islamkingdomfaceBook islamkingdomtwitter islamkingdominstagram islamkingdomyoutube islamkingdomnew

تفسير البيضاوى
13456

14-إبراهيم

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ

وهي آياتها اثنتان وخمسون أية بسم الله الرحمن الرحيم 1."الر كتاب"أي هو كتاب."أنزلناه إليك لتخرج الناس"بدعائك إياهم إلى ما تضمنه ."من الظلمات"من أنواع الضلال ."إلى النور"إلى الهدى ."بإذن ربهم "بتوفيقه وتسهيله مستعار من الاذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وهو صلى "لتخرج"أوحال من فاعله أو مفعوله ."إلى صراط العزيز الحميد"بدل من قوله :"إلى النور"بتكرير العامل أو استئناف على أنه جواب لمن يسأل عنه ، وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له وتخصيص الوصفين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه ولا يخيب سابله.

اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ

2."الله الذي له ما في السموات وما في الأرض"على قراءة نافع وابن عامرمبتدأ وخبر ، أو"الله"خبر مبتدأ محذوف والذي صفته وعلى قراءة الباقين عطف بيان لـ"العزيز"لأنه كالعلم لاختصاصه بالمعبود على الحق ."وويل للكافرين من عذاب شديد"وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور ، والويل نقيض الوأل وهو النجاة ، وأصله النصب لأنه مصدر إلا أنه لم يشتق منه فعل لكنه رفع لإفادة الثبات .

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ

3."الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة"يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها من غيره. "ويصدون عن سبيل الله" بتعويق الناس عن الإيمان .وقرئ"ويصدون"من أصده وهو منقول من صد صدوداً إذا تنكب وليس فصيحاً، لأن في صده مندوحة عن تكلف التعدية بالهمزة "ويبغونها عوجاً" ويبغون لها زيغاً ونكوباً عن الحق ليقدحوا فيه، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير والموصول بصلته يحتمل الجر صفة الكافرين والنصب على الذم والرفع عليه أو على أنه مبتدأ خبره."أولئك في ضلال بعيد"أي ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل ، والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله للمبالغة ، أو لأمر الذي به الضلال فوصف به لملابسته.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

4."وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"إلا بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم . "ليبين لهم"ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر وسرعة ، ثم ينقلوه ويترجموه إلى غيرهم فإنهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم ،ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته أولاًولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز . لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها ، والعلوم المتشبعة منها وما في أتعاب القرائح وكد النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب .وقرئ بلسن وهو لغة فيه كريش ورياش ،ولسن بضمتين وضمة وسكون على الجمع كعمد وعمد.وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى أنزل الكتب كلها بالعربية ، ثم ترجمها جبريل عليه السلام أو كل نبي بلغة المنزل عليهم وذلك ليس بصحيح يرده قوله، "ليبين لهم "فإنه ضمير القوم ، والتوراة والإنجيل ونحوهما لم تنزل لتبين للعرب."فيضل الله من يشاء" فيخذله عن الإيمان ."ويهدي من يشاء"بالتوفيق له ."وهو العزيز"فلا يغلب على مشيئته ."الحكيم"الذي لا يضل ولا يهدي إلا لحكمه.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ

5."ولقد أرسلنا موسى بآياتنا"يعني اليد والعصا وسائر معجزاته ."أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور"بمعنى أن أخرج لأن في الإرسال معنى القول ،أو بأن أخرج فإن صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر فيصح أن توصل بها أن الناصبة ."وذكرهم بأيام الله "بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة وأنام العرب حروبها.وقيل بنعمائه وبلائه." إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " يصبر على بلائه ويشكر على نعمائه ، فإنه إذا سمع بما أنزل على من قبل من البلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر و تنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر . وقيل المراد لكل مؤمن وإنما عبر عنه بذلك تنبيهاً على أن الصبر والشكر عنوان المؤمن.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ

6." وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون "أي اذكروا نعمته عليكم وقت إنجائه إياكم ،ويجوز أن ينتصب بـ"عليكم"إن جعلت مستقرة غير صلة للنعمة ،وذلك إذا أريد به العطية دون الأنعام ،ويجوز أن يكون بدلاً من"نعمة الله"بدل الاشتمال ."يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم "أحوال من آل فرعون ، أومن ضمير المخاطبين والمراد بالعذاب ها هنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والقتل ثمة ومعطوف عليه التذبيح ها هنا ،وهو إما جنس العذاب أو استعبادهم أو استعمالهم بالأعمال الشاقة."وفي ذلكم"،من حيث إنه بإقدار الله إياهم وإمهالهم فيه."بلاء من ربكم عظيم"ابتلاء منه ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء والمراد بالبلاء النعمة.

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ

7."وإذ تأذن ربكم"أيضاً من كلام موسى صلى الله عليه وسلم ، و"تأذن"بمعنى آذن كتوعد وأوعد غير أنها أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة. "لئن شكرتم" يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم من الإنجاء وغيره بالإيمان والعمل الصالح ."لأزيدنكم"نعمة إلى نعمة ."ولئن كفرتم"ما أنعمت عليكم "إن عذابي لشديد"فلعلي أعذبكم على الكفران عذاباً شديداً ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد ، الجملة مقول قول مقدر أو مفعول "تأذن" على أنه جار مجرى قال لأنه ضرب منه.

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ

8."وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً"من الثقلين."فإن الله لغني"عن شكركم "حميد"مستحق للحمد في ذاته ،محمود تحمده الملائكة وتنطق بنعمته ذرات المخلوقات ، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الأنعام وعرضتموها للعذاب الشديد.

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا

9."ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود"من كلام موسى عليه الصلاة والسلام أو كلام مبتدأ من الله " والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله "جملة وقعت اعتراضاً، او الذين من بعدهم عطف على ما قبله ولا يعلمهم اعتراض ، والمعنى أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله ، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كذب النسابون ." جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم "فعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوله تعالى:" عضوا عليكم الأنامل من الغيظ "أو وضعوها عليها تعجباً منه أو استهزاء عليه كمن غلبه الضحك، أو إسكاتاً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ,أمراً لهم بطباق الأفواه أو أشاروا بها إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم :" إنا كفرنا "تنبيهاً على أن لا جواب لهم سواه أو ردوها في أفواه الأنبياء يمنعونهم من التكلم ، وعلى هذا يحتمل أن يكون تمثيلاً .وقيل الأيدي بمعنى الأيادي أي ردوا أيادي الأنبياء التي هي مواعظهم وما أوحي إليهم من الحكم والشرائع في أفواههم ،لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنما ردوها إلى حيث جاءت منع"وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به" على زعمكم" وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه "من الإيمان وقرئ تدعونا بالإدغام ." مريب "موقع في الريبة أو ذي ريبة وهي قلق النفس وان لا تطمئن إلى الشي.

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آ

10."قالت رسلهم أفي الله شك "أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في لمشكوك فيه لا في الشك ، أي إنما ندعوكم إلى الله وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة وظهور دلالتها عليه.وأشاروا إلى ذلك بقولهم "فاطر السموات والأرض"وهو صفة أو بدل ،و"شك"مرتفع لظرف ، "يدعوكم" إلى الإيمان ببعثه إيانا."ليغفر لكم"أو يدعوكم إلى المغفرة كقولك:دعوته لينصرني ،على إقامة المفعول له مقام المفعول به." من ذنوبكم "بعض ذنوبكم وهو ما بينكم وبينه تعالى ، فإن الإسلام يجبه دون المظالم،وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين.ولعل المعنى فيه أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فتتناول الخروج عن المظالم ." ويؤخركم إلى أجل مسمى "إلى وقت سماه الله تعالى وجعله آخر أعماركم "قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا"لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلاً لبعث من جنس أفضل ." تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا "بهذه الدعوى " فأتونا بسلطان مبين "يدل على فضلكم واستحقاقكم لهذه المزية،أو على صحة ادعائكم النبوة كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج واقترحوا عليهم آية أخرى تعنتاً ولجاجاً.

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

11."قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده"سلموا مشاركتهم في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومنه عليهم ، وفيه دليل على أن النبوة عطائية وان ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة الله تعالى. "وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله "أي ليس إلينا الإتيان بالآيات ولا تستبدل به استطاعتنا حتى نأتي بما اقترحتموه ، وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى فيخص كل نبي بنوع من الآيات ."وعلى الله فليتوكل المؤمنون"فلنتوكل عليه في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، عمموا الأمر للأشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً ألا ترى قوله تعالى:

وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

12." وما لنا أن لا نتوكل على الله "أي : أي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه ."وقد هدانا سبلنا"التي بها نعرفه ونعلم أن الأمور كلها بيده . وقرأ أبو عمرو بالتخفيف هاهنا وفي العنكبوت ." ولنصبرن على ما آذيتمونا "جواب قسم محذوف أردوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم ."وعلى الله فليتوكل المتوكلون"فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ

13."وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا " حلفوا على أن يكون أحد الأمرين،إما إخراجهم للرسل أو عودهم إلى ملتهم ، وهو بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم قط ، ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ومن آمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد."فأوحى إليهم ربهم"أي إلى رسلهم."لنهلكن الظالمين"على إضمار القول ، أو إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه .

وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ

14."ولنسكننكم الأرض من بعدهم"أي أرضهم و ديارهم كقوله تعلى : "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها"وقرئ ليهلكن وليسكننكم بالياء اعتباراً لأوحى كقولك : أقسم زيد ليخرجن "ذلك "إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين "لمن خاف مقامي"موقفي وهو الموقف الذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة ، أو قيامي عليه وحفظي لا عمله وقيل المقام مقحم."وخاف وعيد"أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار.

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ

15."واستفتحوا"سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم من الفتاحة كقوله:"ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق"وهو معطوف على"فأوحى"والضمير للأنبياء عليهم الصلاة والسلام .وقيل للكفرة وقيل للفريقين .فإن كلهم سألوه أن ينصر المحق ويهلك المبطل .وقرئ بالفظ الأمر عطفاً على ليهلكن ."وخاب كل جبار عنيد"أي ففتح لهم فأفلح المؤمنون وخاب كل جبار عات متكبر على الله معاند للحق فلم يفلح ، ومعنى الخيبة إذا كان الاستفتاح من الكفرة أو من القبيلين كان أوقع.

مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ

16."من ورائه جهنم "أي من بين يديه فإنه مرصد بها واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة . وقيل من وراء حياته وحقيقته ما توارى عنك ."ويسقى من ماء" عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى " ويسقى من ماء " " صديد" عطف بيان لـ"ماء"وهو ما يسيل من جلود أهل النار .

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ

17."يتجرعه"يتكلف جرعه وهو صفة لماء أو حال من الضمير في "يسقى""ولا يكاد يسيغه"ولا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه بل يغص به فيطول عذابه ، والسوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة وقبول نفس ."ويأتيه الموت من كل مكان"أي أسبابه من الشدائد فتحيط به من جميع الجهات . وقيل من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله ."وما هو بميت"فيستريح"ومن ورائه "ومن بين يديه"عذاب غليظ"أي يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه.وقيل هو الخلود في النار . وقيل حبس الأنفاس .وقيل الآية منقطعة عن قصة الرسل نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنيهم التي أرسل الله تعالى عليهم بدعوة رسوله ، فخيب رجاءهم فلم يسقهم ووعد لهم أن يسقيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار.

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ

18."مثل الذين كفروا بربهم"مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي مثل في الغرابة , أو قوله"أعمالهم كرماد"وهو على الأول جملة مستأنفة لبيان مثلهم .وقيل "أعمالهم"بدل من الـ"مثل "الخبر "كرماد"."اشتدت به الريح"حملته وأسرعت الذهاب به وقرأ نافعالرياح ."في يوم عاصف"العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم:نهاره صائم وليله قائم ، شبه صنائعهم من الصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وعتق الرقاب ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها وذهابها هباء منثوراً ، لبنائها على غير اساس من معرفة الله تعالى والتوجه بها إليه ، أو أعمالهم للأصنام برماد طيرته الريح العاصف ."لا يقدرون "يوم القيامة ."مما كسبوا "من أعمالهم "على شيء"لحبوطه فلا يرون له أثراً من الثواب وهو فذلكة التمثيل."ذلك "إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون ."هو الضلال البعيد"فإنه الغاية في البعد عن طريق الحق.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ

19."ألم تر"خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أمته.وقيل لكل واحد من الكفرة على التلوين."أن الله خلق السموات والأرض بالحق "والحكمة والوجه الذي يحق أن تخلق عليه ، وقرأحمزةو الكسائيخالق السموات "إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد"يعدمكم ويخلق خلقاً آخر مكانكم ، رتب ذلك على كونه خالقاً للسموات والأرض استدلالاً به عليه ، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم ثم كونهم تبديل الصور وتغيير الطبائع قدر أن يبدلهم بخلق آخر ولم يمتنع عليه ذلك كما قال:

وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ

20."وما ذلك على الله بعزيز"بمتعذر أو متعسر فإنه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، ومن كان هذا شأنه كان حقيقاً بأن يؤمن به ويعبد رجاء لثوابه وخوفاً من عقابه يوم الجزاء.

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَر

21."وبرزوا لله جميعاً" أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر الله تعالى ومحاسبته ، أو "لله "على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش وظنون أنها تخفى على الله تعالى ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم وإنما ذكر بلفظ الماضي لتحقق وقوعه، "فقال الضعفاء "الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف الرأي ، وإنما كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة في ميلها إلى الواو ."للذين استكبروا "لرؤوسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم."إنا كنا لكم تبعاً"في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم ، وهو جمع تابع كغائب وغيب ، أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف."فهل أنتم مغنون عنا"دافعون عنا ."من عذاب الله من شيء"من الأولى للبيان واقعة موقع الحال، والثانية للتبعيض وواقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله ،ويجوز أن تكونا للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب الله ، والإعراب ما سبق ويحتمل أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً ، أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء" قالوا "أي الذين استكبروا جواباً عن معاتبة الأتباع واعتذاراً عما فعلوا بهم ."لو هدانا الله" للإيمان ووفقنا له ."لهديناكم"ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم كما عرضناكم له، لكن سد دوننا طريق الخلاص . "سواء علينا أجزعنا أم صبرنا" مستويان علينا الجزع والصبر، " ما لنا من محيص " منجى ومهرب من العذاب، من الحيص وهو العدل على جهة الفرار، وهو يحتمل أن يكون مكاناً كالمبيت ومصدراً كالمغيب، ويجوز أن يكون قوله"سواء علينا "من كلام الفريقين ويؤيده ما روي أنهم يقولون :تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون "سواء علينا".

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا

22."وقال الشيطان لما قضي الأمر "أحكم وفرغ منه ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار خطيبا في الأشقياء من الثقلين ."إن الله وعدكم وعد الحق "وعداً من حقه أن ينجزه أو وعداً أنجزه وهو الوعد بالبعث والجزاء"ووعدتكم "وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب وإن كانا فلأصنام تشفع لكم ."فأخلفتكم"جعل تبين خلف وعده كالاخلاف منه."وما كان لي عليكم من سلطان"تسلط فألجئكم إلى الكفر والمعاصي ."إلا أن دعوتكم "إلا دعائي إياكم إليها بتسويلي وهو ليس من جنس السلطان وكلنه على طريقة قولهم: تحيــة بينهم ضـرب وجيــع ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً ."فاستجبتم لي"أسرعتم إجابتي ."فلا تلوموني "بوسوستي فإن من صرح العداوة لا يلام بأمثال ذلك ."ولوموا أنفسكم "حيث أطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم ، واحتجت المعتزلة بأمثال ذلك على استقلال العبد بأفعاله وليس فيها ما يدل عليه ، إذ يكفي لصحتها أن يكون لقدرة العبد مدخل ما في فعله وهو الكسب الذي يقوله أصحابنا."ما أنا بمصرخكم " بمغيثكم من العذاب ."وما أنتم بمصرخي "بمغيثي وقرأ حمزة بكسر الياء على الأصل في التقاء الساكنين، وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع أن حركة ياء الإضافة الفتح ، فإذا لم تكسر وقبلها ألف فبالحري أن لا تكسر وقبلها ياء ، أو على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى الهاء والكاف في : ضربته ، وأعطيتكه، وحذف الياء اكتفاء بالكسرة ."إني كفرت بما أشركتمون من قبل "ما إما مصدرية و"من" متعلقة أشركتموني أي كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي في الدنيا بمعنى تبرأت منه واستنكرته كقوله:"ويوم القيامة يكفرون بشرككم "أو موصولة بمعنى من نحو ما في قولهم : سبحان ما سخركن لنا، و"من "متعلقة بـ"كفرت"أي كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى بطاعتكم إياي فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام وغيرها من قبل إشراككم ، حين رددت أمره بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام وأشرك منقول من شركت زيداً للتعدية إلى مفعول ثان ."إن الظالمين لهم عذاب أليم" تتمة كلامه أو ابتداء كلام من الله تعالى وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم.

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ

23."وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم"بإذن الله تعالى وأمره والمدخلون هم الملائكة .وقرئ "وأدخل "على التكلم فيكون قوله:"بإذن ربهم"متعلقاً بقوله: "تحيتهم فيها سلام"أي تحييهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربهم .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ

24."ألم تر كيف ضرب الله مثلاً" كيف اعتمده ووضعه."كلمةً طيبةً كشجرة طيبة"أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله"ضرب الله مثلاً" ويجوز أن تكون "كلمة"بدلاً من "مثلاً"و"كشجرة"صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي "كشجرة"، وأن تكون أول مفعولي ضرب أجراء له مجرى جعل وقد قرئت بالرفع على الابتداء . "أصلها ثابت"في الأرض ضارب بعروقه فيها"وفرعها"وأعلاها." في أسماء "ويجوز أن يريد وفروعها أي أفنائها على الاكتفاء بلفظ الجنس لا كتسابه الاستغراق من الإضافة .وقرئ ثابت أصلها والأول على أصله ولذلك قيل إنه أقوى ولعل الثاني أبلغ.

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

25."تؤتي أكلها"تعطي ثمرها."كل حين"وقته الله تعالى لإثمارها."بإذن ربها"بإرادة خالقها تكوينه ."ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون"لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير ، فإنه تصوير للمعاني وإدناء من الحس .

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ

26."ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة" كمثل شجرة خبيثة" اجتثت " استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية ."من فوق الأرض" لأن عروقها قريبة منه. "ما لها من قرار"استقرار . واختلف في الكلمة الخبيثة والشجرة ففسرت الكلمة الطيبة : بكلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن ، والكلمة الخبيثة بالشرك بالله تعالى والدعاء إلى الكفر تكذيب الحق، ولعل المراد بهما ما يعم ذلك فالكلمة الطيبة ما أعرب عن حق أودعا إلى صلاح ، والكلمة الخبيثة ما كان على خلاف ذلك وفسرت الشجرة الطيبة بالنخلة . وروي ذلك مرفوعا وبشجرة في الجنة ،والخبيثة بالحنظلة والكشوث ، ولعل المراد بهما أيضاً ما يعم ذلك .

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ

27." يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت "الذي ثبت الحجة عندهم وتمكن في قلوبهم"في الحياة الدنيا"فلا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا ويحيى عليهما السلام وجرجيس وشمعون والذين فتنهم أصحاب الأخدود."وفي الآخرة"فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف، ولا تدهشهم أهوال يوم القيامة."وروي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال: ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك؟وما دينك؟ ومن نبيك؟فيقول :ربي الله وديني الإسلام ،ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي" فذلك قوله:"يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت"."ويضل الله الظالمين"الذين ظلموا أنفسهم بالاقتصار على التقليد فلا يهتدون إلى الحق ولا يثبتون في مواقف الفتن."ويفعل الله ما يشاء"من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ

28." ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا "أي شكر نعمته كفراً بأن وضعوه مكانه ، أو بدلوا نفس النعمة كفراً، فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها كأهل مكة ، خلقهم الله تعالى ,وأسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته ووسع عليهم أبواب رزقه وشرفهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر وصاروا أذلاء ، فبقوا مسلوبي النعمة وموصوفين بالكفر ، وعن عمر وعلي رضى الله تعالى عنهما: هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ."وأحلوا قومهم"الذين شايعوهم في الكفر . "دار البوار"دار الهلاك بحملهم على الكفر.

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ

29."جهنم "عطف بيان لها."يصلونها"حال منها أو من القوم ،أي داخلين فيها مقاسين لحرها، أو مفسر لفعل مقدر ناصب لجهنم."وبئس القرار"أي وبئس المقر جهنم.

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ

30."وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله "الذي هو التوحيد .وقرأ ابن كثر وأبو عمرو و رويس عن يعقوب بفتح الياء ، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض ."قل تمتعوا"بشهواتكم أو بعبادة الأوثان فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها، وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به ، وأن الأمرين كائنان لا محالة ولذلك علله بقوله: "فإن مصيركم إلى النار"وأن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من أمر مطاع.

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ

31."قل لعبادي الذين آمنوا "خصهم بالإضافة تنويهاً لهم وتنبيهاً على أنهم المقيمون لحقوق العبودية ،ومفعول"قل"محذوف يدل عليه جوابه : أي قل لعبادي الذين أمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا "يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم"فيكون إيذاناً بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره ، وأنه كالسبب الموجب له ، ويجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما وإنما حسن ذلك ها هنا ولم يحسن في قوله: محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا لدلالة قل عليه. وقيل هما جوابا أقيموا أنفقوا مقامين مقامهما، وهو ضعيف لأنه لا بد من مخالفة ما بين الشرط وجوابه ولأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحداً "سراً وعلانيةً"منتصبان على المصدر أي إنفاق سر وعلانية ، أو على الحال أي ذوي سر وعلانية ، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية ، والأحب إعلان الواجب وإخفاء المتطوع به ، "من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه"فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصره أو يفدي به نفسه ."ولا خلال"ولا مخالة فيشفع لك خليل، أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى.وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوببالفتح فيهما على النفي العام .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ

32."الله الذي خلق السموات والأرض"مبتدأ وخبره "وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم"تعيشونه وهو يشمل المطعوم والملبوس مفعول لأخرج و"من الثمرات"بيان له وحال منه ويحتمل عكس ذلك ويجوز أن يراد به المصدر فينتصب بالعلة ، أو المصدر لن أخرج في معنى رزق."وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره"بمشيئته إلى حيث توجهتم ."وسخر لكم الأنهار"فجعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم وقيل تسخير هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها .

وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ

33."وسخر لكم الشمس والقمر دائبين"يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاح ما يصلحانه من المكونات. "وسخر لكم الليل والنهار"يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم.

وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ

34."وآتاكم من كل ما سألتموه"أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئاً ، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى، ولعل المراد بـ"ما سألتموه"ما كان حقيقاً بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل ، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول .وقرئ"من كل"بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، ويجوز أن تكون ما نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه ." وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلاً عن أفرادها ، فإنها غير متناهية . وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة ."إن الإنسان لظلوم"يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو يظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان ."كفار"شديد الكفران . وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ

35."وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد"بلدة مكة "آمناً"ذا أمن لمن فيها ،والفرق بينه وبين قوله:"اجعل هذا بلداً آمناً"أن المسؤول في الأول إزالة الخوف عنه وتصييره آمناً، وفي الثاني جعله من البلاد الآمنة."واجنبني وبني " بعدين و إياهم ، "أن نعبد الأصنام "واجعلنا منها في جانب وقرئ" واجنبني"وهما على لغة نجد وأما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره ، وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم وهو بظاهره ، لا يتناول أحفاده وجميع ذريته ،وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام لم يعبدوا الصنم محتجاً به وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمونها الدوار ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلته.

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

36."رب إنهن أضللن كثيراً من الناس "فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهم باعتبار السببية كقوله تعالى : "وغرتهم الحياة الدنيا".."فمن تبعني"على ديني ."فإنه مني"أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين. "ومن عصاني فإنك غفور رحيم"تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء ، او بعد التوفيق للتوبة.وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره حنى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره .

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ

37."ربنا إني أسكنت من ذريتي "أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ."بواد غير ذي زرع"يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت."عند بيتك المحرم"الذي حرمت التعرض له والتهاون به ، أو لم يزل معظماً ممنعاً يهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقاً أي اتق منه . ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه .روي أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل عليه السلام ، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله عين زمزم ، ثم إن جرهم رأوا ثم طيوراً فقالوا لا طير إلا على الماء فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا اشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت "ربنا ليقيموا الصلاة "اللام لام كي وهي متعلقة بـ"أسكنت"أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كمل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم .وتكرير النداء وتوسيطه للاشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها. وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها."فاجعل أفئدة من الناس"أي أفئدة من افئدة الناس، و"من "للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى، أو بالابتداء كقولك : القلب مني سقيم أي أفئدة ناس. وقرأ هشام أفيدة بخلف عنه بياء بعد الهمزة ,وقرئ آفدة وهو يحتمل أن يكون مقلوب أفئدة كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم وأفدة بطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه فيه إخراجهما بين بين ويجوز أن يكون من أفد"تهوي إليهم"تسرع إليهم شوقاً ووداداً وقرئ تهوى على البناء للمفعول أهوى إليه غيره وتهوى من هوى يهوي إذا أحب ، وتعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع. "وارزقهم من الثمرات"مع سكناهم وادياً لا نبات فيه."لعلهم يشكرون"بتلك النعمة، فأجاب الله عز وجل دعوته فجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد.

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ

38."ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن"تعلم سرنا كما تعلم علننا، والمعنى إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب لكنا ندعوك إظهاراً لعبوديتك وافتقاراً إلى رحمتك واستعجالاً لنيل ما عندك .وقيل ما نخفي من وجد الفرقة وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك ، وتكرير النداء للمبالغة في التضرع و اللجأ إلى الله تعالى "وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء"لأنه العالم بعلم ذاتي يستوي نسبته إلى كل معلوم ، ومن للاستغراق.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ

39."الحمد لله الذي وهب لي على الكبر"أي وهب لي وأنا كبير آيس من الولد ، قيد الهبة بحال الكبر استعظاماً للنعمة وإظهار لم فيها من آلائه ."إسماعيل وإسحاق"روي أنه ولد له إسماعيل لتسع و تسعين سنة وإسحاق لمائة واثنتي عشرة سنة."إن ربي لسميع الدعاء"أي لمجيبه من قولك سمع الملك كلامي إذا اعتد به ،وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تتعالى على المجاز ، وفيه إشعار بأنه دعا ربه وسأل منه الولد فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون من أجل النعم وأجلاها.

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ

40."رب اجعلني مقيم الصلاة "معدلاً لها مواظباً عليها."ومن ذريتي " عطف على المنصوب في"اجعلني"،والتبعيض لعلمه بإعلام الله أو استقراء عادته في الأمم الماضية أن يكون في ذريته كفار ."ربنا وتقبل دعاء"واستجب دعائي أو وتقبل عبادتي.

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ

41."ربنا اغفر لي ولوالدي"وقرئ ولأبوي ، وقد تقدم عذر استغفار لهما. وقيل أراد بهما آدم وحواء ."وللمؤمنين يوم يقوم الحساب"يثبت مستعار من القيام على الرجل كقولهم : قامت الحرب على ساق ، أو يقوم إليه أهله فحذف المضاف أو أسند إليه قيامهم مجازاً.

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ

42."ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون"خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به تثبيته على ما هو عليه من أنه تعالى مطلع على أحوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه خافية ، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة ، أو لك من توهم غفلته جهلاً بصفاته واغتراراً بإمهاله ،وقيل إنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ."إنما يؤخرهم"يؤخر عذابهم وعن أبي عمروبالنون ."ليوم تشخص فيه الأبصار "أي تشخص فيه أبصارهم فلا تقر في أماكنها من هول ما ترى.

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ

43."مهطعين"أي مسرعين إلى الداعي، أو مقبلين بأبصارهم لا يطوفون هيبة وخوفاً ، وأصل الكلمة هو الإقبال على الشيء ."مقنعي رؤوسهم"رافعيها"لا يرتد إليهم طرفهم"بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف، أولا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم ."وأفئدتهم هواء"خلاء أي خالية عن الفهم لفرط الحيرة والدهشة ، ومنه يقال للأحمق وللجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة قال زهير: من الظلمان جؤجؤه هواء وقيل خالية من الخير خاوية من الحق.

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ

44."وأنذر الناس"يا محمد ."يوم يأتيهم العذاب "يعني يوم القيامة ، أو يوم الموت فإنه أول أيام عذابهم، وهو مفعول ثان لـ"أنذر"."فيقول الذين ظلموا"بالشرك والتكذيب ،"ربنا أخرنا إلى أجل قريب"أخر العذاب عنا أو ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك ."نجب دعوتك ونتبع الرسل"جواب للأمر ونظيره "لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين"" أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال "على إرادة القول و"مالكم"جواب القسم جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية ، والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت ، ولعلهم أقسموا بطراً وغروراً أو دل عليه حالهم حيث بنوا شديداً وأملوا بعيداً .وقيل أقسموا أنهم لا ينتقلون إلى دار أخرى وأنهم إذا ماتوا لا يزالون على تلك الحالة إلى حالة أخرى كقوله:"وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ".

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ

45."وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم"بالكفر والمعاصي كعاد وثمود ، وأصل سكن أن يعدى بفي كقر وغني وأقام ، وقد يستعمل بمعنى التبوء فيجري مجراه كقولك سكنت الدار."وتبين لكم كيف فعلنا بهم"بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم ."وضربنا لكم الأمثال"من أحوالهم أي بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ

46."وقد مكروا مكرهم"المستفرغ في جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل ."وعند الله مكرهم "ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه، أو عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالاً له ."وإن كان مكرهم "في العظم الشدة ."لتزول منه الجبال"مسوى لإزالة الجبال.وقيل إن نافية وللام مؤكدة لها كقوله:"وما كان الله ليعذبهم"على أن الجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه .وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتاً وتمكناً من آيات الله تعالى وشرائعه . وقرأالكسائيلتزول الفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة ، ومعناه تعظيم مكرهم ، وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ وإن كاد مكرهم.

فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ

47."فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله"مثل قوله: "إنا لننصر رسلنا""كتب الله لأغلبن أنا ورسلي"وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذاناً بأنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله:"إن الله لا يخلف الميعاد"وإذا لم يخلف وعده أحداً فكيف يخلف رسله ."إن الله عزيز" غالب لا يماكر قادر لا يدافع ."ذو انتقام"لأوليائه من أعدائه.

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ

48."يوم تبدل الأرض غير الأرض"بدل من "يوم يأتيهم"أو ظرف للانتقام ، أو مقدر باذكر أو لا يخلف وعده .ولا يجوز أن ينتصب بمخلف لأن ما قبل أن لا يعمل فيما بعده . "والسموات"عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات ، والتبديل يكون في الذات كقولك : بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله:"بدلناهم جلوداً غيرها"وفي صفة كقولك بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وغيرت شكلها، وعليه قوله: "يبدل الله سيئاتهم حسنات"والآية تحتملهما، فعن علي رضي الله تعالى عنه : تبدل أرضاً من فضة وسموات من ذهب ، وعن ابن مسعود وأنس رضي الله تعالى عنهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي تلك الأرض وإنما تتغير صفاتها. ويدل عليه ما روي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه "أنه عليه الصلاة والسلام قال:تبدل الأرض غير الأرض فتبسط وتمد مد الأديم العكاظي" " لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً" واعلم أنه لا يلزم الوجود الأول أن يكون الحاصل بالتبديل أرضاً وسماء على الحقيقة و ولا يبعد على الثاني أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة على ما أشعر به قوله تعالى :"كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين "وقوله : "إن كتاب الفجار لفي سجين"."وبرزوا"من أجداثهم "لله الواحد القهار"لمحاسبته ومجازاته ، وتوصيفه بالوصفين لدلالة على أن الأمر في غاية الصعوبة كقوله: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار"فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار.

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ

49."وترى المجرمين يومئذ مقرنين"قرن بعضهم بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال كقوله:"وإذا النفوس زوجت"أو قرنوا مع الشياطين أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة والملكات الباطلة ، أو قرنت أيدينهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال ،وهو يحتمل أن يكون تمثيلاً لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم."في الأصفاد"متعلق ب"مقرنين"أوحال من ضميره ، والصفد القيد. وقيل الغل قال سلامة بن جندل : وزيد الخيل قد لاقى صفاداً يعض بساعد وبعظم ساق وأصله الشد.

سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ

50."سرابيلهم "قمصانهم ."من قطران" وجاء قطران لغتين فيه،وهو ما يتحلب من الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحدته ،وهو أسود منتن تشتعل فيه النار بسرعة تطلى به جلود أهل النار حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص ، ليجتمع عليهم لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريح مع إسراع النار في جلودهم ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ، ويحتمل أن يكو تمثيلاً لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديئة والهيئات الوحشية فيجلب إليها أنواعاً من الغموم والآلام ، وعن يعقوبقطرآن القطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره ، والجملة حال ثانية أو حال من الضمير في "مقرنين"."وتغشى وجوههم النار "وتتغشاها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله ، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات ونظيره قوله تعالى : "أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة"وقوله تعالى: "يوم يسحبون في النار على وجوههم "

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

51."ليجزي الله كل نفس "أي يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة ."ما كسبت"أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا تبين أن المجرمين يعاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم، ويتعين ذلك أن علق اللام بـ"برزوا"."إن الله سريع الحساب"لأنه لا يشغله حساب عن حساب .

هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ

52."هذا "إشارة إلى القرآن أو السورة أو مافية العظة والتذكير أو ما وصفه من قوله: "ولا تحسبن الله"."بلاغ للناس"كفاية لهم في الموعظة ."ولينذروا به"عطف على محذوف أي ليصحوا ولينذروا بهذا البلاغ ، فتكون اللام متعلقة بالبلاغ ،ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره :ولينذروا به أنزل أو تلي : وقرئ بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعد له . "وليعلموا أنما هو إله واحد" بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه أو المبهة على ما يدل عليه "وليذكر أولو الألباب"فيرتدعوا عما يرديهم ويتدرعوا بما يحظيهم ، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب ، تكميل الرسل للناس، واستكمال القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد ، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى ، جعلنا الله تعالى من الفائزين بهما ."وعن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبدها."


1-الفاتحة 2-البقرة 3-آل-عمران 4-النساء 5-المائدة 6-الأنعام 7-الأعراف 8-الأنفال 9-التوبة 10-يونس 11-هود 12-يوسف 13-الرعد 14-إبراهيم 15-الحجر 16-النحل 17-الإسراء 18-الكهف 19-مريم 20-طه 21-الأنبياء 22-الحج 23-المؤمنون 24-النور 25-الفرقان 26-الشعراء 27-النمل 28-القصص 29-العنكبوت 30-الروم 31-لقمان 32-السجدة 33-الأحزاب 34-سبأ 35-فاطر 36-يس 37-الصافات 38-ص 39-الزمر 40-غافر 41-فصلت 42-الشورى 43-الزخرف 44-الدخان 45-الجاثية 46-الأحقاف 47-محمد 48-الفتح 49-الحجرات 50-ق 51-الذاريات 52-الطور 53-النجم 54-القمر 55-الرحمن 56-الواقعة 57-الحديد 58-المجادلة 59-الحشر 60-الممتحنة 61-الصف 62-الجمعة 63-المنافقون 64-التغابن 65-الطلاق 66-التحريم 67-الملك 68-القلم 69-الحاقة 70-المعارج 71-نوح 72-الجن 73-المزمل 74-المدثر 75-القيامة 76-الإنسان 77-المرسلات 78-النبأ 79-النازعات 80-عبس 81-التكوير 82-الانفطار 83-المطففين 84-الانشقاق 85-البروج 86-الطارق 87-الأعلى 88-الغاشية 89-الفجر 90-البلد 91-الشمس 92-الليل 93-الضحى 94-الشرح 95-التين 96-العلق 97-القدر 98-البينة 99-الزلزلة 100-العاديات 101-القارعة 102-التكاثر 103-العصر 104-الهمزة 105-الفيل 106-قريش 107-الماعون 108-الكوثر 109-الكافرون 110-النصر 111-المسد 112-الإخلاص 113-الفلق 114-الناس