخرة فظاهر، وأما نعيم الدنيا الذي أنعم الله به على المؤمنين فهو وإن كان زائلاً لكنه لما كان متصلاً بنعيم الآخرة كان من هذه الحيثية في حكم الباقي الذي لا ينقطع، ثم قال: "ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" اللام هي الموطئة: أي لنجزينهم بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاق التكليف وجهاد الكافرين والصبر على ما ينالهم منهم من الإيذاء بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات. قيل وإنما خص أحسن أعمالهم، لأن ما عداه وهو الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعة، وقيل المعنى: ولنجزينهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل، لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن، والأحسن بالأحسن. كذا قيل. قرأ عاصم وابن كثير "لنجزين" بالنون. وقرأ الباقون بالياء التحتية. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر في قوله: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم" قال: أنزلت هذه الآية في بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن من أسلم بايع على الإسلام، فقال: "وأوفوا بعهد الله" الآية فلا يحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها" يقول: بعد تغليظها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن سعيدة الأسدية كانت تجمع الشعر والليف، فنزلت فيها هذه الآية "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها". وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص مثله، وفي الروايتين جميعاً أنها كانت مجنونة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في سبب نزول الآية قال: كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة كانت تغزل فإذا أبرمت غزلها نقضته. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير معناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أن تكون أمة هي أربى من أمة" قال: ناس أكثر من ناس. وأخرجوا عن مجاهد في الآية قال: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهوا عن ذلك.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

هذا شروع في ترغيب كل مؤمن في كل عمل صالح، وتعميم للوعد، ومعنى 97- "من عمل صالحاً" من عمل عملاً صالحاً أي عمل كان، وزيادة التمييز بذكر أو أنثى مع كون لفظ "من" شاملاً لهما لقصد التأكيد والمبالغة في تقرير الوعد، وقيل إن لفظ "من" ظاهر في الذكور، فكان في التنصيص على الذكر والأنثى بيان لشموله للنوعين وجملة "وهو مؤمن" في محل نصب على الحال، جعل سبحانه الإيمان قيداً في الجزاء المذكور لأن عمل الكافر لا اعتداد به لقوله سبحانه: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً" ثم ذكر الجزاء لمن عمل ذلك العمل الصالح فقال: "فلنحيينه حياة طيبة" وقد وقع الخلاف في الحياة الطيبة بماذا تكون؟ فقيل بالرزق الحلال، روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك. وقيل بالقناعة، قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه. وروي أيضاً عن علي وابن عباس. وقيل بالتوفيق إلى الطاعة قاله الضحاك. وقيل الحياة الطيبة هي حياة الجنة. روي عن مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وحكي عن الحسن أنه قال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وقيل الحياة الطيبة هي السعادة، روي ذلك عن ابن عباس. وقيل هي المعرفة بالله، حكي ذلك عن جعفر الصادق. وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبد الله التستري: هي أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ويرد تدبيره إلى الحق. وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق، وأكثر المفسرين على أن هذه الحياة الطيبة هي في الدنيا لا في الآخرة، لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله: "ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" وقد قدمنا قريباً تفسير الجزاء بالأحسن، ووحد الضمير في لنحيينه وجمعه في ولنجزينهم حملاً على لفظ من، وعلى معناه.

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

ثم لما ذكر سبحانه العمل الصالح والجزاء عليه أتبعه بذكر الاستعاذة التي تخلص بها الأعمال الصالحة عن الوساوس الشيطانية فقال: 98- "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" والفاء لترتيب الاستعاذة عن العمل الصالح، وقيل هذه الآية متصلة بقوله: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" والتقدير: فإذا أخذت في قراءته فاستعذ. قال الزجاج وغيره من أئمة اللغة: معناه إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ وليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن، ومثله: إذا أكلت فقل بسم الله. قال الواحدي: وهذا إجماع الفقهاء أن الاستعاذة قبل القراءة، إلا ما روي عن أبي هريرة وابن سيرين وداود ومالك وحمزة من القراء فإنهم قالوا: الاستعاذة بعد القراءة، ذهبوا إلى ظاهر الآية، ومعنى فاستعذ بالله: اسأله سبحانه أن يعيذك من الشيطان الرجيم: أي من وساوسه، وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال الصالحة عند إرادتها أهم، لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كانت عند إرادة غيره أولى، كذا قيل. وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإشعار بأن غيره أولى منه بفعل الاستعاذة، لأنه إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته، فكيف بسائر أمته؟ وقد ذهب الجمهور إلى أن الأمر في الآية للندب. وروي عن عطاء الوجوب أخذاً بظاهر الأمر. وقد تقدم الكلام في الاستعاذة مستوفى في أول هذا التفسير.

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

والضمير في 99- "إنه ليس له سلطان" للشأن أو للشيطان: أي ليس له تسلط "على" إغواء "الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون" وحكى الواحدي عن جميع المفسرين أنهم فسروا السلطان بالحجة. وقالوا: المعنى ليس له حجة على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة، ومعنى "وعلى ربهم يتوكلون" يفوضون أمورهم إليه في كل قول وفعل، فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم، وإن وسوس لأحد منهم لا تؤثر فيه وسوسته وهذه الجملة تعليل للأمر بالاستعاذة، وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس: "إلا عبادك منهم المخلصين" وقال الله فيهم: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين".

إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ

ثم حصر سبحانه سلطان الشيطان، فقال 100- "إنما سلطانه" أي تسلطه على الإغواء "على الذين يتولونه" أي يتخذونه ولياً ويطيعونه في وساوسه "والذين هم به مشركون" الضمير في به يرجع إلى الله تعالى: أي الذين هم بالله مشركون، وقيل يرجع إلى الشيطان، والمعنى: والذين هم من أجله وبسبب وسوسته مشركون بالله.

وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

101- "وإذا بدلنا آية مكان آية" هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها، ومعنى التبديل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها. وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة "قالوا" أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ "إنما أنت" يا محمد "مفتر" أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء، ثم تزعم أنه أمرك بخلافه، فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال: "بل أكثرهم لا يعلمون" شيئاً من العلم أصلاً، أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ، فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت، ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره، ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف.

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ

ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم افتراه فقال: 102- "قل نزله" أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية "روح القدس" أي جبريل، والقدس التطهير، والمعنى: نزله الروح المطهر من أدناس البشرية، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة "من ربك" أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه، و "بالحق" في محل نصب على الحال: أي متلبساً بكونه حقاً ثابتاً لحكمة بالغة "ليثبت الذين آمنوا" على الإيمان، فيقولون: كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا، ولأنهم أيضاً إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم. وقرئ "ليثبت" من الإثبات "وهدى وبشرى للمسلمين" وهما معطوفان على محل ليثبت: أي تثبيتاً لهم وهداية وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم.

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ

ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال: 103- "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر" اللام هي الموطئة: أي ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون إنما يعلم محمداً القرآن بشر من بني آدم غير ملك. وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا، فقيل هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، وكان نصرانياً فأسلم، وكان كفار قريش إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أخبار القرون الأولى مع كونه أمياً، قالوا: إنما يعلمه جبر. وقيل اسمه يعيش، عبد لبني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب الأعجمية. وقيل غلام لبني عامر بن لؤي. وقيل هما غلامان: اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان السيوف، وكانا يقرآن كتاباً لهم، وقيل كانا يقرآن التوراة والإنجيل. وقيل عنوا سلمان الفارسي، وقيل عنوا نصرانياً بمكة اسمه بلعام، وكان يقرأ التوراة. وقيل عنوا رجلاً نصرانياً كان اسمه أبا ميسرة يتكلم بالرومية، وفي رواية اسمه عداس. قال النحاس: وهذه الأقوال غير متناقضة، لأنه يجوز أنهم زعموا أنهم جميعاً يعلمونه، ولكن لا يمكن الجمع باعتبار قول من قال إنه سلمان، لأن هذه الآية مكية، وهو إنما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال: "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي" الإلحاد: الميل، يقال لحد وألحد: أي مال عن القصد. وقد تقدم في الأعراف، وقرأ حمزة والكسائي يلحدون بفتح الياء والحاء. وقرأ من عداهما بضم الياء وكسر الحاء: أي لسان الذي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك أعجمي، يقال: رجل أعجم وامرأة عجماء: أي لا يفصحان، والعجمة الإخفاء، وهي ضد البيان، والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بها أعجمياً. قال الفراء: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي: هو العجمي الذي أصله من العجم. وقال أبو علي الفارسي: العجمي المنسوب إلى العجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم، وكذلك الأعجم، والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً "وهذا لسان عربي مبين" الإشارة إلى القرآن، وسماه لساناً لأن العرب تقول للقصيدة والبيت لساناً، ومنه قول الشاعر: لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا أو أراد باللسان البلاغة فكأنه قال: وهذا القرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح، فكيف تزعمون أن بشراً يعلمه من العجم. وقد عجزتم أنتم عن معارضة سورة منه، وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة وهاتان الجملتان مستأنفتان سيقتا لإبطال طعنهم ودفع كذبهم.

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

ولما ذكر سبحانه جوابهم وبخهم وهددهم فقال: 104- "إن الذين لا يؤمنون بآيات الله" أي لا يصدقون بها "لا يهديهم الله" إلى الحق الذي هو سبيل النجاة هداية موصلة إلى المطلوب لما علم من شقاوتهم " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " بسبب ما هم عليه من الكفر والتكذيب بآيات الله.

إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ

ثم لما وقع منهم نسبة الافتراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليهم بقوله: 105- "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله" فكيف يقع الافتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رأس المؤمنين بها، والداعين إلى الإيمان بها، وهؤلاء الكفار هم الذين لا يؤمنون بها، فهم المفترون للكذب. قال الزجاج: المعنى إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها هؤلاء أكذب الكذبة، ثم سماهم الكاذبين، فقال: "أولئك" أي المتصفون بذلك "هم الكاذبون" أي إن الكذب نعت لازم لهم وعادة من عادتهم فهم الكاملون في الكذب، إذ لا كذب أعظم من تكذيبهم بآيات الله. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن الحياة الطيبة المذكورة في الآية فقال: الحياة الطيبة الرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا، وإذا صار إلى ربه جازاه بأحسن ما كان يعمل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الكسب الطيب والعمل الصالح. وأخرج العسكري في الأمثال عن علي في الآية قال: القناعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال: القنوع، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو "اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه". وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنع به". وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر عن عطاء قال: الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة وغيرها من أجل قوله: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" وقد ورد في مشروعية الاستعاذة عند التلاوة ما لعلنا قد قدمنا ذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنما سلطانه على الذين يتولونه" يقول سلطان الشيطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "وإذا بدلنا آية مكان آية" وقوله: "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا" قال: عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاره. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وإذا بدلنا آية مكان آية" قال: هو كقوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بمكة قيناً اسمه بلعام، وكان أعجمياً، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله "ولقد نعلم أنهم يقولون" الآية. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عنه في الآية. قال: قالوا إنما يعلم محمداً عبد بن الحضرمي وهو صاحب الكتب، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج آدم بن أبي إياس وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان من أهل عين التمر، يقال لأحدهما يسار والآخر جبر، وكانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن الإنجيل، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف ويستمع، فقال المشركون: إنما يتعلم منهما، فنزلت هذه الآية.

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

قوله: 106- "من كفر بالله من بعد إيمانه" قد اختلف أهل العلم في إعرابه فذهب الأكثرون على أنه بدل، إما من "الذين لا يؤمنون بآيات الله" وما بينهما اعتراض، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء. ثم قال: "ولكن من شرح بالكفر صدراً" أي اعتقده وطابت به نفسه واطمأن إليه "فعليهم غضب" وإما من المبتدأ الذي هو "أولئك" أو من الخبر الذي هو "الكاذبون" وذهب الزجاج إلى الأول وقال الأخفش: إن "من" مبتدأ وخبره محذوف اكتفي منه بخبر "من" الثانية كقولك: من يأتنا منكن نكرمه، وقيل هو: أي "من" في "من كفر" منصوب على الذم وقيل إن من شرطية والجواب محذوف لأن جواب "من شرح" دال عليه، وهو كقول الأخفش، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على "من" والجواب على خبرها فكأنه قيل على هذا: من كفر بالله فعليهم غضب إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلا من الكافر لولا الإكراه. قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر. وحكي عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر كان مرتداً في الظاهر، وفيما بينه وبين الله على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلماً، وهذا القول مردود على قائله مدفوع بالكتاب والسنة، وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة، مثل أن يكره على السجود لغير الله ويدفعه ظاهر الآية، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول، وجملة "وقلبه مطمئن بالإيمان" في محل نصب على الحال من المستثنى: أي إلا من كفر بإكراه، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وليس بعد هذا الوعيد العظيم وهو الجمع للمرتدين بين غضب الله وعظيم عذابه.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ

والإشارة بقوله: 107- "ذلك" إلى الكفر بعد الإيمان، أو إلى الوعيد بالغضب والعذاب، والباء في "بأنهم استحبوا الحياة الدنيا" للسببية: أي ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا "على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين" معطوف على "أنهم استحبوا" أي ذلك بأنهم استحبوا، وبأن الله لا يهدي القوم الكافرين إلى الإيمان به.

أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

ثم وصفهم بقوله: 108- "أولئك" أي الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة "الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم" فلم يفهموا المواعظ ولا سمعوها، ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق، وقد سبق تحقيق الطبع في أول البقرة، ثم أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدمة فقال: "وأولئك هم الغافلون" عما يراد بهم، وضمير الفصل يفيد أنهم متناهون في الغفلة، إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه.

لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ

109- "لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون" أي الكاملون في الخسران البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية، وقد تقدم تحقيق الكلام في معنى "لا جرم" في مواضع منها ما هو في هذه السورة.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

110- "ثم إن ربك للذين هاجروا" من دار الكفر إلى دار الإسلام، وخبر إن محذوف، والتقدير لغفور رحيم، وإنما حذف لدلالة خبر "إن ربك" المتأخرة عليه، وقيل الخبر هو للذين هاجروا: أي إن ربك لهم بالولاية والنصرة لا عليهم، وفيه بعد، وقيل إن خبرها هو قوله " لغفور رحيم "، وإن ربك الثانية تأكيد للأولى. قال في الكشاف: ثم ها هنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء، يعني الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك، وهم عمار وأصحابه، ويدل على ذلك ما روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح، وسيأتي بيان ذلك "من بعد ما فتنوا" أي فتنهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر، وقرئ "فتنوا" على البناء للفاعل: أي الذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم على الإسلام "ثم جاهدوا" في سبيل الله وصبروا على ما أصابهم من الكفار، وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف " لغفور رحيم " أي كثير الغفران والرحمة لهم، ومعنى الآية على قراءة من قرأ "فتنوا" على البناء للفاعل واضح ظاهر: أي إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم، وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور، فالمعنى: أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم رحيم بهم، وأما إذا كان سبب الآية هذه هو عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام، فالمعنى: أن هذا المفتون في دينه بالردة إذا أسلم وجاهد وصبر فالله غفور له رحيم به، والضمير في بعدها يرجع إلى الفتنة أو إلى المهاجرة والجهاد والصبر، أو إلى الجميع.

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

111- "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها" قال الزجاج: يوم تأتي منتصب بقوله رحيم، أو بإضمار اذكر، أو ذكرهم أو أنذرهم، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس، ولا بد من التغاير بين المضاف والمضاف إليه. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الإنسان، وبالنفس الثانية الذات، فكأن قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه غيرها، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها، فهو مجادل ومخاصم عن نفسه لا يتفرغ لغيرها يوم القيامة. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي، فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت، فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه قال: أحد أحد، وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد، ثم مدها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان قبلك حين قلت الذي قلت، أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال لا، فأنزل الله "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان". وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال: ذاك عمار بن ياسر "ولكن من شرح بالكفر صدراً" عبد الله بن أبي سرح. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن أبي مالك في قوله: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال: نزلت في عمار بن ياسر، وفي الباب روايات مصرحة بأنها نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" في عياش بن أبي ربيعة. وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل " فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال: "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا" الآية قال: وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا" فيمن كان يفتي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فنزلت فيهم "ثم إن ربك للذين هاجروا" الآية فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم فنجا من نجا، وقتل من قتل. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله فأهوى إلى أذنيه فقال: إني أصم، فأمر به فقتل، وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة. وهو مرسل.

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ

قوله: 112- "وضرب الله مثلاً قرية" قد قدمنا أن ضرب مضمن معنى جعل حتى تكون "قرية" المفعول الأول و "مثلاً" المفعول الثاني، وإنما تأخرت "قرية" لئلا يقع الفصل بينهما وبين صفاتها، وقدمنا أيضاً أنه يجوز أن يكون ضرب على بابه غير مضمن ويكون "مثلاً" مفعوله الأول " قرية " بدلاً منه. وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة، أو المراد قرية غير معينة، بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام. والثاني أرجح لأن تنكير قرية يفيد ذلك، ومكة تدخل في هذا العموم البدلي دخولاً أولياً، وأيضاً يكون الوعيد أبلغ، والمثل أكمل، وغير مكة مثلها، وعلى فرض إرادتها ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها، ثم وصف القرية بأنها "كانت آمنة" غير خائفة "مطمئنة" غير منزعجة، أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون "يأتيها رزقها" أي ما يرتزق به أهلها "رغداً" واسعاً "من كل مكان" من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها "فكفرت" أي كفر أهلها "بأنعم الله" التي أنعم بها عليهم، والأنعم جمع نعمة كالأشد جمع شدة، وقيل جمع نعمى مثل بؤسى وأبؤس، وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله "فأذاقها الله" أي أذاق أهلها "لباس الجوع والخوف" سمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس، فاستعير له إسمه وأوقع عليه الإذاقة، وأصلها الذوق بالفم، ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين: إدراك اللمس، والذوق. روي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس، هب أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال: فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع. فرد عليه ابن الأعرابي. وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف، لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة، فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره، فكانت الاستعارة مجردة، ولو قال فكساها كانت مرشحة. قيل وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحاً من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحاً: وقيل إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف والاختبار، ومن ذلك قول الشاعر: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف عطفاً على لباس، وقرأ الباقون بالضم عطفاً على الجوع. قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله: "يصنعون" تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها.

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ

113- "ولقد جاءهم" يعني أهل مكة "رسول منهم" من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه، فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضرهم "فكذبوه" فيما جاء به "فأخذهم العذاب" النازل بهم من الله سبحانه، والحال أنهم في حال أخذ العذاب لهم "ظالمون" لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبدي ولغيرهم بالإضرار بهم وصدهم عن سبيل الله، وهذا الكلام من تمام المثل المضروب. وقيل إن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم، وقيل القتل يوم بدر.

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ

ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم ونحوها، وجاء بالفاء للاشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر. والمعنى: أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم "واشكروا نعمة الله" التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها "إن كنتم إياه تعبدون" ولا تعبدون غيره، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة التي زعمتم عبادة الله تعالى، وقيل إن الفاء في فكلوا داخلة على الأمر بالشكر، وإنما أدخلت على الأمر بالأكل لأن الأكل ذريعة إلى الشكر.

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

115- "إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله" كرر سبحانه ذكر هذه المحرمات في البقرة والمائدة والأنعام وفي هذه السورة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة، ثم ذكر الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم " وقد تقدم الكلام على جميع ما هو مذكور هنا مستوفى.

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ

ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال: 116- "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب" قال الكسائي والزجاج: ما هنا مصدرية وانتصاب الكذب بلا تقولوا: أي لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة، ويجوز أن تكون ما موصولة والكذب منتصب بتصف: أي لا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه "هذا حلال وهذا حرام" فحذف لفظة فيه لكونه معلوماً، فيكون قوله هذا حلال وهذا حرام بدلاً من الكذب، ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول: أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام، أو قائلة هذا حلال وهذا حرام، ويجوز أن ينتصب الكذب أيضاً بتصف وتكون ما مصدرية: أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب. وقرئ الكذب بضم الكاف والذال والباء على أنه نعت للألسنة، وقرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتاً لما. وقيل على البدل من ما: أي ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، واللام في "لتفتروا على الله الكذب" هي لام العاقبة لا لام العرض: أي فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه "إن الذين يفترون على الله الكذب" أي افتراء كان "لا يفلحون" بنوع من أنواع الفلاح وهو الفوز بالمطلوب.

مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

وارتفاع 117- "متاع قليل" على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل، أو هو مبتدأ خبره محذوف: أي لهم متاع قليل " ولهم عذاب أليم " يردون إليه في الآخرة.

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال: 118- "وعلى الذين هادوا حرمنا" أي حرمنا عليهم خاصة دون غيرهم "ما قصصنا عليك" بقولنا: "حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما" الآية، و "من قبل" متعلق بقصصنا أو بحرمنا "وما ظلمناهم" بذلك التحريم بل جزيناهم ببغيهم "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" حيث فعلوا أسباب ذلك فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

ثم بين سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال: 119- "ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة" أي متلبسين بجهالة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة النساء "ثم تابوا من بعد ذلك" أي من بعد عملهم للسوء، وفيه تأكيد فإن ثم قد دلت على البعدية فأكدها بزيادة ذكر البعدية "وأصلحوا" أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه، ثم كرر ذلك تأكيداً وتقريراً فقال: "إن ربك من بعدها" أي من التوبة " لغفور رحيم " كثير الغفران واسع الرحمة. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وضرب الله مثلاً قرية" قال: يعني مكة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية في الآية مثله وزاد فقال: ألا ترى أنه قال: "ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: القرية التي قال الله "كانت آمنة مطمئنة" هي يثرب. قلت: ولا أدري أي دليل دله على هذا التعيين، ولا أي قرينة قامت له على ذلك، ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله، وأي وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف، وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صح ذلك عن الصادق المصدوق. وصح عنه أيضاً أنه قال: "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب" الآية قال: في البحيرة والسائبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب "هذا حلال وهذا حرام" إلى آخر الآية، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قلت: صدق رحمه الله، فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة، وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالتهم، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدىً ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل: كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الجائر وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: عسى رجل أن يقول إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا، فيقول الله عز وجل له: كذبت، أو يقول: إن الله حرم كذا أو أحل كذا، فيقول الله له: كذبت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك" قال: في سورة الأنعام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة مثله، وقال حيث يقول: "وعلى الذين هادوا" إلى قوله "وإنا لصادقون".

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

لما فرغ سبحانه من دفع شبه المشركين وإبطال مطاعنهم، وكان إبراهيم عليه السلام من الموحدين وهو قدوة كثير من الأنبين ذكره الله في آخر هذه السورة فقال: 120- "إن إبراهيم كان أمة" قال ابن الأعرابي: يقال للرجل العالم أمة، والأمة الرجل الجامع للخير. قال الواحدي: قال أكثر أهل التفسير: أي معلماً للخير، وعلى هذا فمعنى كون إبراهيم كان أمة أنه كان معلماً للخير أو جامعاً لخصال الخير أو عالماً بما علمه الله من الشرائع، وقيل أمة بمعنى مأموم: أي يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير كما قال سبحانه: "إني جاعلك للناس إماماً" والقانت المطيع، وقد تقدم بيان معاني القنوت في البقرة. والحنيف المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وقد تقدم بيانه في الأنعام "ولم يك من المشركين" بالله كما تزعمه كفار قريش أنه كان على دينهم الباطل.

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

121- "شاكراً لأنعمه" التي أنعم الله بها عليه وإن كانت قليلة كما يدل عليه جمع القلة فهو شاكر لما كثر منها بالأولى "اجتباه" أي اختاره للنبوة واختصه بها "وهداه إلى صراط مستقيم" وهو ملة الإسلام ودين الحق.

وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

122- "وآتيناه في الدنيا حسنة" أي خصلة حسنة أو حالة حسنة، وقيل هو الولد الصالح، وقيل الثناء الحسن، وقيل النبوة، وقيل الصلاة منا عليه في التشهد، وقيل هي أنه يتولاه جميع أهل الأديان، ولا مانع أن يكون ما آتاه الله شاملاً لذلك كله ولما عداه من خصال الخير "وإنه في الآخرة لمن الصالحين" حسبما وقع منه السؤال لربه حيث قال: " وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم ".

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

123- "ثم أوحينا إليك" يا محمد مع علو درجتك وسمو منزلتك وكونك سيد ولد آدم "أن اتبع ملة إبراهيم" وأصل الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان نبي من أنبيائه، قيل والمراد هنا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه. وقال ابن جرير: في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام، وقيل في مناسك الحج، وقيل في الأصول دون الفروع وقيل في جميع شريعته إلا ما نسخ منها، وهذا هو الظاهر. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم فقال تعالى: "فبهداهم اقتده"، وانتصاب "حنيفاً" على الحال من إبراهيم، وجاز مجيء الحال منه، لأن الملة كالجزء منه، وقد تقرر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه أو كان جزءاً منه أو كالجزء "وما كان من المشركين" وهو تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها.

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

124- "إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه" أي إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، أو إنما جعل فرض تعظيم السبت وترك الصيد فيه على الذين اختلفوا فيه لا على غيرهم من الأمم. وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت، فقالت طائفة: إن موسى أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم وأخبرهم بفضيلته على غيره، فخالفوه وقالوا إن السبت أفضل، فقال الله له: دعهم وما اختاروا لأنفسهم. وقيل إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع، فاختلف اجتهادهم فيه، فعينت اليهود السبت لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق، فألزم الله كلاً منهم ما أدى إليه اجتهاده، وعين لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلاً منه ونعمة. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره "وإن ربك ليحكم بينهم" أي بين المختلفين فيه "يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" فيجازي كلاً فيه بما يستحقه ثواباً وعقاباً، كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى.

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال: 125- "ادع إلى سبيل ربك" وحذف المفعول للتعميم لكونه بعث إلى الناس كافة، وسبيل الله هو الإسلام "الحكمة" أي بالمقالة المحكمة الصحيحة، قيل وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين "والموعظة الحسنة" وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها. قيل وهي الحجج الظنية الاقناعية الموجبة للتصديق بمقدمات مقبولة، قيل وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألد إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من الجدل، ولهذا قال سبحانه: "وجادلهم بالتي هي أحسن" أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة، وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً، وكان خصمه مبطلاً وغرضه فاسداً "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله" لما حث سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذلك إليه تعالى فقال: "إن ربك هو أعلم" أي هو العالم بمن يضل ومن يهتدي "وهو أعلم بالمهتدين" أي بمن يبصر الحق فيقصده غير متعنت، وإنما شرع لك الدعوة وأمرك بها قطعاً للمعذرة وتتميماً للحجة وإزاحة للشبهة، وليس عليك غير ذلك.

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ

ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوين بالرجوع إلى الحق فإن أبوا قوتلوا، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال: 126- "وإن عاقبتم" أي أردتم المعاقبة "فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" أي بمثل ما فعل بكم لا تجاوزوا ذلك. قال ابن جرير: أنزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لايتعداها إلى غيرها، وهذا صواب، لأن الآية وإن قيل إن لها سبباً خاصاً كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ، وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي ذكره، وسمى سبحانه الفعل الأول الذي هو فعل البادئ بالشر عقوبة، مع أن العقوبة ليست إلا فعل الثاني وهو المجازي للمشاكلة، وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز. ثم حث سبحانه على العفو فقال: "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" أي لئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل فالصبر خير لكم من الانتصاف، ووضع الصابرين موضع الضمير، ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم، وقيل هي منسوخة بآيات القتال، ولا وجه لذلك.

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ

ثم أمر الله سبحانه رسوله بالصبر فقال: 127- "واصبر" على ما أصابك من صنوف الأذى "وما صبرك إلا بالله" أي بتوفيقه وتثبيته، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء: أي وما صبرك مصحوباً بشيء من الأشياء إلا بتوفيقه لك، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم نهاه عن الحزن فقال "ولا تحزن عليهم" أي على الكافرين في إعراضهم عنك، أو لا تحزن على قتلى أحد، فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله "ولا تكن في ضيق مما يمكرون" قرأ الجمهور بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها. قال ابن السكيت: هما سواء، يعني المفتوح والمكسور. وقال الفراء: الضيق بالفتح ما ضاق عنه صدرك، والضيق بالكسر ما يكون في الذي يتسع مثل الدار والثوب، وكذا قال الأخفش، وهو من الكلام المقلوب، لأن الضيق وصف للإنسان يكون فيه ولا يكون الإنسان فيه، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه، ومعنى مما يمكرون: من مكرهم لك فيما يستقبل من الزمان.

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ

ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: 128- "إن الله مع الذين اتقوا" أي اتقوا المعاصي على اختلاف أنواعها "والذين هم محسنون" بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها، وقيل المعنى: إن الله مع الذين اتقوا الزيادة في العقوبة، والذين هم محسنون في أصل الانتقام فيكون الأول إشارة إلى قوله: "فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" والثاني إشارة إلى قوله " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " وقيل "الذين اتقوا" إشارة إلى التعظيم لأمر الله "والذين هم محسنون" إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود: أنه سئل عن الأمة ما هي؟ فقال: الذي يعلم الناس الخير. قالوا: فما القانت؟ قال: الذي يطيع الله ورسوله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله" قال: كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره، فلذلك قال الله "كان أمة قانتاً لله". وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "كان أمة" قال: إماماً في الخير "قانتاً" قال: مطيعاً. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد تشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم" والأمة الرجل فما فوقه، إن الله يقول: "إن إبراهيم كان أمة" والأمة الرجل فما فوقه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمرو قال صلى جبريل بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به، ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ثم صلى الفجر به كأسرع ما يصلي أحدكم من المسلمين ثم وقف به حتى إذا كان كأبطإ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به، ثم رمى الجمرة ثم ذبح ثم حلق ثم أفاض به إلى البيت فطاف به، فقال الله لنبيه: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً" وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه" قال: أراد الجمعة فأخذوا السبت مكانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في الآية قال: باستحلالهم إياه، رأى موسى رجلاً يحمل حطباً يوم السبت فضرب عنقه: وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم: يعني الجمعة، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس فيه لنا تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد". وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وجادلهم بالتي هي أحسن" قال: أعرض عن أذاهم إياك. وأخرج الترمذي وحسنه وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة في الفوائد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: "لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصبر ولا نعاقب، كفوا عن القوم إلا أربعة". وأخرج ابن سعد والبزار وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حيث استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، ونظر إليه قد مثل به، فقال: رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمت وصولاً للرحم فعولاً للخير، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل "وإن عاقبتم" الآية، فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر". وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وإن عاقبتم" الآية، قال: هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم فهذا منسوخ. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" قال: اتقوا فيما حرم عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم.


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس